صحيفة المثقف

معمار الخارج نصي اليوتوبيا منالا واستحالتها مآلا

saad yassinyousufقراءة في مجموعة أشجار خريف موحش للشاعر د. سعد ياسين يوسف

الخارج نصي العنوان والغلاف وتوابعهما كمتعاليات نصية

الخارج نصي بناء معماري يهندس بنية النص الشعري ليندرج في خانة المتعاليات النصّية: TRANS TEXTUALITY و"هي كل ما يجعل نصّاً يتعالق مع نصوص أخرى، بشكل ضمني أو مباشر. وقد خصص لها جيرار جينيت كتاباً بأكمله سماه: PALIM PSESTES. SEUIL. PARIS 1983 حدد فيه أنماط (المتعالقات النصّية) "     

وهذا التشكيل البنائي بمستوياته وعلاقاته إنما يقوم على الترصيف الكلامي والتنضيد الجملي والاصطفاف اللفظي للعبارات والانتقاء الترميزي للعلامات والإشارات.. فضلا عن اعتماد التناصات الجديدة من نصوص سابقة أو معاصرة وهندسة فضاء الصفحة متنا وحاشية فراغا وتأثيثا عتبة وإفضاء تموضعا وتمظهرا استهلالا وهامشا ليغدو النّص الخارج نصي" خلاصة لعدد من النصوص التي تمحى الحدود بينها.

والطبيعة القرائية لهذه المتعاليات النصية إنما تقوم على أساس الاستعمال الإجرائي السيميائي بغية الكشف" عن نظام العلامات في هذا النص على أساس أنها قائمة بذاتها فيه؛ لا مجرد وسيط عبثيّ؛ وذلك بتعرية البنية الفنية لـه بصَهْرها في بوتقات التشاكل والتباين، والتناصّ والتقاين (أو التماثل)، والانزياح الذي يزيح الدلالة عن موضعها الذي وُضعت فيه، أو لـه في أصل المعاجم، ويمنحها خصوصيّة دلالية جديدة هي التي يحمّلها المبدع في لغته؛ وذلك بتوتير الأسلوب، وتفجير معاني اللغة، وتخصيب نسوجها..."

وفي مجموعته الشعرية (أشجار خريف موحش) يتوجس الشاعر الدكتور سعد ياسين يوسف من يوتوبيا ممكنة تتواجد بين ما مطلوب مناله وما مرجو مآله في ظل عالم صعب يعكر صفو الطبيعة بتفاصيلها كلها فتتشوه صورتها المثالية لتغدو متزينة بالأوشحة السوداوية حيث مشاهد الدم والقتل والترويع والعنف.

وبهذا التجسيد المأساوي ـ الذي غالبا ما يصطدم به الشعراء الرومانسيون ـ يستحيل نيل اليوتوبيا لتتحول من كونها يوتوبيا متاحة منالا إلى يوتوبيا مستحيلة مآلا .

ويتضح هذا التجسيد بدءا من عتبة الإهداء حيث اليوتوبيا حاضرة منالا بالربيع المبهج ومستحيلة مآلا بالرصاص الذي أشرع له الآخرون صدورهم فكان المتحقق من هذين التقابلين الصوريين مؤسلبا فقد غدا الربيع خريفا وصارت البهجة وحشا:

(إلى الذين اشرعوا صدورهم

للرصاص

أملا بربيع مبهج

ولم يكن سوى

خريف موحش)

ومما عزز فحوى هذا المنظور الغلاف الأمامي الذي جاء بالقطع المتوسط وقد انقسم إلى منطقتين النصف الأعلى منها انقسم بدوره إلى قسمين تقاسمتهما ثلاث وريقات تين متهاوية كدلالة على نهاية المآل بالخريف حيث الذبول والسقوط والانحدار وفي استعارة مكنية للكل /الأشجار بالجزء/ الأوراق.

وقد حلت أبنية صلدة جامدة محل الأشجار وتكدس بعضها فوق بعض في دلالة على أن الحياة التي كانت تغص بالأشجار قد غادرت وحلَّ محلها الموت والجمود وقد عضد اللون الأصفر البني هذا التوجس.

واحتل اللون الأخضر المزرق الربع الأخير من صفحة الغلاف الأمامي وشغل كلية الغلاف الخلفي بما يدلل على أن محصلة الاصفرار الخريفي وقتامة الإحساس به هي بمثابة التأكيد للوحشة الشتائية التي ضاعت فيها مباهج اللقاء والألفة.

وفي الغلاف الأمامي كُتب العنوان أشجار خريف موحش باللغتين العربية بخط أحمر والانكليزية بخط اخضر براق وفوقهما كتب اسم الشاعر بلون برتقالي وبحجم اصغر من حجم العنوان.

وتضمن الغلاف ما قبل الخلفي للمجموعة التي بلغ عدد صفحاتها 140 صفحة إصدارات الشاعر مع تنويه إلى أن الغلاف الأمامي من تصميم الفنان التشكيلي د. صبيح كلش

أما الغلاف الخلفي فطغى عليه اللون الأخضر المزرق كدلالة على الوحشة والهيام وقد تصدرت صورة الشاعر الجزء الأعلى منه وتحتها سيرة الشاعر الذاتية ومؤلفاته وقد كتبت باللغة الانكليزية.

وأسهمت النصوص العشرون التي ضمتها المجموعة في تعزيز هذا التصور الرومانسي لتلك اليوتوبيا الضائعة التي جمعها قاسم رؤيوي مشترك هو البكاء رثاء وترتيلا والرماد لونا وتحصيلا والنعي موتا واستغاثة والتوجس انكسارا وذبولا.

وقد عضد هذا القاسم قاسم صوتي مشترك تمثل في البناء التفعيلي للنصوص إيقاعا وموسيقى كما كانت الاستعانة باللغة الانكليزية في إعادة كتابة قصيدة أشجار خريف موحش دون سائر النصوص الأخرى نوعا من التشكيل الصوتي المعزز للمنظور الرومانسي الذي اختلج حواس الشاعر.

وقد تضمن معمار هذه النصوص اهداءات وحواشي هي بمثابة تعالقات نصية مع مرجعيات ثقافية سابقة فقصيدة (غربة نورس الصباح) مثلا استهلت بإهداء: (إلى: رفيق طفولتي صباح سعيد) وذيلت بحاشية وضحت بعض أسماء الأماكن ومعاني ألفاظ وردت في متن القصيدة وقد وضعت في المتن نجمات صغيرة كإشارات إحالية على تلك الحاشية، ناهيك عن قصدية الضبط بالشكل لكلمات بعينها وعلى طول النصوص وعرضها... والفراغ الذي فصل بين العنوان الرئيس والمتن الشعري وبما يعكس المنحى الشعوري الاغترابي..

وتضمن هامش قصيدة (ترتيلة لدمشق) احالتين استرجع فيها مفهوم باب الكعبة وانه اسم من أسماء دمشق كما استعملت الأقواس في المتن كإحالة إشارية على التناص الشعري مع بيت محيي الدين بن عربي:

(قف بالمنازل واندب الاطلالا     وسل الربوع الدارسات سؤالا)

وقد توضع الإشارة الاحالية في العنوان نفسه لا في المتن كما في نص (بخور الأمهات) وجاء في الحاشية إهداء الى (الصباح السعيد في غربته) وبما يعيد الى الذهن ان المهدي إليه هو صباح سعيد..

وأهدى قصيدة (جمر الكلمات) إلى شاعرة كرواتية اسمها سوزانا اوشتريتش جاعلا من الإهداء استهلالا لها مع حاشية تذييلية تحيل على معنى أسماء مدن كرواتية

وتحفل النصوص جميعها بقصدية توزيع السواد والبياض على سطح الصفحة الواحدة مع توظيف العلامات الكتابية كالحذف والفوارز والنقاط وأقواس التنصيص والتعجب والاستفهام .

فأما علامات الحذف التي جاءت على شكل نقاط متتابعة قد تشمل سطرا أو سطرين أو أكثر؛ فان الغاية منها تحريك مخيلة للقارئ كإشارة غير مباشرة إلى انفتاح النص ففي قصيدة (مرثية لسائق الغمام):

 

(أسنان النسيان،

يلقيها

خلف تلال الخوف..

................

...............

تكاثر فينا المحل)

 

   نجد النقاط تلقي على قارئها تحديا نحويا أولا ودلاليا ثانيا كون الفاعل للفعل يلقي الذي هو فعل متعدٍ بنفسه محذوف إذ: من الذي يلقي بوحشة النسيان خلف تضاريس قاسية من العزلة والاكتئاب؟ وأين سيلقى بها ؟ وما على القارئ إلا التفكير في الإجابة عن هذين السؤالين اللذين تركهما الشاعر مفتوحين بغية ملء الفراغات المحذوفة مستعينا بذخيرته القرائية ومخزونه المرجعي الثقافي..

وفي قصيدة (من مقام الخسارات) ترد نقاط الحذف اثنتا عشرة مرة وتتوالى في القصيدة نفسها الاستفهامات بصورة تستفز قارئها وقد شغلت احد عشر سطرا من مجموع اثنين وستين سطرا فضلا عن علامات التعجب كما في السطر الآتي:

خساراتي ... نسيت!!! وكذلك في السطر: خريف موحش !!!، في دلالة واضحة على التأزم الشعوري إزاء مفردة خسارة تاركا للقارئ اختيار العبارة الملائمة:

 

(فإذا ألقيت بنفسي

كيف أعود؟)

.. .. ..

فقد يكون الجواب لا أعود أو لا ادري أو لن أعود ليبقى الباب مفتوحا للتأويل. وقد يبدو الجواب بعد (لا) مفتوحا من خلال النقاط التي ترد بعدها كما في نص(اغنية من رأى):

لا.............

لا ............

وتتكرر ال(لا) الناهية ثمان مرات في نص (دم الكرستال) ثم تتكرر (به) أربع مرات و(قبل) مرتين، وتأتي نقاط الحذف في المشهد الحواري الآتي:

 

(قال:" فألقِ"

.... ..)

كإحالة دلالية تستدعي القصة القرآنية عن موسى عليه السلام وعصاه التي ألقاها وقد كرر الشاعر القول ثانية وثالثة ليكون الجواب (ليس لي غيرك)

وقد توظف أقواس التنصيص كما في " عكد التوراة" للإشارة إلى أن هذه الكلمات مستدعاة من موقف ما ؛ أو أنها متناصة مع آيات أو أشعار أو أساطير أو حكايات وتتكرر في قيامة بابل يا النداء أكثر من عشرين مرة

وللتكرار وظيفة تأويلية أيضا فمثلا أن تكرار كلمة (نقالات) خمس مرات في قصيدة (شجر الموت) جنبا الى جنب نقاط الحذف المتتالية قد أكد الخيط الرابط بين معاني: الموت والمرض والعجز والانهيار والضعف ووضع الأقواس الكبيرة حول كلمات مثل (أركانه وسوق السمارين) ندليل كتابي على تخصيص معنوي معين وقد يعمد الشاعر إلى استعمال النقاط بعد كلمتي العنوان كما في قصيدة (شجرة النزول ......) بما يعني أن العنوان غير مكتمل وفيها تكثر الحوارات بالشارحة التي تسبق الفعل قال والنقطتين الرأسيتين بعده:

 

(قال: اخترتكِ شاهده

عفوك.......

ـ شاهدة الوأد؟ !! الطلقات إذا ما مرت )

 

وفي قصيدة (الهاجس) تستعمل النجمات كفواصل مقطعية تقسم النص إلى أربعة مقاطع ونلحظ ان علامتي الاستفهام في نص (آه لو تعلم ؟؟) إنما وضعتا لتغيب المخاطب ولنعلم من احد السطور في المتن أن المخاطب ليس مذكرا بل مؤنثا ليكون المحذوف من بنية العنوان الرئيس حرفان (آه لو تعلمين) وإما وضع علامتي الاستفهام في العنوان فكان بمثابة بديل كتابي عن الحرفين المحذوفين:

(من يدركني ؟

من يمسح حزني؟

غيرك يا سيدتي

وحدك)

 

الخارج نصي الهيمنة اللفظية كفاعل دلالي

للهيمنة مدلولات عدة منها التمركز اللفظي والإيحاء الدلالي والتوطن المعنوي وامتلاك الفضاء الكتابي على سطح الورقة ولهذه الهيمنة فاعلية سيميائية تفتح آفاق التأويل باتجاه العنونة والمتن والهامش متفحصة السطور ومستجلية ما فيها من الصور والرموز والإشارات كشفا وبوحا واستنطاقا.

وعادة ما ترافق فاعلية تحريك المخيلة القرائية قصدية التدليل بحثا عن التقاطعات والتقابلات والاحتجاج على مكنونات البوح الشعري دالا ومدلولا.

وإذا كان العنوان" مجموعة العلامات اللسانية من كلمات وجمل وحتى نصوص قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه تشير لمحتواه الكلي ولتجذب جمهوره المستهدف" فان تموضع العنوان كعتبة نصية إنما حقق تمويها دلاليا ونبدأ من قصيدة التفعيلة التي اختيرت عنوانا رئيسا للمجموعة كلها (أشجار خريف موحش) إذ تفرض لفظتا البحر والدم هيمنة معنوية لترسما مشهد المأساة الموجع في حركة دائرية متموجة بما يشبه حركة البحر في تموجه فهي تنتهي من حيث تبتدئ وتبتدئ من حيث تنتهي...

وعلى الرغم من ان غياب اللمحة الانزياحية للصورة الشعرية في إسناد الأشجار إلى الخريف إسنادا لغويا إلا إن مجيء الصفة (موحش) أعطى ذلك الإسناد انزياحا تشخيصا ليطفو على بناء القصيدة كلها وقد ساعد التوظيف العلاماتي المتمثل بتكرار علامة التعجب على تحقيق ذلك:

أشجار

خريف موحش!!!!

 

وبذلك تمتزج بنية المتن الشعري مع بنية العنوان لتصيرا كيانا واحدا ولكنه مركب دلالة وحركة زمانا ومكانا:

(عند ضياء

يوصف "فجرا"

وصلنا كتف كتاب البحر)

فالزمان/ الفجر يتماهى شعوريا مع المكان /البحر ليرسما مشهدا وجدانيا للبداية الانطلاق لكن المفارقة أن تلك البداية ليست للحياة بل هي بداية لكل ما هو مأساوي حيث الدم والتحطم والذبح والكذب:

( نثار زوارقنا يطفو خشبا أدماه الموج،

رؤوس الأطفال المذبوحين

بنهم نبي كاذب)

 

وتتوالى الألفاظ المتعالقة مع ذلك المشهد المنزوع من الحياة انتزاعا والبائس استلابا وهزيمة فلا الشمس تترك في الموجودات لونا ولا الأزهار تمتلئ نضارة ولا النخل يزهو شامخا ولا الفراشات مضاءة:

(أقلام الخشب المسلوبة لون الشمس

أزهارا يبست

صورا للنخل الواقف

ثملا.. فوق الجرف

يلوح لضفاف أخرى

     فراشات .. فقدت ضوء اللون)

 

وقد أضفى تتابع متعالقات البحر(الضفاف، الجرف، الأمواج، الشاطئ، النوارس،الشمس، اليمامات) وطبيعة الإيقاع التفعيلي؛ تماسكا ووحدة لتصب الصور جميعها في بوتقة واحدة تحكي قتامة المأساة الممزوجة ببكاء رومانسي شفيف ومنها صورة الوقت وقد غدا هيكلا مسلوخا وكيانا مشوها:

(عظام الوقت،

آذانا..مقطوعة..ووشوم هزيمة

كتف الشاطئ يبكي)

...   ...

وتمركز ألفاظ(الفقد والبكاء واليباس والقطع والتسمر) في قلب المشهد المأساوي اعطى انطباعا رؤيويا أن لا حياة تنتظر الموجودات فكلها دفعت الثمن وهنا تظهر الذات المتكلمة/ الأنا لتعبر عن شعورها السلبي ووحشتها وخاصة البحر الذي هو مركز الوجود لا بإزاء ما حولها حسب بل بإزاء نفسها أيضا:

 

( أرخيت لخطوي حبل الوصل

تسمرت

رميت بساعة ثكلي البحر،

ومضيت ..

أداعب

زغب الوحشة فيَّ)

 

وتتصاعد الأحاسيس السوداوية بوجد شاعري يمنح المشهد المأساوي مزيدا من القتامة والرعب فللموت سعاة بريد وهم بمعاطفهم السود يرفعون سارية مجهولة وقد امتزج فيهم الزيت بالدماء والطين والدخان وما هؤلاء السعاة إلا قراصنة يغتالون الحياة تاركين الزمن خريفا والحلم رمادا:

(سعاة بريد الموت

مازالوا

بمعاطف غيم اسود

رفعوا سارية

أدماها الطين الممزوج

بزيت الرغبات)

 

ولذلك كله ما عادت الحياة حانية ولا الربيع مزهرا فقد نضب الماء واستبدل بالدم وتحول الغيم قشا والأشجار رمادا وأغصانها وحشة وحلَّ الخريف موحشا بلا خضرة والجرار فارغة إلا من الوجع والخوف والانكسار والتشظي:

 

(أشجار

كف النسغ الصاعد فينا

أن يخضر ويمنح ألوانه

أغصان الوحشة

...

...

بالأجنحة المتكسرة

بأغان.. يتشظى الصوت

إذا غنتها النايات

بنهارات ربيع

أضحت

أشجار

خريف موحش!!!)

 

وفي قصيدة (قبل أن يلقي إلى البحر شراعه) نجد البحر فاعلا دلاليا يتحرك بأفق مفتوح في إطار بناء سردي بصيغة استرجاع لماض جميل فيه الطفل رمز الربيع والتجدد والزهو:

 

(كانت الدنيا حقولا

صباحات وشمسا وأغاني

حلق الطفل الندي

في سماء الأمنيات)

 

وتحدث الانعطافة التي غيرت الواقع المزهر إلى عالم متهاو وحزين إذ تهاوى البيت واستفاق الحزن والعصافير عطشى والأمهات واجمات والآباء منزوون ويأتي السؤال من تكون؟ وثم قائل يطلب:

(قال:" فألق يا بني.. ....)

ويكرر الطلب ثلاث مرات بنقاط حذف أهي الأشرعة أم النفس التي سيلقي بها في البحر؟!:

(بحري المائج يصخب

وشراعي

محض خيط من حرير

فإذا ألقيت نفسي

كيف أعود؟)

 

ويأتي الطلب مجددا قال فالق ليس لي غيرك ومكان الإلقاء هو البحر بمتعالقاته الشراع والملح واليمامات والزرقة والحجر والسنابل والجذع وليس الإلقاء هو ما يخافه الشاعر ولا التواريخ العتيقة ولا الحروف ولا الوجوه بل جل ما يخشاه نسيان الأسماء وفقدان التذكر الذي يعني الحكم عليه بالموت:

(أغمضت عيني على

زرقة عينيه

وألقيت شراعي

كل ما أخشاه أن

تنكرني الأسماء

من حزني

أموت.)

 

وتشكل الدماء والضياء صورة لونية لصرخة مستدعاة من عالم مندثر من ملحمة كان بطلها هو (أول من رأى) ليكون عنوان القصيدة (أغنية من رأى) حيث الضياء والشمس والاشتعال تمتزج صمتا بالدماء لتنتج صرخة /أغنية ولكنها بلا صوت..

وعلى الرغم من أن لونها دموي قتلا وذبحا (المعمور بالدم /يبست دماء /أين الدماء وأمواج الدماء وتغسلها الدماء من الدماء /ما سمعت الدم) إلا إن صنيعها ليس الرصاص والعبوات والتفخيخ بل السلام ممثلا بالحمامات التي تفز من الضياء:

 

(ستظل تغزل من خيوط الشمس

أغنية بلا كلمات

تشتعل الحروف

إذا ما أُوقظتْ من صمتها

وتضج في دمنا الرؤى

هي صرخة

تصعد في قلوب العاشقين

..

.. وحده الدم لا يقبل التفخيخ

لا

وحده الدم إذا ما زاره جمر الرصاص

يفز حمامات من الضياء .)

 

والدم فاعل دلالي أيضا في قصيدة (دم الكرستال) فهو حكاية الشموخ والإباء والشهادة التي لا تعرف إلا الإيثار والتضحية لتهب الحياة لا الموت ولتفتح النوافذ للأضواء فيكون للوننا وجرحنا عيونا ويغدو التاريخ هو الحاضر وهو المنارة التي على الرصيف:

 

(غدا ستعرفون

كيف الشمس

تشرق

من هذا الرصيف

وتصعد في دمي

شظاياه)

 

الخارج النصي تجوال بين المقدس والملحمي /

 

تمتاز نصوص (ترتيلة لدمشق) و(قيامة بابل) و(محمد) و(شجرة النزول) و(الهيكل) باستدعاء الموروث الديني والشعري ففي نص (ترتيلة لدمشق) ينادي الشاعر دمشق بـ (ياخيمة الله ويا كوكب ويا سماء ويا جرح ويا عيون الامسيات ويا باب الكعبة) متغنيا بماض مشرق لذلك المكان:

(الصباحات الجميلة ما عادت،

تضاحكنا.

النوافير بكاء

ما الذي أدمى شفاهك؟)

 

ولان دمشق أرجوحة وصبية جذلى وقبلة، فقد تكالب عليها الشر متناصا مع قصة النبي يوسف عليه السلام فقد تكالب الإخوة الأحد عشر عليه ..وهذا ما يقوله الشاعر بإطار خارج نصي:

(لا تقتلوا يوسف المولود فيها

لا تلقوه في الساحات

منكفئا

فلقد رأى ما لم يُرَ)

وقد مورس هذا الفعل بإزاء دمشق فيأتي النهي (لا تسقطوا تمثاله) وتتوالى بعد ذلك مفردات النحاس والرصاص والرماح ليتولد الدم والقتل والاغتيال الذي أيقظ الشيخ الكبير ابن العربي ليتلو ويسبّح وباستدعاء بيته الشهير:

 

(يا شيخنا:

" قف..بالمنازل واندب الاطلالا  

وسل الربوع الدارسات سؤالا)

 

ومثلما ابتدئ النص السابق بالنداء لدمشق المكان المقدس جاء نص (قيامة بابل) بمناداة بابل المكان/ التاريخ بـ(يا صخرة الإله ويا لهفة الطين ويا هسهسة الجذور ويا أصابع الخلد ويا...ويا...) ويستمر النداء المتكرر اثنتين وعشرين مرة ..

وبتوظيف الخارج نصي عبر التعالق النصي مع المرجعية التاريخية يكون الشاعر قد أضفى على بابل طقسا عباديا حيث المعابد والروح والخلود والخير وهذه صورتها الأولى قبل أن يجتاح الطوفان مدينة جلجامش أوروك ليحيلها ركاما بعد عين لكن تموز المختار يحمل سيفه ضد الشر القادم من الشرق:

 

(يا بابل،

الكرخة نهر دم

وعيلام انثنتْ ..تبكي نوائحها..

أطفأت نيرانها

اكتوت ببابل .. حد الفجيعة)

 

ويتوسل بآلهتها العتيدين مردوخ وآي ساكيلا مخاطبا شارع الموكب لعله ينقذ بابل من فجيعتها ومن الغزاة المتربصين بها والأمل معقود بالفرات مستذكرا السياب في أسطرته الشعرية للفرات وقد جعله مصدر الخير البابلي (وفي العراق ألف أفعى تشرب الرحيق من زهرة يرُّبها الفرات بالندى) وهذا المعطى الشعري عينه نلمسه في نص قيامة بابل:

 

(غدا ستبعثين من التراب

من طينه الفرات

ترتقين سفح جناتك العجاب)

 

ومثلما حقق استدعاء قصة النبي يوسف استباقا حلميا عما هو مجهول ومغيب فان بابل ستبعث من جديد وان نبوءة الاله ستعيد لبابل مجدها والنجوم ستشرق فوق جدرانها:

 

(والشمس والقمر

لجلال هيبتك

كما النبوءة ساجدين)

 

ويتغنى نص (محمد) بالاسم (الرحمة وسيد المخلوقات والمختار والخاتم والصادق والأمين النور السماوي) الذي أعلن ولادة جديدة للإنسان وقد حقق وضعه بين قوسين كبيرين مناديا بـ(يا صرخة الجياع ويا صرخة من لا وجه له):

(لو لم يكن

ما كنا

ولا (الإنسان) ...)

 

إشارة احالية إلى الآية الكريمة (هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا) فالإنسان بصلابة إيمانه قد جعل ألفا من كلمات النفي تغوص كالنخل لتنتج الخير لكل البشر باستحضار جزئي للاية القرانية (تؤتي اكلها كل حين باذن ربها) وهذا التاريخ التليد الذي حكايته تنطلق من مكة والعراق هو ما يجعلنا نبكيه اليوم:

 

(ألف لا

غاصت بأعجاز النخيل

وانبتت

سنابلا يُؤتى أكلها لمن يشاء

...

يسقطنا الرمل

نبكي على اطلال مكة

والعراق)

 

وتتماهى في نص (شجرة النزول) الموروثات فتتأرجح بين التاريخي والديني والشجرة هي عشتار التي نزلت من العالم العلوي لتعلن ولادة العالم ولتكون الأنثى أصله ومنتهاه وتملأ الشجرة بأغصانها وفروعها الأرض خضرة ولتولد الفواخت والخبز فكانت تلك الشجرة هي الشاهد على الإنسان ومآله الأرضي عبر الأزمان منذ أن قتل قابيل هابيل فكان الغراب هو الندم الأول الذي عرفه الإنسان ليداري عن أخطائه ويواري سوءاته:

 

(كم شهدت؟!!

حزن نهارات الجزارين المافتئوا

خلف جذوع الزمن المختل

يوارون

سوءة حمامات براءتها)

 

والشجرة/ الجذع أيضا هي التي شهدت مخاض الإشراق الإلهي حين هزت مريم العذراء النخلة فتساقطت رطبا جنيا حين ناداها ابنها من تحتها (أن هزي إليك جذع النخلة ..) لكن شجرة النزول ليست كذلك إذ تساقطت فجيعة واحتراقا فكان المكان الفاو هو المولود رأسا مقطوعا وقميصا احمر وصراخا ضاجا وقد خاطب الشجرة / العمة:

 

(يا عمتنا، يا عمتنا عذرا

فمدائننا رمل

ما عادت تنفعها

الصلوات .)

 

وتتكرر في قصيدة (الهيكل) متواليات الفعل العبادي (المسح والغسل والصمت والبوح) بإزاء الهيكل المقدس بقبابه وأقواسه بغية التطهير من الأدران من خلال عطره وأديمه وفراشه وجلال صمته وعمق روحه كما تتوالى مفردات النسك والطهر كالغور والبوح والدوران والصحو وإحراق عيدان البخور ليتصاعد دخان صوفي بحضرة الهيكل المعظم وقبابه وراياته وبذلك كله ترتقي النفس من غربتها:

(فاحلُ بحضرته

روحا أخرى

تعلو فوق قباب الهيكل

راية وجد

لا تعرف غير جذور الماء

كغربة شجر الصحراء.)

 

وسيتمم هذا الإحساس الصوفي الذي يجتاح المجموع مثل الموج والدماء والرياح والضياء في نص (الهاجس) الذي يلي نص (هيكل) مباشرة ليولد الهاجس ارتعاشة وطفلا:

 

(رفقا بما في القلب

هل لك أن تؤوب

لعتمة السكون؟

يا هاجسي الملح كالصغار؟!!)

 

ولان الهاجس تولّد لذلك فانه أوقظ الهدايا وملء النفس بالوجد الرومانسي بإزاء الموجودات كما في قصيدة (وطن) حيث الفرات ودجلة يجريان كأنفاس..

وتكريس مشهد البخور في القمصان هي استلهام خارج نصي للموروث الشعبي الذي يصبح فيه البخور هو الحارس الأمين من الشرور وهو التعويذة السحرية القادرة على صد المكائد عن الأبناء ليبزغ الصبح ويعم الغيم كما في قصيدة (بخور الأمهات) حيث يكون إشعال البخور عادة شعبية تعارفت عليها الأمهات لطرد الشر عن أولادهن:

 

(رسمته أمك،

مذ وضعتها فوق سلال التبخير

وسمّتْ ان يحرسك الله

وما زالتْ

تغسل أخر قمصانك

من شر الوسواس الخناس)

 

وتتعالى الكلمات جمرا لا بخورا في القصيدة المهداة إلى الشاعرة الكرواتية سوزانا اوشتريتش لترسم مشهدا للصلاة والتهجد في حضرة التصوف والوجد والفيض الذي يستدعي الموروث التاريخي كبناء خارج نصي عن سيرة الحلاج وقصة صلبه وخطيئة قتله:

 

(امشي نحوي

فتراتيل القديسين

تحملك نحو مآذن عشق العشاق الصوفيين

تحكي عن قصص الوجد،

الفيض،

عن وردة جسد " الحلاج"

المصلوب

على أعمدة الحرف،

وخطايا سيف مجنون

أوغل في حاضرة الحلم

ونام. )

 

واستدعاء الماضي الجميل وبكاء الحاضر الأليم يجعلان الشاعر يلبس ثياب الحداد وقد علاه الأسى والحزن عبر استرجاع تأريخي لحكايات طالما تغنى بها الرومانسيون ومنها حكاية الفراشة التي يدفعها هيامها العاطفي بحثا عن النور والحقيقة إلى أن تلقي بنفسها في أتون النار لتحترق في سبيل الطهر وتستدعى هذه الصورة لتصف حال العاشق المتيم الذي يحمله التفاؤل أو الأمل بغد مشرق إلى أن يحترق ..في دلالة على الذي اتلف نفسه في حب الحبيب وهو لا يرى في ذلك إرهاقا ولا نصبا:

(لكنما فراشة

حطت على أوراقها

أومضت واحترقت

تاركة ألوانها على دم الشفق)

 

وهذا ما كان الشاعر الفارسي سعدي الشيرازي قد منحه اهتماما كبيرا في أشعاره كقوله على لسان الفراشة وهي تخاطب نار الشمعة:

(قالت: أنا عاشقةٌ لاغروَ أن       ألقيت نفسي في اللهيب المحرقِ)

ويستدعي النص من ثم خارجا نصيا آخر هو مشهد قتل الثور الوحشي الذي رسمته بعض المعلقات الجاهلية وقد صار الثور هنا وقتا ونوما وان لا جدوى من قدوم النخيل والحجارة والماء والطين والكلمات لتؤوب معلنة ميلاد عهد جديد:

 

(كيف قتلنا ثور الزمن الوحشي

سملنا عينَ النوم الفقر

غادرنا الخوف الحزن ؟

ولكن !!!

عاد ليسكن فينا

ثانية)

 

ولكن حين يزاح الوجوم عن الوجوه وتتسع العيون وتشير الأيادي وتخضّر الرؤوس وتنطلق الأغنيات فعند ذاك سيتسلل سؤال محير عما هو واقع وما هو مأمول:

(يصعد النخلُ

المحلقُ في فضاءِ الحلم

يشرئبُ من خلل الرماد

مختنقا بعبرته

ما هكذا أمي البلاد؟!!!)

 

الخارج النصي ثيمات الولوج إلى رومانسية الوجع الأبدي

ترد قصائد كثيرة في المجموعة تحمل ثيمات الولوج باتجاه الرومانسية كحلم يوتوبي مستحيل الانجاز ليخيم الوجع والخسارة على الذات الشاعرة وقد اتخذت من دلالات الخارج نصي سبيلا لبلوغ هذا المطلب وهذا ما منح النصوص بعض المنطلقات الأساسية لصياغة نظرية بنيوية لثيماتها الشعرية ومن تلك الثيمات:

أولا: ثيمة المطر

ففي قصيدة (مرثية لسائق الغمام) نجد أن المطر سواء أكان بكليته أم بأجزائه هو الغيم المحمل بالفيض وعلى الرغم من انه قد أضحى منقذا وهو رديف الغلبة والنعيم وأساس الحياة إلا إن سائقه غير ذلك فهو ذابح الحمام لذلك يخاطبه الشاعر معاتبا:

(انزلْ غيثك

أرضكَ محلٌ ودمٌ

ومتاهات

حقولك موت يمامات

انزلْ غيثك)

ويخاطبه ثانية أن يديم غيثه على أهله لا على غيرهم فلم يعودوا قادرين على تحمل الوجع المعتق مؤسلبا القول المأثور عن هارون الرشيد وهو يخاطب الغمامة (أيتها الغمامة اذهبي أنّى شئتِ فان خراجكِ عائد إليََّ) كناية عن اتساع ملكه وشموله اغلب أصقاع الأرض..

أما الشاعر فليس واجدا ذاك الإيجاب في الغمام الذي على أرضه محولا المدلول الكنائي للخارج نصي إلى دلالة سالبة ولذلك يستجدي سائق الغمام ان يمنحه خراجه لينتهي صومه الأبدي متوسلا أن يدع الأرض فهي قبض الله:

 

(يا سائق الغمام

لم تعد تقوى

على وجعي المعتق

أحلامي وموتي

يا سائق الغمام لا الغيم غيمك

لا الخراج

عجل فالمدى صبح

وإمساك عن الصيام.)

 

وللمطر في قصيدة (من مقام الخسارات) دلالة مختلفة فالشاعر الذي سكنه حب المطر صار مغلوبا وخاسرا فلا غيمة ترويه ولا الموج يحمله بل الدم وحده هو الذي يروي تارة وينزف تارة اخرى وما عادت الأمطار تروي الأرض لذلك يتوسل بتلويحة القمر المعذب ليزهر قلبه مطرا وأنّى له ذلك فما زالت الخسارة والحزن يلاحقانه من الولادة إلى الممات:

(وخذي ما شئت من غيمة قلبي

أمطريني فوقك علي إذا

ما هزني البرد يفيق بروحي الثكلى

خساراتي ..نسيت!!!

آه يا حزني،

المولود من جمر الخسارة

خسارتي غيوم

غير ما يبقى ...)

 

والمطر والحزن صنوان في قصيدة (ملاذ) والشاعر يستغيث بالمطر لعل الموج يرسله على صفحاته وتعجبه رائحة الأرض التي رواها المطر يقول في قصيدة (آه لو تعلم):

 

(من يمنحني رائحة الأرض

الطين

بعد هطول المطر ؟؟)

 

 

والمطر مع الليل والحزن متلازمات العاشق الذي يحمله ولهه نحو امرأة مرسومة من غيم وحرير:

(كان المطر العاشق

يغسل وجهك

تتألق حمرة خدك خجلا

تستلقين على صدري امرأة

من غيم وحرير)

 

ثانيا / ثيمة البحر

تشترك دلالة البحر مع المطر في أن كليهما مائي والماء أساس الحياة لكنهما أيضا قد يكونان على الضد تماما فعلى الرغم من أن جمال البحر بلونه وكبريائه وقوته يأخذ بلب الشاعر إلا إن هذا البحر كثيرا ما يكون مصدرا للخوف ونهاية الحلم .. ففي قصيدة (قبل أن يلقي إلى البحر شراعه) نقرأ:

 

(أغمضتُ عيني على

زرقة عينيه

وألقيت شراعي

...

بحري المائج يصخب

وشراعي

محض خيط من حرير)

 

وفي نص (سحر أحمر) يتحول البحر بعضه أو كله من مجرد صنو للمرأة المعشوقة إلى مرتد يركع وجدا وهياما:

 

(وأنت

رغبة بحر

رام صعود منارتك

فارتد البحر

ومضى فَرِحاً

معتمرا قبعة الموج

مزركشة كالقرويين

ليترك زهر بحيرته

أسفل قدميكِ)

 

والحب كالبحر بمدِّه الذي يأتي باللوعة وجزره الذي ينزوي بالأماني بعيدا أما موجه فانه ينساب كالدم في العروق وكالريح والضياء:

 

(يجتاحنا

كالموج كالدماء

يورثنا ارتعاشة الأوراق في الشجر

يغمرنا كالريح كالضياء

يزرع فينا اللوعة

وينثني منزويا

في آخر الأشياء)

 

وتغدو طفولة البحر في قصيدة (غربة نورس الصباح) نهرا وديعا فيه النهر يتهادى قادما من بين النخيل وسدر النبق ويتكامل هذا المشهد مع النوارس والمراكب ويصلي الشاعر لأجل هذا المنظر المملوء براءة:

 

(ترجلتَ على شاطئه ِ

توضأتَ بماء الدهلة

وأقمتَ

صلاة طفولتكَ الأولى)

 

والبحر هو الفرات الذي منه تصنع بابل أرض البحر لتعاد أشرعة المراكب وتستجدى العطايا:

(البحر بحرك والشراع شراعك

بابل يا زمجرة العواصف

...

غدا ستبعثين من التراب

من طينه الفرات

ترتقين سفح جناتك العجاب)

 

ولطالما كان البحر الموئل الشعري للمعجم الرومانسي فهو سلوى المحبين:

(وردتان

إذا ما اضطرما

في ماء بحر اشتداد الجذب

تتكسر السيوف

عند ندي طينها )

 

وهو يحاكي بموجه وحركته المضطربة الفجائية ووداعته المستوفزة خطوات المحب الهائم المرتعش:

(استفاق البحر

تمدد فوق رمل استباحات الصباح

جدائل من غلالتها المعطرة بالأرض،

بعد ارتعاشات السماء)

 

والبحر نهر وهو الوطن يجري كما الأنفاس ويتلبس فينا كما العقال وموجهُ النهران دجلة والفرات يبكيان مآسي الوطن لوحدهما فيولد الشوق كيانا يعم بهيأته الوطن كله وهو الرماد لاف السنين التي مرت على هذا الوطن:

(في بحر الرماد

..

.. يلبس المشهد أثواب الحداد)

 

ثالثا: ثيمة الدم /

تتردد مفردة الدم ومتعلقاتها في نصوص المجموعة اغلبها، كناية عن الوجع والهم والحزن والانكسار مما جعل الخط العام للمفردات يتوشح على نحو بيَّن أو ملموس، فالدم هو الماء في نص(من مقام الخسارات) لذلك يتساءل الشاعر:

 

(هل نحيل الدم ماء؟

وكم من الرصاص في قلبه

يسقيها دمه؟ .)

 

وباستدعاء الخارج نصي عن النذر و(المعبد المعمور بالدم) والكاهن والدكة التي عليها يتم إعداد المشهد الدموي يتوضح القدر كون الدماء هي النذر الذي كلما جفَّ جيء بغيره ليغدو الدم أساس كل شيء فهو الأغنية والوجع والمنارة والغمامة:

 

(على دكة نذر المعبد المعمور بالدم

والأمنيات،

كلما يبست دماء،

ضجت الدكة تستصرخ كاهنيها:

ـ ترى أين الدماء؟

وتجيء أمواج الدماء

تنتشي الدكة

تغسلها الدماء

..من الدماء)

 

رابعا / ثيمة المرأة

تغدو المرأة طرفا مهما في اغلب النصوص وهي بايجابيتها ليست عدوا ولا ندا بل هي الأم والحبيبة والملهمة والصديقة وهي قيامة الجسد التي يختصرها في وردتين تدور حولهما الأرض:

 

(وردتان إذا ما اهتزتا

فوق غصن الندى

تشرق الشمس)

 

ولذلك يستغيث بالوردة لعلها تمنحه فرصة الظفر بالمرأة ليتغنى برومانسية الوجد والهيام، ويغدو الماضي بذكرياته الحبيبة موجعا ومؤلما حتى ينبت في الذاكرة كشظايا حرب مرت تاركة أثرا جسديا لا يمحى وحزنا شفيفا ممضا:

 

(من هالات عيون الرهبة

من حلمات الرطب التموزي

أبوح بحزن يمامات الصمت

النابت في ذاكرتي

شظايا حروب مرت فوق خرائط جسدي

الموسوم بكل السرفات المنسية)

 

والمرأة أيضا هاجس يلهمه الكلمات شعرا ونجمة يرسم على ضوئها صوره الرومانسية وبعينها يجد ضالته ولذلك يتوسلها ألا ترحل وان ترفق به وهو مؤمن أنها لن تخذله وأنها ستعود إليه حاملة هداياها:

 

(لهاجس الرحيل نجمة

تضيء

لهاجس البقاء إطراقة

تحملني

لسماء عينيك التي

تضيء لي هواجس

النجوم

لآخر الظنون

لا

لا ترحلي ...)

 

وبإحالة خارج نصية تغدو المرأة الحارس الأمين لطفولته وشبابه التي كانت وما زالت تبخر قمصانه خوفا من الحسد وهو يشتاق زمنا كانت فيه الأم مركز الكون التي تديره متى شاءت متذكرا طفولته الغضة:

(بكفوف الرحمة أمي

آه لو تعلم يا ابني ؟

آه..لو تعلم؟)

 

وهو يناجي حبيبته مناجاة العاشق الصوفي الذي يلوذ بالحرف ليتكلم الصمت مرتلا تعاويذه الخاصة مستقبلا مآذن عشق ووجد ليهيم فيضا فيتجلى حلمه واقعا ملموسا:

(امشي نحوي

فتراتيل القديسين

تحملك نحو مآذن عشق العشاق الصوفيين

تحكي عن قصص الوجد

الفيض،

عن وردة جسد الحلاج

المصلوب)

 

الخاتمة

الخارج نصي اصطلاح انفتاحي يومئ إلى معمار البناء الشعري ما فوقه وما تحته معا تهميشا وغيابا وهو مرادف للمتعاليات النصية بما فيها من الغلاف الأمامي والخلفي والعنوانات والإهداء والحواشي والمتون والسواد والبياض وغير ذلك من المتعالقات التي تشكل المرجعية للتعاضد البنائي التي دارت حولها محورية الخارج نصي للمجموعة الشعرية موضع الرصد كلها..

وهذا ما منحها استشرافا نصيا خارجيا وداخليا، متنا وهامشا وعلى شكل الماحات رومانسية وومضات صوفية وتعددية فنية وجمالية بدت موحية دلاليا ومتنوعة صوريا سواء أكان ذلك في الحركة أم في المشهدية أم في الإيقاع التفعيلي الذي وظف توظيفا حاكى الهموم والتطلعات والهواجس..

 

أ‌. د. نادية هناوي سعدون

كلية التربية / الجامعة المستنصرية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم