صحيفة المثقف

الاسترقاق يجتثّ جذور الإرهاب.. هذا ما يراه المرجع صادق الشيرازي

ثمّة أزمات أخلاقيّة تواجه الباحث الذي كبّل نفسه بمجموعة من المنطلقات الكلاميّة الموروثة وهو يفتّش عن (بعض) الأحكام الفقهيّة الإسلاميّة؛ إذ كيف يمكن لهذه الأحكام أن تنسجم مع مقاصد الدين وأهدافه وهي تكرّس لظواهر لا تنسجم مع أبسط المبادئ الإنسانيّة والأخلاقيّة، بل تصطدم تمام التصادم معها، وتنفيها بالمرّة؟!

سأتوقّف اليوم مع أحدى تجليّات هذه الأزمات الأخلاقيّة وهي: (أحكام السبي والاسترقاق في الإسلام)؛ فقد شهدت العصور المتأخرة مساعي حثيثة لتفسير هذه الأحكام بنحو ينسجم مع المبادئ السامية التي تميّز بها الإسلام عن غيره كشريعة سماويّة خاتمة. وفي سياق ما نوّهت إليه سابقاً من خطورة المنهج الفقهي المتداول على الدين: أجد من المناسب أن أضع بين يديّ القارئ بعض المحاولات الفقهيّة في هذا الشأن؛ ليطّلع على طبيعة التحليل الذي يقدّمه الفقهاء لمثل هذه المواضيع الجدليّة، فقد طالعنا السيّد صادق الشيرازي، المرجع الشيعي المعاصر، بتفسيرٍ لافتٍ، احتمل على إنّه هو السبب الذي حدا بالإسلام لإقرار الرقّ والاستعباد، وبذلك نوفّق في دفع الشبهات التي تُثار على الإسلام في هذا المجال حسب تعبيره، وقد غاب عن ذهن سماحته (دام ظلّه): إنّه بهذا التفسير يُسهم في تكريس هذه الشبهات وتأصيلها أكثر وأكثر.

لنصغي إليه وهو يحدّثنا عن ذلك، ونعطف الحديث بعدها عن التصوّر الذي اعتقد بصحّته لأمثال هذه الأحكام [وربّما غيرها أيضاً]، قال السيّد صادق الشيرازي في رسالته العمليّة، علماً إن ما بين معقوفتين إيضاح وتعليق منّي:

«إن الإسلام إنّما أقرّ نظام الرقّ الذي كان موجوداً قبل الإسلام؛ لحكمة بليغة ومصلحة رفيعة، لا يمكن تداركها إلّا بإقرار هذا النظام بقدر الحاجة والمصلحة الملحّتين في إطار نظيف، على ما هي القاعدة المطّردة في جميع التشريعات الإسلاميّة... وذلك أن الإسلام جعل الاسترقاق وأمضى الرقيّة في حقّ الكفّار الذين يحاربون الإسلام، فإذا استولى المسلمون على الكفّار المحاربين أُخذ أسرى الحرب أرقّاء عبيداً، وذلك خيراً من أن يسجنوا، أو يُقتلوا، أو يُفكّوا إلى أهاليهم؛ وذلك:

[1] لأنّ السجنَ كبتٌ.

[2] والقتل إفناء لا داعي له.

[3] والفكّ سبب تجرّيهم وتآمرهم من جديد.

علماً بأن قوانين الحرب الدولية المعاصرة [كما يعبّر] تفعل أحد هذه الأمور الثلاثة مع أسرى الحروب، مع أنها [أي هذه الأمور الثلاثة] تخالف للعقل السليم والفطرة الصحيحة، [ولا أدري كيف عرف الشیرازي مخالفتها؟!]. إذن؛ فلا سبيل أحسن من جعلهم أرقّاء موزّعين، تحت رعاية الأسياد ورقابتهم ورحمتهم؛ وذلك جلب لخيرهم، ودفع لشرّهم... مثل هذا الرق يقرّه العقل [أي العقل الفقهي الشيرازي]، وتستسيغه الفطرة [أي الفطرة الفقهيّة عنده أيضاً]؛ لأنّه يسبب الأمن والاستقرار للناس، وينفي الحروب ويطفئ نيرانها بنسبةٍ كبيرةٍ، ويجتثّ جذور العنف والإرهاب من بين المجتمعات [ولهذا مارسه الدواعش!!!]... هذا بالإضافة إلى أن مثل هذا الصنيع [أي الاسترقاق والاستعباد] ممّا يحدّ من نشاط الكفّار والمتآمرين، ويمنع من إثارة الحروب وإشعال نيرانها؛ فإنّ كثيراً من النفوس على استعداد لأن تقتل أو تسجن، ولا تجد استعداد الاسترقاق تحت يد السادة، إلا القليل من الناس أو أقلّ من القليل فكيف يرضى الإنسان أن يصبح رقّاً يُباع ويُشترى في أيدي السادة فيَعمل لهم‌ كالخدم، ويوصم بهذه الوصمة، إنّ مجرد التفكير في ذلك مما يصرف أكثر الكفار عن محاربة المسلمين [!!!]»، انتهى ما أفاده (دام ظلّه). رسالته العمليّة، ص596.

وبغض النظر عن الملاحظات التفصيليّة على هذا الكلام؛ وبغض النظر أيضاً عن قصّة الاسترقاق التي تحتاج إلى دراسات متخصّصة، بودّي أن أسأل الشيرازي على عجالة عابرة: ما دام الاسترقاق وسيلة تربويّة وليس هدفاً وغاية إسلاميّة كما تقول، فما هي الحاجة إلى تعميم هذه الوسيلة إلى جميع الأمكنة والأزمنة والظروف؛ فالوسائل التربويّة العقابيّة كائن حيّ ينمو ويتطوّر تبعاً لتطوّر الجريمة، وربّما تجد اسلوباً تربويّاً ناجعاً في مجتمع ما، غير ناجع في مجتمع آخر، وربّما تجد العكس، ومن هنا فالأساليب التربويّة بنت زمانها ومكانها، على أن الإسلام لم ينزل إلى الأرض ليهدي كائنات ملائكيّة، بل نزل إلى كائنات بشريّة تمتلك إرثاً كبيراً من الظواهر السلبيّة والمواضعات الاجتماعيّة التي لم ولن يوفّق في استئصالها بالكامل، نعم تماشى فترة معها، وسعى في نفس الوقت لتخليص المجتمع منها، وترك المهمّة الباقية للعقل البشري وتطوّراته، وفقاً للقواعد المتعالية التي رسمها له.

وفي هذا الضوء: لا يمكن أن نقرأ ظاهرة السبي والاسترقاق بمعزلٍ عن المواضعات الحربيّة والعسكريّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة... السائدة في تلك الأزمنة، وبالتالي: فلا إطلاق في نصوص هذه الأحكام العقابيّة لنعمّمها إلى غير تلك المواضعات والسياقات، لنحتار بعد ذلك في كيفيّة انسجامها مع مقاصد الشريعة وروحها، ونعرّض الإسلام وأنفسنا إلى مئات التساؤلات المحرجة التي تضطرّنا إلى الترقيع والكذب تحت ذرائع التقيّة والعناوين الثانويّة... .

وأخيراً: علينا أن نعترف بأن كثيراً من ردّات الفعل السلبيّة التي نشهدها بين الفينة والأخرى من قبل بعض الشباب الشيعي وغيره إزاء الإسلام، سببها هذا الّلون من التحليل الفقهي الخاطئ، والذي أسّرَ صاحبه ببعض القواعد الكلاميّة والأصوليّة غير المتحرّكة، والتي ولّدتها أسئلة الرواة اليوميّة؛ إذ كيف نسمح لأنفسنا كفقهاء نعيش في القرن الواحد والعشرين أن نستهوي غير المسلمين بهذا الخطاب الجارح، ونقول لهم: إن سَبْيكم واسترقاقكم سيجتثّ جذور العنف والإرهاب من المجتمعات الإسلاميّة؟! وهل الإرهاب الذي تعيشه هذه المجتمعات بل العالم برمّته إلا بسبب هذا الّلون من القراءة والفهم الفقهي للنصوص الدينيّة؟!

إن ما كتبه السيّد صادق الشيرازي (حفظه الله) في رسالته العمليّة ينبغي أن يكتب عليه كما يُكتب على بعض الأفلام السينمائيّة: (ممنوع على الأحداث)؛ لأنّ هذا الّلون من التحليل الفقهي يشرعن للإرهاب الحديث أعماله، ويُسهم في وضع الفقه الشيعي في زاوية حرجة جدّاً، والله من وراء القصد.

 

ميثاق العسر

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم