صحيفة المثقف

الأوجه المخططة لهيكل النص الروائي .. دراسة ظاهراتية في رواية "نزيف الحجر" لابراهيم الكوني

wejdan alkashabتؤكد النظرية الظاهراتية في الأدب على فكرة أنَّ من يضع عملاً أدبياً موضع الدراسة عليه ألاّ يعنى بالنص الفعلي فحسب، بل عليه أن يعنى أيضاً، وبدرجة متساوية، بالأفعال التي تتضمنها الاستجابة لذلك النص .

على وفق هذا التصور تجمع نظريات الظاهراتية في القراءة بين الفعل والبنية، في اطار فكرة واحدة هي القصدية، وهذه اللفظة ليست مرادفة للرغبة التي يعبَّر عنها المرء، أو لما أراد أن يقوله المؤلف، بل هي فعل الوعي وبنيته على أساس مبدأ القصدية .

وتفترض القصدية أن يكون الوعي وعي شئ ما، وأفضل طريقة نتصور بها الوعي تكمن في أن نُعدّ الفعل الذي يقصد الفاعل أو يُعيّنه أو يتخيله أو يتصوره موضوعاً، فيدخل الموضوع في الحيز المعروف في شكل تصور أو صورة ذهنية . ويعتمد الموضوع المقصود على الفاعل على أنّه شعور أو احساس، فكل حالة من الوعي أو التصور تفترض وجود فاعل وموضوع يؤلف كل منهما الآخر، فيتمظهران في صيغة الفعل والبنية . ومن الطبيعي أن تشمل القصدية جميع أنواع الموضوع: الخيالية والملموسة والمجردة والمثالية والتي لا وجود لها والغائبة أيضاً، وكل واحد منها يحدد فعلاً قصدياً يختلف بعض الشئ عن غيره عند الفاعل صاحب القصد (1) .

إنّ القصدية بوصفها سيرورة وعي تعتمد على الاستجابة التي يقوم الادراك من خلالها بتسلم موجود حقيقي، ومن ثم تحوياه إلى موضوع ترميزي، فعندما أرى جبلاً فإنني أُدركه بوصفه موضوعاً حقيقياً، لكنني إن رأيتُ ذلك الجبل بهيبته وعلّوه المثير، أكون قد حوّلتُه إلى جبل رمزي بعد أن أصبح وظيفة لوعيي الذاتي، وإذا أضفتُ للترميز إطاراً مفهومياً، فإنني سوف أكون قد أوّلتُ تجربتي الادراكية للجبل (2).

وتتحرك الاستجابة الجمالية بالآلية نفسها، حيث يحصل استلام غير تأملي من الذات إلى الموضوع للوهلة الأُولى، ثم يتبع ذلك لحظة ثانية غريبة تتضمن اتخاذ موقف يؤطر وجود الموضوع ويجعله جمالياً، وهكذا فإنّ السلوك الجمالي يتضمن مسافة بين المراقب والموضوع، وهذه المسافة الجمالية ستصبح سلوكاً ابداعياً، حيث أنّ المراقب – في التأمل الجمالي – ينتج موضوعاً تخييلياً (3).

وفي مجال قراءة النصوص الأدبية ترتبط الاستجابة الجمالية بمفهوم الخبرة الأدبية التي تقوم على مجموعة من مواضعات قراءة النصوص الأدبية التي تتولى مهمة التفاعل الدلالي لكل ما يود النص – من حيث كونه استرتيجية – أن يقوله عبر تعاضد القارئ (4) صاحب الخبرة الأدبية، وما يترتب على هذا المنظور من استبعاد التصور القديم للمعنى الذي يدعي وجود معنى صحيح واحد في أي نص، مقابل تبنّي منظور جديد يرى المعنى متعدداً بحسب تعدد القُرّاء، انطلاقاً من فكرة أنّ المعنى يترشح من داخل التجربة الفردية للقارئ، وهذه الفكرة تتضاد تماماً مع الطروحات البنيوية التي ترى أنّ المعنى موجود في بنية النص، وناتج عن علاقاته الشكلية إلى حدّ أنّه يُشكّل الدلالية .

وإذا رأينا أنّ كل قراءة لنصٍ ما هي ذات خصوصية مميزة وغير قابلة للتنبؤ بها فإنّ ذلك يمكن أن يكون الحقيقة التي تتطلب شرحاً . إنّ دراسة عملية القراءة هي طريقة استقصاء عن الكيفية التي يتكوّن بها المعنى في الأعمال الأدبية، وما هي تقاليد القراءة واجراءاتها التي تمكننا من توليد معانٍ معقولة ويمكن الدفاع عنها، وهي مع ذلك تناقض قراءات أُخرى قابلة للدفاع عنها؟ (5) .

تفترض الخبرة الأدبية احتواء النص على خصائص بنيوية قابلة للوصف، لكنّ هذه الخصائص لا يُنظر إليها بوصفها تقنيات بل بوصفها نظام تأويلات يُمكّن القارئ من اقترح تدخل تأملي لها.

بناءً على هذا الموقف يتأسس الأُنموذج النقدي وتنكشف وظيفته المنطلقة من مفهوم وجود قطبين للعمل الأدبي:

أولاً: القطب الفني الذي يشير إلى النص الذي أبدعه المؤلف .

ثانياً: القطب الجمالي الذي يشير إلى الادراك الذي ينجزه القارئ .

وينتج عن هذه القطبية الثنائية فكرة أنّ العمل الأدبي لا يمكن أن يتطابق مع النص تماماً، أو مع ادراك النص، إنما يحتل في الحقيقة منزلة وسطاً بين القطبين (6) .

يتألف النص الأدبي من خطط ينبغي للقارئ أن يستغلها، ويرى ايزر أنّ الآلية الدقيقة للخيال الأدبي تعتمد على التركيب السلبي الذي يُعدّ أساس عملية التحويل إلى فكرة، وترتبط هذه الآلية بالأمر غير المعروف أو الغائب، وتضفي عليه سمة الحاضر . وينطوي هذا التركيب على خطط تشبه تلك التي اقترحها انكاردن، حيث لا توجد حقائق بالنسبة إلى النص الأدبي، بل توجد مجموعة من الخطط تتحدد وظيفتها في تحفيز القارئ على كشف الحقائق، وتؤدي هذه الخطط إلى ظهور أوجه من الصدق الخفي غير اللفظي، وينبغي لهذه الأوجه أن يركّبها القارئ الذي يعيد بشكل مستمر تنظيم البؤرة ليخلق – فكرياً - حالة اجمالية (7).

وكل حقيقة جديدة تندمج في كيان عضوي، حيث تظهر كل صورة ذهنية فردية على أرضية خلفية بصورة ذهنية سابقة فتعطي موضوعاً معتمداً على الاستمرارية الاجمالية، وتنفتح للمعاني التي لم تكن ظاهرة حيث تشكّلت الصورة الذهنية أول مرة . وهكذا فإنّ محور الزمن يكيف وينظّم المعنى الاجمالي من حيث الأساس فيجعل صورة ذهنية تنحسر إلى الماضي، ليخضعها إلى تغيير لا بُدّ منه، وهذا بدوره يؤدي إلى صورة ذهنية جديدة .

يعتمد النص الأدبي على مصطلحاته في توصيل الحقيقة، حيث تشتغل هذه المصطلحات بوصفها ذخيرة للنص، مما يدفع به باتجاه اعادة تنظيم المعايير الاجتماعية والثقافية، وكذلك التقاليد الأدبية، وهذا ما سيعمل باتجاه تمكين القارئ من اعادة تقويم وظيفتها في الحياة الحقيقية . وتمتلك الذخيرة _ انطلاقاً من هذا الوصف – وظيفة مزدوجة: في وجهها الأول تعيد شكل لبرمجة المألوفة لتشكيل خلفية لإجراءات الاتصال، وفي الوجه الثاني توفر اطاراً عمل عام يتم من خلاله تنظيم الرسالة أو معنى النص (8) .

تتضمن الذخيرة _ غالباً _ عناصر عُدّت تقليدياً بمثابة مضمون، لذا فإنّها بحاجة إلى شكل أو بناء لتنظيم العرض، وتبرز ستراتيجية الثيمة _ الأُفق بطريقة الانتقاء من مناظير متعددة يمنحها إياها النص الروائي، وتتمحور حول مجموعة نقاط أساسية تتعلق بالسارد، وتتعلق بالشخصيات، كما تتعلق بالحبكة وبالقارئ . وحين يكون القارئ معنياً بأي من هذه المناظير فإنّ سلوكه سيكون مشروطاً بأُفق تم انشاؤه من خلال قراءات سابقة ومناظير أُخرى، مما سيخلق توتراً بين الثيمة والأُفق، هذا التوتر هو الذي سيشتغل باتجاه تكوين آلية تنظم الإدرك(9) .

وتظهر وظيفة خطط النص من خلال تنظيم المنظومات المتنوعة على الأرضية الأمامية طبقاً لأُفق المنظورات الأُخرى، وتتناوب في أثناء القراءة منظومات متعددة، ويحلّ بعضها محل البعض الآخر، فتحتل بالتعاقب الأرضية الأمامية والأُفق . وسرعان ما يطور القارئ لنفسه نظرة اجمالية تسمو على كل منظور من هذه المنظورات، ويستطيع القارئ في هذه الحالة المتميزة أن يتأمل جميع وجهات النظر الأُخرى التي يعرضها النص، وهذه هي الوظيفة النهائية للموضوع الجمالي حيث يُظهر وجهة نظر سامية للمواقف التي يقدمها النص،لكونها مستمدة من هذه المواقف، وقد أُبرزت الآن للملاحظة (10) .

إنّ هذا الطرح لقضية المعنى الأدبي متساوق مع طبيعة النصوص الأدبية المملوءة بالتقلبات والالتواءات غير المتوقعة . وبإحباط التوقعات _ حتى في أبسط قصة _ ثمة حتمية لنوع معين من الإعاقة، تمنح النص ديناميته من خلال الحذف أو الفجوات أو الفراغات التي تقود القارئ إلى اتجاهات غير متوقعة، وعندها تكون فرصته سانحة لتفعيل مَلَكاته واقامة ترابطات وملء فجوات تركها النص له . من هنا يمكننا القول أنّ الظاهراتية تعمل على تحفيز القارئ ليُطوّر عرضاً للنص يمكن أن يقدم فيه تفسيراً يتوافق مع المعلومات التي يقدمها هذا النص عند أية نقطة من قراءته، وينهض _ النص _ بوظيفة برمجة هذه المهمة أو بإحباطها. إنّ قيام القارئ بإعادة توافق ادراكه الحسي للنص حينما يتكشف له يكون مصحوباً بأفعاله التي تسدّ فراغات النص (11) .

وتسعى ستراتيجية الثيمة – الأُفق إلى أن تؤدي وظيفة مهمة، في نهاية الأمر، تتمثل في القيام بحل الشفرة الأولية غير المتغيرة ونقلها إلى القارئ الذي سيفك مغالقها بطريقته الخاصة مما يؤدي إلى توليد الشفرة الثانية المتغيرة (12) .

سوف أُركّز في دراستي لرواية {نزيف الحجر} على منظور الحبكة لاعتقادي بأنّه نهض بالدور الأساس في سيرورة سترتيجية الثيمة – الأُفق، فضلاً عن شعرية النسيج الروائي الذي قدمته الحبكة لتضمّ أحداث الرواية وشخصياتها، وحضور السارد وتعليقاته في ترابط متناسق وفّر للرواية واقعها الخيالي المستند إلى ذاته، ودللت من جهة أُخرى على قدرة الروائي {ابراهيم الكوني} على تحريك عناصر النص وتوجيهها إلى ما يدعم رؤيته للإنسان والوجود.

تمتاز رواية { نزيف الحجر } بحبكتها المتألقة، حيث تنتظمها بنية متماسكة من نسيج يجمع أنماط الإنشاءات إلى أُطرها الزمنية المختلفة، كما تمتلك الرواية أيضاً آلية بناء أُخرى {خارجية} نلحظها في شكل سلسلة من الاقتباسات التي اختارها الكوني من مصادر متنوعة: القرآن الكريم، الإنجيل، سوفيكلس، أُوفيد، كتابات النفري الصوفية، مشاهدات هيروديتس ولوتي {في رحلاتهما في الشرق} .

يتصدر الرواية اقتباسان، أحدهما من القرآن الكريم، سورة الأنعام، آية 37 (وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلاّ أُمم أمثالكم) . والثاني من العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الرابع (وحدث إذ كانا في الحقل أنّ قابيل قام على هابيل أخيه وقتله، فقال الرب لقابيل: أين هابيل أخوك؟ فقال: لا أعلم . هل أنا حارس لأخي ؟ فقال: ماذا فعلت دم أخيك صارخ إليَّ من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك / متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها، تائها وهاربا تكون في الأرض) .

إنَّ نسيج الرواية يستوحي من هذين الاقتباسين، وإذا تجولنا في عالم هذه الرواية نجد أنَّ شخصياتها الأربع الرئيسة هي: الأب مستوطن الصحراء غير المصرّح باسمه، وابنه أسوف راعي الغنم ووريث القوانين الصحراوية، وقابيل آدم اللقيط سيء الطالع المدمن على اللحوم، وشخصية الحيوان (الودّان – التيس الجبلي)، أقدم حيوان صحراوي يقطن الصحراء الليبية الكبرى، والمتجلي في الرواية بمسوحٍ أُسطورية ودينية (بوذية صوفية)، وهذا التكوين العام للنص الروائي يطوف حول الاقتباسين اللذين تصدرت بهما الرواية .

تتحرّك الشخصيات الأربع ضمن البيئة الصحراوية، وعليهم تنهض أحداث الرواية، وإن كانت هناك قواسم مشتركة بين شخصيتي: الأب والابن بحكم الترابط الأُسري والاقامة الصحراوية، فإنَّ قابيل آدم على عكس ذلك، من نوع آخر، ولا يأبه بأبجديات التواجد الصحراوي التي قد تشرّب بها كل من الأب وابنه، والطبيعة عند قابيل موجودة ليتمتع بها ويستغلها ويبيدها أيضاً، وهو أساساً ليس من سكنة الصحراء، بل قاده ادمانه على اللحوم إلى الدخول في متاهة اللعبة الصحراوية، بطرفيها الإنسان والودّان، الذي يمكن عدّه الرابط الداخلي لحبكة الرواية ومنظورها. تنتظم أحداث الرواية وتترابط على قاعدة واحدة تتمثل بعلاقة الشخصيات الصحراوية بالودّان، وسعيهم إلى اصطياده، ويترشح من هذه العلاقة والفعل مجموعة من الأحداث والمواقف تمثل سيرورة منظومة الثيمات التي يقترحها منظور الحبكة، وهكذا تتناوب الشخصيات على تلك العلاقة والفعل، مع اختلاف كل واحد من هذه الشخصيات من حيث أسبابه وغاياته وطبيعة ارتباطه بالودّان، ومن ثم فإنَّ كل ما يدور في الرواية – سواء تعلق بداخل الحكاية أو خارجها - لا يخرج عن كونه تنويعاً على علاقة الإنسان بذلك الحيوان، تلك العلاقة التي تشكِّل وحدة منظور الحبكة والرواية عموماً .

سنحاول الاشتغال باتجاه تقسيم الحبكة تقسيماً تجزيئياً لنتمكن من متابعة منظورها وتحولاتها داخل تلك الوحدة، وليس غرضنا من هذا النهج وصف الحبكة أو تحليلها بنيوياً، بل على العكس من ذلك فإنَّ زاوية النظر في دراستنا تسير باتجاه مضاد لهذا التصور، لأننا نسعى إلى التقاط أجزاء الحبكة بوصفها موجهات للنص الروائي موضوع البحث، وليس اكتشافها بوصفها بنية ثابتة، وفي النهاية سنشتغل باتجاه تخطيط هيكل النص الروائي من خلال ذلك المنظور، بمعنى آخر، لا نريد أن نرى الحبكة، بل نريد في الحقيقة أن نرى من خلالها، وهذا ما سيكشفه المنهج الذي نتبعه في هذا البحث .

 

- صلاة أسوف أمام الايقونة الحجرية

تشكِّل الايقونة الحجرية علامة بارزة في هذا النص الروائي، بها افتتح الروائي نصه وبها اختتمه، حيث يسرد السارد " الصخرة العظيمة تحد سلسلة الكهوف، وتقف في النهاية كحجر الزاوية لتواجه الشمس القاسية عبر آلاف السنين، وقد زُينت بأبدع رسوم انسان ما قبل التأريخ في الصحراء الكبرى كلها، على طول الصخرة الهائلة ينهض الكاهن العملاق، يخفي وجهه بذلك القناع الغامض، ويلامس بيده اليمنى الودّان الذي يقف بجواره مهيبا، عنيدا يرفع رأسه، مثله مثل الكاهن، نحو الافق البعيد، حيث تشرق الشمس وتسكب اشعتها في وجهها كل يوم " (4).

وعندما شرع أسوف بأداء صلاة العصر تجمعت التيوس قربه، وبدأت تتناطح أمام وجهه، مما اضطره إلى قطع صلاته، والتوجه إلى مكان آخر بعيداً عن مشاكسة التيوس، ولكن ما نوع المكان الآخر؟

هذا ما سيقدمه لنا السارد من خلال سرده " انهى صلاته والقى برأسه الى الوراء متابعا الجدار العملاق المنتصب فوق رأسه كبير الجن يباركه، نظرته الغامضة من خلال القناع تنطق بالرضا والسكينة . والودّان المهيب، المتموج بقرنين ملتويين، ايضا يوافق الالهة ويوحي بأنه قبِل الصلاة وفاز برحمة المعبد "(15) .

مرَّ فعل الصلاة في هذا المقطع من الرواية بحالتين، نتج عنهما إزاحتهما عن مجراها المألوف، فقد تعرضت صلاة أسوف الى إعاقة من طرف التيوس، وهي إعاقة مقصودة وإن كان مصدرها الحيوان، كما يؤكد السارد عندما أعلن منذ البداية أنَّ التيوس لم يرق لها أن تتناطح أمام وجهه إلاّ عندما شرع بالصلاة . ثم أُعيقت الصلاة ثانيةً بعد أن أُجبر اسوف على تغيير مُصلاّه هرباً من مشاكسة التيوس، وأدّاها أمام النصب الوثني، أي باتجاه مضاد لوجهة الصلاة في الواقع العياني، وهذا ما اشتغل باتجاه نزع الصلاة من جوهرها الايماني . وفي الوقت الذي كان فيه أسوف غافلاً عن صلاته برز كبير الجن والودّان - في لوحة النصب الوثني – في حالة استقبال قصوى لها، وقررت نظرة القناع أنَّ الصلاة أُدِّيت على أحسن وجه، ونالت القبول والاستحسان .

ترتبط الجمل السردية في النص الروائي بطرائق متنوعة لتشكِّل وحدات ذات معنى بالغة التعقيد، ولتكشف عن بنية متنوعة، وفي التحليل النهائي ينشأ عالم معين يكوِّن أجزاءً تتحد بهذه الطريقة أو تلك، وبكل التنويعات التي قد تحدث ضمن تلك الأجزاء، وهذا كله بمثابة معامل ارتباط قصدي محض لمركب من الجمل، وإذا ما تكوَّن من هذا المركب نص روائي ، فإنَّ المجموع الكلي لمعاملات ارتباط الجمل القصدية المتعاقبة سوف يُكوِّن العالم المعروض في العمل (16) .

إذاً تكوَّن لدينا من الجمل السابقة ثلاثة أفعال: أولها صلاة أسوف، وثانيها اشتباك التيوس وقطعها صلاته، وأخيراً أداء الصلاة باتجاه النصب الوثني على غير مجراها الصحيح، ويترشح من تنظيم الأفعال بهذه الطريقة منظور الحبكة، الذي سيكون مثار أكثر من استجابة، فالحيوان ضمن هذا الخط هو الممارس لفعل التشويه أو هو المسبب له، فقد أقصى الصلاة الصحيحة، وافترض صلاة أُخرى أفرزها منظور الحبكة أيضاً، تلك الصلاة المتصلة بالوثنية، وكما احتل الحيوان منزلة وسطاً بين صورتي الصلاة الايمانية والوثنية، فإنَّه أصبح مدعاة في الوقت نفسه للاتحاد أو الافتراق، وتفتق من هذا المنظور كذلك الحالة السائدة في حاضر الصحراء وماضيها، فإذا كانت صلاة أسوف وحركة التيوس تمثل مشهد الحياة والوجود الصحراوي الآن في حاضر النص الروائي فإنَّ الايقونة الحجرية تمثل المشهد نفسه، لكن في ماضي النص أو ماضي الصحراء، ولكن بشكل مختلف .

ويمكن رؤية هاتين الصورتين المتقابلتين من منظور الحبكة، فقد صيغت الأفعال بطريقة تحفِّز المتلقي على المضي مع النص بهذا الشكل، وإذا بحثنا عن نقاط انفصال بين المشهدين وجدنا أنَّ الانسجام والوئام هما عماد اللوحة الحجرية التي تمثل ماضي الصحراء، وعلى العكس من ذلك في حاضر الصحراء، فقد تبلور منذ البداية تقاطع بين فعل الإنسان وفعل الحيوان، ذلك التقاطع الذي لم يكن موجوداً في ماضي الصحراء من خلال الايقونة التي تشير بشكل خفي إلى الاتصال والتوحد بين الحيوان والإنسان .

 

- اشتراك الأب والابن في قصة متشابهة مع الودّان

في هذا النص يتمظهر الأب حالاً لمحمول عقائدي يحيل إلى تصورات أُسطورية إلى جانب القيم الإسلامية، وجمعه بين هذين الاتجاهين يمكن أن يُعدّ نوعاً من عملية ضم ما لا ينظم، ونتاج هذا الخليط غير المتجانس هو موقف متأزم أو سلبي من الإنسان، وعندما يطرح الأب تصوراته تلك على مسمع ابنه فإنّه يتولى مهمة تعبئته صحراوياً، حيث يشير النص إلى أنَّ الأب " انتظر حتى هلَّ القمر، وحكى له كيف أنَّ الودان هو روح الجبال، كانت الصحراء الجبلية في قديم الزمان في حرب ابدية مع الصحراء الرملية . وكانت الهة السماء تنزل الى الارض مع الامطار وتفصل بين الرفيقين وتهدئ من جذوة العداوة بينهما. وما إن تغادر الالهة ساحة المعركة وتتوقف الامطار عن الهطول حتى تشتعل الحرب بين العدوين الخالدين . وفي يوم غضبت الالهة في سماواتها العليا وانزلت العقاب على المتحاربين . جمّدت الجبل (مساك)، وأوقفت تقدم الرمل العنيد في حدود ( مساك ملت) . فتحايل الرمل ودخل في روح الغزلان، وتحايلت الجبال من جهتها ودخلت في الودّان . منذ ذلك اليوم أصبح الودّان مسكوناً بروح الجبال.

سأله اسوف في تلك الليلة معلقاً على قصة الارواح:

- ولكن الغزال والودّان لا يتحاربان الان .

اطلق ضحكة واستلقى على الارض، وقال بلغة غامضة وهو يراقب القمر السحري الطالع جوف الظلمات:

لأن الله انزل على الارض بلوى اكبر قاتلت الاثنين معا . جاء الانسان، واصبح للغزلان والودان عدو واحد . الالهة ملت الشكاوى الطفولية، تارة تتصاعد الرمال وترفع امرها الى السماوات مدعية ان الجبال هي التي بدأت الاستفزاز، وتارة تقصدها قمم الجبال وتشكو غزوات الرمال، فغضبت الالهة وعاقبت المتخاصمين بشيطان اسمه الانسان . اوكلته الالهة الامر فجاء وأقام في الوادي الفاصل بينهما . هنا بال الالهة ولم تسمع شكوى منذ ذلك اليوم .

ثم التفت اليه، وقال باللغة الخفية نفسها:

- فكيف اجاور الانسان ؟ ..."(17).

ويجتمع الاب وابنه على حدث واحد هو صيد الودان، بعد خضوعهما الى سلسلة من الأحوال والأحداث تقودهم في النهاية الى ممارسة ذلك الفعل، وبعد أن يدخلا في هذا المعترك ويتعرضان للموقف نفسه يحدث تحول في حياتهما، كل باتجاه، أمّا الودّان فيبقى على سلوكه المحدد في الحالتين . سنستعين الآن بملخص يُلخِّص لنا سيرورة كل من الأب والابن في تجربة صيد الودان، ونتائج اصطدامهما معه:

 

الأب

- الإقدام على صيد الودّان .

- انتحار الودان عندما يتيقن أنّه لن ينجو من بندقية الأب .

- مطاردة الودّان، وتعلُّق الأب على نتوء في الجبل يفضي إلى هاوية .

- انقاذ الودّان للأب .

- النذر بعدم صيد الودّان .

- التعرُّض للجوع، والإقدام من جديد على صيد الودّان، ونقض العهد .

- مطاردة أخيرة تنتهي بموت الأب على شكل انتحار .

الابن

- مخالفة وصية الأب، والإقدام على صيد الودّان .

- مطاردة عنيفة تنتهي بتعلُّق الابن على نتوء الهاوية .

- انقاذ الودّان له .

- اعتقاد الابن أنَّ الأب حلَّ في الودّان .

- العزوف عن أكل اللحم .

الودّان

_ في الحالتين، بعد تعلُّق الأب والابن تباعاً على نتوء الهاوية يقوم الودّان بإنقاذهما .

أول ما يثير الانتباه في هذا الجمع بين حياة الأب وابنه في حدث متشابه هو سيرورة التجربة التي خاضها كل منهما، حيث بدأت بشبه تطابق بينهما، لكن هذه التجربة انحرفت في مجرياتها قليلاً، ثم ما لبثت أن وقفت عند مفترق الطريق لتحقق انفصالها في النهاية، وتتحقق بذلك خصوصية تجربة كل منهما، تلك الخصوصية التي ستشتمل على أبعاد أُخرى، يشتغل النص باتجاه ايصالها إلى نهاية أُخرى مفارقة .

يقع الأب – بوصفه مُسنن قوانين التعامل مع الودّان، وصاحب رؤية خاصة عنه – في البدء تحت عبء مشاهدة موقف أعلنه الودّان عندما أيقن أنَّ بندقية الأب أحاطت به، ولم يجد من طلقتها مهرباً، فبادر إلى القفز نازلاً على رقبته لتنكسر، ويدخل بهذا السلوك في عداد المنتحرين . وكان فعله هذا ردُّ فعل أكثر منه فعلاً مباشراً، نتيجة للمأزق الذي أوقعه الأب فيه، فكان عليه أن يختار الموت انتحاراً لا الموت صيداً، واستقبل الأب الرسالة التي بثَّها الودان وفهمها، ولكن صورة الودان ازدادت غموضاً وضبابية في وعيه، إلى حدِّ أنَّه بدأ ينظر إليه بوصفه لغزاً أو سراً لا مجرد حيوان جبلي .

وفي مطاردة تعلن صخبها وضجيجها من طرف الأب ينتهي أمر هذا الأب إلى نتوء جبلي تركن تحته هاوية سحيقة، وينقلب الغموض دهشة عندما يمدُّ الودّان حبلاً وينقذه، إذاً برز الآن تقابل بين وضعيتي الأب والابن في المطاردة، ونتج عن هذا التقابل تغيير في المواقع، ففي الحالة الأُولى كان الودّان هو المحتل لموقع المأزق، فاختار أن ينتحر، أمّا الآن فالأب هو صاحب هذا الموقع لكنه لا ينتحر أولاً، ويلقى مساعدة من الودّان ثانياً، ولكنه لم يفكر بهذين الفعلين (الانتحار والمساعدة ) .

ويرتكب الأب خطأ آخر، فيقدم من جديد على صيد الودّان، بعد أن نذر أنَّه لن يصيده ثانيةً، اعترفاً منه بموقفه في تلك الحادثة، وحالما ينقض نذره هذا يقع في شراك كآبة حادة، فيصبح مدمناً على تكرار موّالات حزينة يحاول من خلالها إطفاء الحريق المشتعل في أحشائه . وفي النهاية لا يقوى على تحمل صوته الداخلي، فيذهب إلى الودّان متقمصاً صورة الضحية، وينهي حياته أمامه، كما أنهاها الودّان من حين كسر رقبته في تلك الحادثة . ويتعمد السارد حجب سرد الحدث الأخير للأب مع الودّان، بل أنّه يوكل سرد ما حدث إلى الابن، ليتتبع آثارهما، ويستكشف ما حدث، وبذلك تتحول معرفة المتلقي عن الحادثة إلى ما سوف يراه أسوف، على الرغم من أنَّ المتلقي يمتلك حقه في استنتاج وقائع أُخر. أمّا أسوف فإنّه سيربط بين حادثتي موت أبيه وموت الودّان، وهذا ما سيدفع به إلى امتصاص تجربة أبيه مع الودّان، والتي ستعاد صياغتها من جديد حالما يخوض هو الآخر تجربته الخاصة معه .

يحقق السارد منظوراً ثرياً للحبكة حين يزجّ الأب والابن في تجربة متماثلة مع الودّان، فمن جهة سوف نستكشف الخبرة الصحراوية وتنوعاتها بين الأب والابن، ومن جهة ثانية سوف نشاهد عن قرب تحولات القوانين الصحراوية عندما يقوم بها الابن بعد استلامها من الأب، وتمريرها على مجرى حياته، ومن جهة ثالثة سوف نشكِّل صورة للودّان عبر تلوناته داخل ذلك السياق المشترك .

بدايةً يوعز منظور الحبكة إلى أن تتحول تجربة الأب مع الودّان إلى علامة سوف يفكر أسوف من خلالها حالما يصطدم مع الودان، وبتعبير لساني تغدو قصة الأب مع الودان دالاً، فيما ستكون قصة أسوف مع الودان مدلولاً، ومن خلال طريقة ارتباط القصتين وسيرهما يمكن أن نقف على منظور الحبكة الخاص بالودّان أولاً، وأسوف ثانياً، والأب ثالثاً .

يعتمد الابن خاصية التكرار – مثلما فعل أبوه من قبل – فيقدم على صيد الودّان، متجاوزاً بذلك على قانون أساس من قوانين الصحراء الروائية التي حقنه بها الأب، وتتكرر النتيجة أيضاً مع أسوف حيث يصل حافة الهاوية، ويبقى هناك فترة طويلة مما يؤشر وقوعه في منطقة وسطى ما بين الموت والحياة، وتغدو هذه الفكرة جزءاً مركزياً من منظومة أفكاره، وهذه هي أول وجهة يفارق فيها الابن فكرة أبيه القائلة بأنَّ مفارقة الناس واعتزالهم تمنح الأمان والسلام، وهذا ما أوحت به له الأُسطورة التي يؤمن بها . أمَّا أسوف فلم يعُد يفكِّر بهذا بل أصبح تفكيره أكثر إمعاناً في العمق مما ساعده على استبصار ذلك الموقع من الوجود، موقع العدم واللاوجود .

ويحدث هنا تلوين أول لتجربة الابن أسوف مع الودّان، فلم ينتشله من الموت كما حدث سابقاً مع الأب، بل أنقذه من نقطة ما بين الحياة والموت، وتبعاً لذلك أصبح الودّان هو المأزق، وفي الوقت ذاته هو الخلاص .

وفي حين كان الأب يعتقد أنَّ الودّان مسكون بروح الجبل، أصبح الابن الآن يؤمن بأنَّ روح أبيه حلّت في الودّان، وبذلك صيغت الفكرة الأُسطورية التي يحملها الأب، وتمظهرت بمظهر جديد يحيل إلى فكرة فلسفية صوفية تتمثل بالوجود الموحد للكائنات عموماً، وكما اختزنتها اللوحة الصخرية،، وتبعاً لذلك يترتب سلوك أسوف الجديد المتمثل في عزوفه عن أكل اللحم، وهكذا انفلت اسوف من نطاق العزلة الذي كان يطوِّق، تلك العزلة التي تحيل إلى فكرة أنَّ الإنسان شر، والأمان قابل للتحقق بالعيش بعيداً عنه، لكنه من جهة ثانية كان يمارس ما يحذر منه تحديداً عندما يتطاول على الودّان، فيغدو – أسوف – ممثلاً للشر الذي يهرب منه . وبهذه الطريقة عرّى منظور الحبكة التناقض الذي شكَّل غلافاً لحياة الأب وسلوكه ورؤيته، وهو بالتالي ما دفعه إلى الانتحار أمام الودّان رداً منه على الخدعة التي حكمت حياته، والتي كشفها له الودان، فاضحاً بذلك ازدواجية سلوكه ورؤيته، أمّا اسوف فقد عالج ذلك التناقض، ودفع بالعزلة إلى نهايتها المتجلية بالتوحد .

 

- قتل قابيل آدم لأسوف صلباً على الصخرة

منذ ولادته كان قابيل آدم سيء الطالع، تيتَّـم طفلاً، وكفلت رعايته خالته، وفي بحثها عن تعويذةٍ تحميه مما رأت فيه لعنة حلّت بالعائلة، تقبَّلت نصيحة أحد الشيوخ بأن يشرب دم غزال، لكنها وزوجها يموتان بعد وقت قصير من ذلك، فيقوم آدم – رئيس قافلة عابرة – برعاية الطفل اللقيط، ومثل هذه البدايات تُقدِّم تمهيداً لحياته المستقبلية، فمنذ طفولته وصاعداً يغدو ذا شهية لأكل اللحم، ولكي يشبع شهوته يصبح صياداً محترفاً، لكن أياً من الإجراءات التي يتخذها لتحقيق رغباته لم تنجح، ويصل إلحاحه على صيد الحيوانات _ وخاصة الغزلان – إلى بُعد شيطاني .

وبعد مجيء شركات النفط والبحرية الأمريكية ممثلةً بشخص جون باركر، يصبح قابيل قادراً على استغلال التقنيات الحديثة لمساعدته في تحقيق رغبته المتحكمة بأكل اللحوم، وبفضل باركر هذا يستطيع الحصول على بندقية حديثة، الأمر الذي سيسمح له بالتالي بالقضاء على قطعان كاملة من الغزلان، وهو الآن يملك سيارة لاندروفر تسمح له أن يجوب مناطق واسعة لاستكشاف تواجد الغزلان وصيدها، وبهذه الطريقة تبدأ خيوط حياة قابيل وأسوف بالتقارب شيئاً فشيئاً، فأثناء بحث قابيل المحموم عن الحيوانات يأوي إلى الصحراء، وهناك يلتقي بأسوف المنفرد فيها العارف بحيواناتها، وعندما ينوي قابيل صيد الودّان يصبح بأمسِّ الحاجة إلى خبرات أسوف الصحراوية، وبخاصة أنَّه كان قد سمع بأسوف ومعرفيته بالصحراء والودّان، وتزامن هذا اللقاء بينهما مع تجربة أسوف المثيرة مع الودّان، وقراره الذي بدا حاسماً بترك كل من الصيد وأكل اللحوم، هنا تتشكل المفارقة كما تقترح الحبكة، فرغبة قابيل الجامحة في أكل لحم الودّان تتقاطع تماماً مع عهد أسوف لنفسه بعدم صيد الودّان وأكل لحمه، فتقابلهما وفق هذه الكيفية سيشكِّل منظوراً للحبكة، ويمكن من خلاله رؤية أسوف ممثلاً للتوحد مع الطبيعة وموجودها الحيواني، فيما يقف قابيل في الجهة المتضادة ليصبح رمزاً للاختراق والتجاوز عليهما، من هنا كان لا بُدَّ أن يؤول الأمر بينهما إلى صراع، يحتل فيه أسوف موقف الضعيف، لكونه ممتنع عن التواصل الإنساني بسبب عزلته في الصحراء أولاً، والتعاليم – بالعيش وحيداً - التي شحنها به محيطه الأُسري ثانياً . إنَّ عودة قابيل من رحلة صيد فاشلة للودّان أسهمت في خلق جوٍّ مشحون بالصراع بينه وبين اسوف لأنَّه لا يصبر على العيش بدون لحم، ولم يجد أمامه إلاَّ اسوف ليفتح له مخرجاً من هذا المأزق المغلق، لأنَّ اسوف يمتلك معرفيته الصحراوية الشاملة التي يفتقدها قابيل، لكنّ أسوف – كما هو متوقع – لن يكون دليلاً كاشفاً لأماكن تواجد الودّان، وبهذا الرفض أصبح في مرمى قابيل، وهذا ما سيكشفه حوارهما:

- تكلم . أين يسكن الودّان ياعبد العبيد ؟

فأجابه أسوف بتعويذته في اصرار طفولي:

- لن يُشبع ادم إلا التراب .(18)

للمرة الثانية يتعرض أسوف لمحنة التعليق، في المرة الأُولى أدّت مطاردته للودّان في امتداد الصحراء المهيب إلى أن تتقلص حياته في التشبث بنتوء جبلي يفضي إلى الهاوية، وفي الثانية أدّى تستره على الودّان، واخفاء أماكن وجوده عن قابيل إلى صلبه على الايقونة الحجرية، وكلتا الحالتين تؤشر نهاية تعلن حتميتها، وإذا كان سبب تعلُّقه في الأولى مخالفته لوصية الأب، والإقدام على صيد الودّان، فإنَّ سبب تعلُّقه الآن هو محاولته حفظ وصية أبيه، وتحديداً بعد أن تعززت تجربته الفردية . وإذا كانت التيوس – والودّان تيس أيضاً – قد أعاقت صلاته في البداية وحرفتها باتجاه الصخرة العظيمة، فإنَّ دفاعه عن الودّان الآن أحاله إلى الصخرة نفسها، وعلى الرغم من أنَّ سلوكه في شكّل حالة اختلافية إلاَّ أنَّه لا يعدو أن يكون سبباً لعلاقته الشائكة بالودّان، فقد كان الودّان في الحالة الأُولى ضحية وأسوف اتخذ موقعه بوصفه جلاداً، ولكنَّ المعادلة انقلبت ليحصل تبادلاً في المواقع ليصبح الودّان هو الجلاد، وأسوف ضحية .

إنَّ عملية تغيير المواقع هذه تثيرها الحبكة عندما تجتمع في خط واحد، فتفرز منظورها – من خلال سير الأحداث – الذي يتمظهر في طريقة تنظيم عناصر النص الروائي وصياغة ذخيرتها، فتضفي بالتالي سمة غير مألوفة على الأشياء المألوفة، ولا يلبث النص بهذا أن يحدث خلخلة لاستجابات المتلقي وبالتالي يحبطها، فيكون النتاج إحداث ثغرات في مجرى النص تشتغل باتجاه تصعيد عملية التفاعل النصي سعياً إلى توحيد الاستجابات من خلال ملء تلك الثغرات، ومن ثم نقل الموجود - الغائب للنص إلى واقع ملموس . أي نقل التركيب السلبي للنص الذي أحدثه خيال المتلقي، وهكذا فإنَّ النص الأدبي يقوم ببلبلة التواصل المباشر وتحريفه، فتظهر مهمة المتلقي التي تتعمد إزالة تلك البلبلة وإعادة النص إلى سياق مفهومي، ويكمن ناتج هذه العملية في اكتشاف شئ من الفن من خلال تجربة هذا الفن نفسه . (19)

وقبل أن نستغرق في استكشاف منظور الحبكة سنحاول استكمال هذا الجزء من الحبكة التي سيختم بها النص الروائي، فبعد حدث تعليق اسوف على الايقونة الحجرية، باشر قابيل بالبحث عن الحيوانات، لكنَّ محولاته التكرارية باءت بالخيبة، وخصوصاً عندما خلت الصحراء من الغزلان التي تهاربت خوفاً من بندقيته الحديثة، فانسحبت إلى الجبال التي تشكِّل وعورتها وتشعبها عنصراً حامياً لها . هنا أدرك قابيل الاعياء، وآل أمره إلى الفراش يعاني المرض، ويشكو من صراع عنيف جرّاء حرمانه من أكل اللحوم .

وفي ليلة غامضة كان يتقلَّب فيها جوعاً رأى حلماً عجائبياً، كاد قابيل بسببه أن يتقيأ أمعاءه، هام مسعود حوله طوال الليل، ثم ترك مصباح الغاز فوق رأسه، وغادر عائداً إلى بيته، بعد مغادرته مباشرة جاء الودان إلى قابيل، على رأسه يتموقع قرنان هائلان معقوفان إلى الوراء حتى ظهره ثم يعودان إلى رأسه، وفي ضوء الفنار الخافت رأى تلك العينين، هل همستا له بسر الخلق ؟ هل تحدثتا عن تكوِّن الصحراء والكون ؟ هل قالتا شيئاً عن اليوم الآخر ؟ هل سردتا روايةً عن خيانته للغزال ؟ هل وعدتا بالقصاص ؟ تبادل قابيل معهما الخطاب والأدوار، غاب فيهما وغابتا فيه، فلم يعُد يعرف أين هو ولا مَن هو، هو الودّان والودّان قابيل .

دعا الحيوان الخفي إلى رحلة، تاها معاً في الصحراء، عبر به الحمادة وهو يمتطي ظهره، عطش وجاع وحطّم رأسه الصداع، فوجد أنٍّ الودّان العظيم قد طار به عبر أمواج بحر الرملة، ودخل فلاة أُخرى يغمرها السراب، وتتدفق على كثبانها أشعة الشمس . اشتدَّ عطشه وجوعه وصداعه حتى كاد يسقط من على جسم الحيوان العظيم . بلغ به صحراء جبلية سفوحها الوعرة مفتوحة الأفواه بالتجويفات الظلماء والكهوف المعتمة . تنقّل الودّان بين الصخور القاسية في رشاقة مدهشة . هدَّه التعب، ولكنَّ الجوع كان أكثر من كل الأمراض، تململت الدودة الشيطانية في أسنانه فنهش رقبة الودّان، والتهم قطعة لحم، ولكنَّ الحيوان لم يتوقف عن القفز بين أحجار الجبال، غرس أنيابه في رقبته، ونهش قطعة أُخرى، واستمر ينتزع اللحم من جسده دون أن يتوقف الودّان عن العدو، بل إنَّ سرعته بدأت تتضاعف مع كل نهشة حتى كفّت حوافره عن ملامسة الأرض، وظلت طائرة ومعلّقة في الفضاء .

صعد الحيوان قمة جبل عالية، فاكتشف قابيل أنَّه يجلس على ظهر رجل بائس لم يعرفه من قبل، نحيل الجسم، طويل القامة، تقطر من رقبته الدماء، وقبل أن يفيق من هول التحوّل رفع الرجل نحوه وجهاً شقياً وقال له: (لا يُشبع ابن آدم إلاَّ التراب) ورمى به من القمة السماوية، فوجد قابيل نفسه يطير إلى الهاوية " .(20)

يبلغ الودان في هذا الجزء المثير من الرواية أقصى تلويناته، فقد اندمجت الشخصيات فيه إلى حدّ التماهي الذي تغيب فيه الحدود، وعلى الرغم من تشعُّب وتفارق علاقة الشخصيات به (الأب والابن وقابيل) فإنّه استطاع أن يصهرهم جميعاً في بودقة واحدة، ويوحد مصائرهم ويقودها باتجاه النهاية المحتومة، تلك النهاية التي تقذف بصاحبها إلى الهاوية .

وقابيل الذي يمثل الراكض خلف الودّان، الساعي إلى لحمه يسير أيضاً باتجاه الهاوية، لكنه لن يعانقها وحده بل سوف يجر إليها مَن يعترض طريق شراهته، وفي اللحظة التي يبدأ فيها بنهش لحم الودّان – وهو على ظهره – اتباعاً لصوت نفسه ولصوت بطنه في الوقت ذاته، ينقلب الودّان إلى أسوف، وتلك هي الهاوية التي يحاول الودّان أن يقود إليها كلاً من أسوف وقابيل .

تشكِّل لحظة التطاول على الودان تحديداً لخطة الشروع بالحركة باتجاه الهاوية، وإن كان قابيل لا يدري مَن منهما أسوف أو الودّان، فأصبح بذلك يمثِّل صورة الودّان حالما يتحول إلى جلاد، وحينما يغرز أنيابه في لحم الودّان تظهر صورته الثانية، صورة الضحية التي سوف يندرج فيها هو وأسوف، لأنَّ الودّان سيغريهما ليدفع بهما إلى مثواهما الأخير الذي هو قعر الهاوية .

ومثلما تحوَّل الودّان إلى أسوف في رؤيا قابيل، فإنَّ وقوع ذلك على النص الروائي ليس ببعيد، بل هو واقع لا محالة .

" ضحك قابيل بجنون، وقال ملوِّحاً بالسكين اللامعة في الفضاء:

- لم أعد في حاجة الى جمالك . لدي جملي . لدي ضحيتي . انظر الا ترى الودّان المعلق هناك، إنه ودّان . كيف لم أنتبه الى ذلك من قبل ؟ ها ... ها ... يالي من اهبل !

القى القاتل بالرأس فوق لوح من الحجر في واجهة الصخرة، فتحركت شفتا أسوف، وتمتم الرأس المقطوع المفصول عن الرقبة .

- لا يشبع ابن ادم الا التراب !"(21)

في رؤيا قابيل، عندما نهش لحم الودّان تحوَّل الودّان إلى أسوف أمّا الآن فإنَّ غياب الودّان قلب الأمر على وجهه الثاني ليتحوّل أسوف هذه المرة إلى ودّان، ترسم هذه الحركة العكسية خطاً بيانياً لمصير كل مَن دخل في علاقة مع الودّان، وعندما نحاول متابعة حركة قابيل مع الودّان نجد أنَّه لهذا الحيوان أكثر من دور أثناء سيرورة تلك الحركة، فقابيل في البداية كان لاهثاً خلف الودّان، وكان وجود أسوف عائقاً يتموضع في طريقه، وعندما أصبح بحثه بلا جدوى تحوَّل إلى شبه مجنون، وانعطفت سيرورة الحركة باتجاه أسوف، هنا تلبَّس قابيل – كما تؤشر الرؤيا – بقناع الودّان بعد أن تحوَّل إلى جلاد، من جهة ثانية تحوَّل قناع الودّان – بوصفه ضحية – إلى أسوف، ومن قبلها الأب ليصبحوا ضحايا لجلاد واحد هو الودّان بعد أن وزّع عليهم أقنعته بالتساوي، واعتلى قمة الجبل ليتسلى بمشاهدة السيناريو الذي صنعه بمهارة لهذه الأطراف المتنازعة بسببه .

إنَّ الودّان – كما يترشح من منظور الحبكة – هو تجلٍّ للخطيئة التي تحيط عنق الإنسان، تلك الخطيئة التي تُحدِث خللاً في انسجام عناصر الكون وموجوداته، وتشكِّل في النهاية مأزقاً للوجود الإنساني بمختلف تمظهراته، ويبدو وجود الودان من جهة أُخرى فاصلاً أو حاجزاً يشتغل باتجاه عدم انفراج الأزمة، ولا يمكن للإنسان مهما حاول أن يتخلص من هذا المأزق، لأنَّ الهاوية في نهاية المطاف ستكون بانتظاره، كما أنَّ كينونة الإنسان الشرهة المجبولة على الخطيئة تجد دائماً تجسيداً لها من خلال الودّان عندما يُفعِّل تلك الكينونة عند النتوء الجبلي – المنطقة الوسطى بين الحياة والموت - الذي أصبح رمزاً للسقوط في المأزق .

 

- الأيقونة الحجرية بوصفها مأوى مناظير الحبكة

في البداية صلّى أسوف متجهاً نحو الصخرة الحجرية العظيمة، وهو الآن يُقتل مصلوباً على الصخرة ذاتها، محتلاً موقعاً حَدَثياً أمعن السارد من خلاله في إحداث تطابق بينه وبين الودّان، وبذلك يستكمل سلسلة حياته معه، والتي لم تخرج في كل تفاصيلها من المأزق الودّاني، الذي أُقحم فيه، ويميل السارد في النهاية إلى كشف المستور من تلك الصخرة، بعد أن أخفاه طويلاً: تقاطرت خيوط الدم على اللوح الحجري فوق اللوح المدفون إلى نصفه في التراب كتب بـ (التينيناغ) الغامضة التي تشبه رموز تعاويذ السحرة في (كانو) عبارة:

" أنا الكاهن الأكبر متخندش انبيء الأجيال ان الخلاص سيجئ عندما ينزف الودّان المقدس ويسيل الدم من الحجر . تولد المعجزة التي ستغسل اللعنة، تتطهر الأرض ويغمر الصحراء الطوفان " .(22)

بهذه النهاية أمكن لمنظور الحبكة أن يوجِّه المتلقي إلى اهتمام متزايد بتلك الصخرة، ورشَّح استجابته الجمالية، كما مكَّنه من بناء هيكل للنص الروائي الذي سعى – في مجمله – إلى اعطاء صورة حاضرة لما حدث في الماضي على الصخرة في هذه الصحراء، أو المضمّن بصورة رمزية على تلك الصخرة من خلال الانسجام بين الكاهن والودّان .

وبهذه الطريقة رشّح هذا النص الروائي نفسه ليصنَّف ضمن مفهوم الرواية الذي يُعدُّ الرواية " تأملاً في الوجود تتم رؤيته عبر شخصيات خيالية " .(23) وقد حاول الروائي ابراهيم الكوني تحقيق هذا المعنى من خلال تشكيل عالم روائي تمازج فيه الواقعي والتأريخي والأُسطوري .

 

د. وجدان الخشاب

العراق

...................

- الهوامش

• المعنى الادبي من الظاهراتية الى التفكيكية: وليم راي / ت: يوئيل يوسف عزيز / دار المأمون للترجمة والنشر / بغداد / 1987 / ص17 .

• نقد استجابة القارئ، من الشكلانية الى ما بعد البنيوية: جين، ب، تومبكنز / ت: حسن ناظم وعلي حاكم / المجلس الاعلى للثقافة / 1999/ ص 239-240.

• نظرية الاستقبال، مقدمة نقدية: روبرت دي هول / ت: رعد عبد الجليل / دار الحوار للنشر والتوزيع / سورية / 1992 / ص 91- 92 .

• القارئ في الحكاية: امبرتو ايكو / ت: انطوان ابو زيد / المركز الثقافي العربي / بيروت / 1996 / ص 237 .

• مقدمة نقدية في نظرية القراءة: جوناثان كلر / د . نبراس عبد الهادي محمود / مجلة الثقافة الأجنبية / ع2 / 1998 / ص 51 – 52.

• نقد استجابة القارئ / ص 113 .

• المعنى الادبي / ص43 – 44 .

• نظرية الاستقبال / ص 106 .

• نفسه / ص 108 .

• المعنى الادبي / ص 46 .

• القراءة والتأويل: ايان ماكلين / ت: خالدة محمد / مجلة الثقافة الاجنبية / ع1 / 1999 / ص 8 – 9 .

• لن يشبع ابن ادم إلا التراب، قراءة في رواية ( نزيف الحجر) لابراهيم الكوني: روجر الن / ت: غازي مسعود / مجلة الجديد في عالم الكتب والمكتبات / بيروت – عمان / ع 10 / 1996 / ص 14 .

• نزيف الحجر: ابراهيم الكوني / المملكة المغربية / ط2 / 1999 / ص 8 .

• نقد استجابة القارئ / ص 116 .

• نزيف الحجر / ص 28 – 29 .

• نفسه / ص 112 – 113 .

• جمالية التلقي والتواصل الادبي: هانز روبرت ياوس / ت: سعيد علوش / مجلة الفكر العربي المعاصر / ع 38 / 1986 / ص 106 .

• نزيف الحجر / ص 145 – 146 .

• نفسه / 151 – 153 .

• نفسه / 153 .

• فن الرواية: ميلان كونديرا / ت: د . بدر الدين عردوكي / الاهالي للطباعة والنشر والتوزيع / سورية / 1999 / ص 87 .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم