صحيفة المثقف

أكتب عنه .. ليس لأنه أبي

jamal alatabiالدوّاية، قرية تحيط بها الأهوار، في ريف الشطرة، مسكونة بالطيوروالأسماك، بيوتها من طين، حين ينزل المساء فيها، تغطّ في الظلام ونوم الوجوه المجهدة، الإمن أضواء فوانيس بدائية خافتة، مترددة ومهزولة، أبخرة دخان كثيف يلف بيوتها، دخان متصاعد من طوامير فضلات الحيوانات، لوتطلعت إليها، إلى سحنتها عند النهار، لإنتابك شعور بالإختناق، وأنت تتنفس السخام الذي أحال الجدران إلى كتل سوداء متناثرة، وفي مدى الرؤية البعيد روائح الرز، وروائح عطش ترسم خطوطاً عميقة من الحيرة .

في أربعينيات ذلك العالم (القرن الماضي) تفتحت أحداقنا، على نساء متعبات ينقلن الحطب والماء، ويحصدن الزرع وينجبن، وفتيات مفرطات في الحياء إلى حدٍ مرهق، وأطفال حفاة تغوص أقدامهم في أطيان تظل عالقة فيها لأيام عديدة، ورجال بوجوه شاحبة تبرز فيها عروق محتقنة، وآثار تبغ رخيص صبغ أسنانهم المتآكلة بالسواد، لكن في محاجرهم طيبة ونعاس .

شهدت تلك السنوات، إفتتاح أول مدرسة إبتدائية في تلك القرية، مجموعة من الأكواخ تبدو كالمقابر، تناثرت على تربة لزجة لايحيطها سوى أعواد البردي والقصب المتيبسة، كل مايحيط بالمكان يوحي بالأنين والأسى، تشاء الصدف ان يجتمع فيها نخبة من خريجي (دار المعلمين الريفية )، التي كانت معهدا فريداً لإعداد معلمين متسلحين بمهارات تربوية وعلمية ومهنية وفنية ورياضية، متقدمة على عصرها أنذاك، بسبب نظامها التربوي المتطور، وبرامجها الدراسية الرصينة، التي إستعارت خبرات وتجارب الأمم المتحضرة، فعملت بها، فضلاً عن كادرها التدريسي الذي درس وتعلم في جامعات عربية وأجنبية.

حسن العتابي المعلم في مدرسة الدواية مع مجموعة من زملائه، عبد جياد العبودي، عبد الحسن عيسى، جواد كاظم الجويد، وآخرين، هؤلاء وجدوا في تلك البقعة عالما يتسع لإحلامهم الكبيرة، وفي شحوب الليل نجوماً مضيئة تورق في مخيلتهم، أماناً وشبابيك تطلّ على مستقبل تزدهر فيه الأرض بالورود، المدرسة الطينية، كانت مسكنهم كذلك، ومرفأً تستقر فيه أشرعتهم، التي لاترحل، تستيقظ فيهم الأماني والرغبات كالينبوع، والافكارالتي بدأت تنمو.

ماسرّ كل ذلك الفرح؟ وأي سعادة تغمرهم؟ غير إيمان بعدالة قضية، ورسالة يؤدونها، ويقين صادق وعميق بالافكارالتي بدأت تتسلل الى عقولهم، وبنظام جديد إعتقدوا إنه إسلوب الحياة الجديد، والطريق الأمثل للتطور.

مشياً على الأقدام، أو على ظهر فرس، لابد لحسن العتابي أن يصل الشطرة، ويمضي يوم الجمعة للإتصال برفاقه، يعود محملاً بالأسراروالكتب ومجلات الاديب والرسالة والهلال، التي توفرها مكتبة الغراف لصاحبها عبد الحميد الناصرالذي أسهم بشكل فعال في نشر الثقافة بين أبناء المدينة وماجاورها من مدن أخرى، وتأسيس البدايات الأولى للوعي الفكري والسياسي، كان العتابي يجد في كتب طه حسين وسلامة موسى وجورج حنا وجبران خليل جبران، وما يصدر عن دور النشر المصرية واللبنانية من تراجم وروايات، الزاد الملاذ والبديل عن واقع يعتريه الأسى والجوع، حيث الطرقات الخاوية إلا من بقايا فضلات الحيوانات الهائمة على وجهها، وهناك يترقب زملاؤه بلهفة، لحظة الوصول، يتسابقون على القراءة، يستنطقون الحروف والكلمات بدهشة .

العالم يعيش عصر تحولات كبيرة، نهاية الحرب العالمية الثانية، إندحار الفاشية، ولادات قيصرية لأنظمة جديدة (إشتراكية) في أكثر من بلد أوربي بمساعدة الجيش الأحمر، العتابي مستشعراً بتلك التحولات، يلتقط المتغيرات بوعيه المبكر عبر اؤلئك القادمين الى مدن الغراف، وهم يحملون المنشورات والبيانات السرية للحزب الشيوعي العراقي، مأخوذاً ببهجة هلامية، منحازاً بالطبع لتلك التحولات .

بسبب نشاطه السياسي، ينقل الى مدرسة ريفية أخرى في (سويج شجر، الفجرلاحقاً) عام 1949، لم ينقطع عن نشاطه الفني والرياضي، في تلك القرية التي لم ترَ مصابيح الكهرباء بعد، يقيم مسرحا على طاولة لعب كرة المنضدة، ويشكل فريقا مسرحياً، وآخر رياضياً يحرز المركز الأول على مدارس الريف في لعبة الكرة الطائرة، وينصرف للرسم، وصنع وسائل الإيضاح بالجبس والخشب، ليكشف عن مواهبه الجديدة التي أهّلته للتفوق وإحراز الجوائز في المعارض التي تقيمها مديرية معارف المنتفك (الناصرية)، وينال تقديروشكر مسؤوليه، يضاف لها تمكنه من اللغة العربية وضبط قواعدها، ومعرفة بالخط العربي وإجادة كتابته بقواعده وأصوله، وتشكيلاته الجمالية .

في عام 1951 ينقل إلى الغازية (النصر بعد تموز58)، متواصلا بمساره التربوي والفني، وتنضج تجربته في التشكيل معتمداً ألوان الزيت والفحم في رسم البورتريت، وقدّم أعمالا في غاية الجودة والجمال، وهو لم ينقطع عن نشاطه السياسي والحزبي، مع مجموعة من أبناء (الغازية)، ومنهم ذياب الحاج طاهر، وعودة السيد علي، وكاظم كنيو، ومحمود جوار العكيلي، الذين شكلوا أولى الخلايا الحزبية في الناحية، وبدأ يتصاعد همس أبناء المدينة، وهم يراقبون نشاطا لم يألفوه سابقا، وإجتماعات تتم في السرفي أماكن بعيدة عن العيون، وبدأت المدينة تستقبل زواراً قادمين من الشطرة (عيسى جعفر، هشام مرزه)، كمبشرين بأفكار تبدو كالأحلام، يلتقون بالعتابي، يجمعهم الثراء الروحي والأمل بمستقبل جديد .

صبيحة الرابع عشر من تموز58، تستيقظ الغازية على صوت لا يشبه الأصوات المعتادة ليعلن نهاية النظام الملكي، وبداية العهد الجمهوري .الحدث كان كالعاصفة البدائية التي غيرت الأنظمة والمفاهيم والعلاقات، الغازية الوديعة تتحول الى (النصر)، أسمها الجديد، سرعان ما تخلّت عن ولائها للملك غازي، وهي تتهيأ لإحتفالية جديدة، ليس لها شميم الماضي ولاعطره ولاذكرياته . ما أصاب العراق من صراعات سياسية وحزبية، أصاب هذه المدينة الصغيرة، فزحف اليها فايروس التناحروالاختلاف ومزّق نسيجها الإجتماعي، قوى سياسية مشتبكة، مصالح متضادة، أجهزة حكومية وأمنيّة تؤجج الصراع، فئات متضررة تشعل الحرائق .

ذات صباح خريفي من عام 58، تصحو المدينة على هدير الاصوات الزاحفة نحوها، جموع من الفلاحين الحفاة، ضاعت ملامح وجوههم لكثافة الأتربة التي علقت بها، وغطّت محاجر عيونهم، صراخ بعمق المَدَيات التي قطعوها، ينشدون (شوفَة) الزعيم، المطلب الرئيس والملّح، السفرالى العاصمة واللقاء به، وليس سواه من بين هؤلاء، الفلاح (جبارة المحروث)، الأكثر حماسا واندفاعا لتحقيق أمنية عمره برؤية الزعيم، وهولايملك شروى نقير سوى كيس التبغ الذي تآكلت أطرافه، يتقدم نحو حسن العتابي، معتقداً انه قادر على تأمين رغبته حالا، لم يفكر المحروث بالعودة الى بؤسه وجوعه، وحالما تسلل اليأس الى نفسه، وتبدد حلمه، توجه بكفين مفتوحتين نحو السماء مناشداً ربّه بألم وحزن (اللهم أدعوك أن تحرم حسن العتابي من الهَوَه-الهواء- لأنه حرمني من شوفة الزعيم)

ويبدو ان لوعة جبار كان لها الفعل الأقوى والأمضى، فإستجاب رب العالمين لدعواه، إذ لم تمض بضعة أسابيع على (ربيع اليسارالعراقي) إلاّ وبدأت الأجهزة القمعية تطارد جمهوره، فأعتقلت المئات منهم، وكان نصيب العتابي من هذه الهجمة، العديد من الدعاوى الكاذبة والملفقة، وإحالة الى المجالس العرفية، في زمن (الزعيم ) .

غابت النشوة السحرية التي كانت تمتلك حواسه، وقف على أبواب مدن كثيرة، أنصت إلى الأصوات الآتية من الماضي، فلم يفلح في إسترجاع صوته هو .. إذ داهمه العمل السياسي الحزبي، الذي إنصرف إليه بإيمان وعقيدة وثبات، وإنغمرفيه بوعي تام، يمسك به كمفتاح كبير للدخول إلى المستقبل .

يروح مكبلا ًبحديد (الثورة) إلى سجن الكوت، حتى شباط 63، ينتفض المحكومون ويقتلعوا أبواب زنزاناتهم، ويشاركوا أبناء المدينة المنتفضين على سلطة الإنقلاب، لكن إلى أين المسير؟ والاصوات المبحوحة تتصاعد عبرإذاعة بغداد (إقتلوهم، إذبحوهم !!!)، فليس أمام حسن سوى الهرب نحو التيه، في لحظة تشوش وإرتباك، يلتفت بوجهه صوب الجنوب، نحو ريفه الذي بدأ فيه، مختبأَّ بين أهله وظهرانيه، ثم يعود لممارسة عمله السياسي والحزبي، في ريف الناصرية، محملاً بعشرات السنوات من الأحكام الغيابية، غير عابىء بالنتائج، وغير مبالٍ بمصير عائلته .. يتنقل هنا وهناك، حتى عام 1966 إذ توجّب عليه الإنتقال الى مدينة الرمادي، لغاية عام 1968، بعد أن أصدر إنقلابيو تموز عفواً عاماً عن السجناء السياسيين، وأُعيد إلى وظيفته في التعليم .

العودة إلى العمل يرافقهامن جديد،، إنخراط في العمل المهني الديمقراطي إلى جانب السياسي، فكان ممثلا للحزب في نقابة المعلمين، فضلا عن نشاطه الصحفي، كمشرف على صفحة المعلم والتعليم في جريدة طريق الشعب طوال فترة السبعينيات، وقدم مثلاً رائداً في العمل والإلتزام، ونموذجاً حريصاً ومثابرا، يشهد له جميع من عملوا معه .

شيّد حسن العتابي عالمه الجميل، وحاول أن يرعاه بيده، ودرّب آخرين من أبنائه وأبناء جيله على مهمات عديدة، ووجد الكثيرمن المسوغات في إقناع الآخرين لمشروعه السياسي، وظل وفياً لمبادئه وقيمه التي آمن بها بصدق وحرارة، وبسبب هذا الإيمان، تذوق العذاب، وعاش أياما وسنوات صعبة، لكن ذلك لم يثنه من عمله الدؤوب، في بلد ضاربة فيه الدكتاتورية والإستبداد، صابرَ وتحدى المعاناة العراقية التي صنعتها الحروب والحصارات، لم يغادر وطنه، على الرغم من كل ما يحمله هذا الإختيار من عذابات له، وإكتفى بالأمل حتى وهو يفقد أحد أبنائه الشهيد سامي، الذي غيبته الدكتاتورية عام 81، ويالها من مهنة شاقة، إذ كان إختطافه وغيابه حدثاً مفجعاً للوالد، رغم ذلك ظل شامخاً، أصيلاً، متسامياً، وكان هو الوحيد المؤهل لكفكفة دموعنا .

حسن العتابي مقيم دائماً بنا، نتطلع إلى قسمات وجهه صبح مساء، علّنا نطمئن على انه لم يغادر نهاية عام 2007.

ختاما أقول لاصدقائي القراء: هل إقتنعتم لماذا أكتب عنه؟

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم