صحيفة المثقف

إجازات السيّد الشاهرودي الكبير (1974م)

للوكلاء ذوي المكانة الاجتماعيّة والوجاهة العشائريّة دورٌ مهمٌّ في تمرير مرجعيّةٍ، وإقصاء مرجعيّة أخرى، وقد كان هذا الأمر كافياً لمنح هذا الطيف من الوكلاء اهتماماً أكبر من قبل (بعض) المرجعيّات الدينيّة في عشرينيّات القرن المنصرم، فزودوهم بالشهادات العلميّة التي تقرّ بفضلهم وعلمهم وتقواهم؛ ليسهموا بذلك في تعزيز مكانتهم الاجتماعيّة والعشائريّة في مناطقهم، وإضفاء شرعيّة دينيّة على مواقفهم وحركاتهم، بل نلحظ دفع (بعض) المراجعِ طلّابهم الذين يمتلكون مثل هذه الخصوصيّات نحو الاستقرار في مناطقهم؛ لخدمة الناس وحلّ مشاكلهم، وإجابة استيضاحاتهم وأسئلتهم، واستلام حقوقهم الشرعيّة؛ وإرجاع الناس إلى تقليدهم حين تنجّز التكليف، ليس ذلك ناشئاً من هوى النفس لا سمح الله، بل يأتي ذلك في سياق قناعات علميّة ودينيّة مبرّرة في قناعاتهم.

وفي سياق هذا الاهتمام سأقارن اليوم بين نموذجين من إجازات الاجتهاد الصادرة من السيّد محمود الشاهرودي الكبير، صدرت الأولى في أواسط أربعينيّات القرن المنصرم في أثناء مرحلة التأسيس لمرجعيّته، وصدرت الثانية في مطلع سبعينيّات القرن المنصرم في أواخر عمر مرجعيّته، أقارن بينهما لأقرأ الآليّات والصياغات التي حملتها؛ لأطرح بعد ذلك الاستنتاج الذي أريد الوصول إليه من خلالهما.

في حزيران عام (1944م) وقبل وفاة السيّد أبو الحسن الأصفهاني بسنتين تقريباً، منح السيّد محمود الشاهرودي إجازة اجتهاد إلى الشيخ عبّاس عوّاد الخويبراوي، والمتوفّى سنة: (1967م)، [والد الداعية المعاصر: الشيخ محمد باقر الناصري]، وقد جاء في هذه الإجازة العبارات التالية: «الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وفضّل مدادهم على دماء الشهداء، ونصبهم أعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده؛ يهتدي بنور هداهم الضالّون، ويفيئ إليهم المتجاوزون، نصّ على ذلك إمامنا الثاني عشر، الحجّة المنتظر "عج"؛ حيث قال في شأنهم، مخاطباً مواليه وشيعته، مرشداً لهم إلى من يرجعون في حال غيبته، في مهمّاتهم الدينيّة: هم حجّتي عليكم، وأنا حجّة الله عليهم. ومّمن سّمت به نفسه الزكيّة، وهمّته العالية السنيّة، إلى تسنّم هذه الذروة البهيّة، جناب قرّة عيني الأعزّ، حجّة الإسلام وملاذ الأنام، التقيّ الورع، العالم العلّامة، الثقة الأمين: الشيخ عبّاس أدام الله تأييده وتسديده، ولقد أتعب نفسه الطاهرة في تحصيل العلوم الدينيّة، عن مداركها النقليّة والعقليّة، حتّى بلغ مراتب الفضل والفضيلة، ودرجة الاجتهاد، فله التصدّي لكافّة الأمور الحسبيّة، وأسأل الله أن يحفظه وينفع به المؤمنين... (24) جمادي الثانية، (1363ق)».

وبعد ما يقرب من ثمانية وعشرين سنة، أي قبل وفاة الشاهرودي بثلاث سنوات، وفي اكتوبر من عام: (1971م) تحديداً، منح سماحته إجازة اجتهاد إلى تلميذه، الفقيه المتنوّر المعاصر: الشيخ إبراهيم الجنّاتي، وقد نقل الأخير قصّة حصوله على هذه الإجازة، فقال ما ترجمته: «حينما طلبت من السيّد الشاهرودي أن يكتب لي إجازة بالاجتهاد دعوته إلى اختباري قبل ذلك من خلال طرح مجموعة من الأسئلة في مختلف الأبواب، فرفض الشاهرودي ذلك، وأخبرني إنّه يعرف مستواي العلمي بالكامل ولا حاجة للامتحان، وكان هذا الأمر بسبب مساعدتي إياه في كتابته لحاشية كتاب العروة الوثقى، وحاشية الرسالة العمليّة، ومناسك الحجّ العربي والفارسي، مضافاً إلى كتابة ما يقرب من (4000) صفحة من بحوثه الفقهيّة والأصوليّة والمطبوع أغلبها، كما قد كتبت بحوث غيره من الأساتذة أيضاً... لكنّي ومع هذا كُلّه أصرّيت على أن يمتحنني قبل منحي الإجازة، وعلى أساس هذا الإصرار طرح سماحته خمس أسئلة أجبتها كتابيّاً وشفويّاً، والتي طُبع أحدها ككتاب حمل عنوان: (مفاد قاعدة الإلزام)، وهكذا منحي إجازة اجتهاد عالية المضمون». وقد جاء في هذه الإجازة ما يدّل بوضوح على هذا النقل حيث نلاحظ: «...إن جناب عمدة العلماء العظام، حجّة الإسلام والمسلمين... قد حضر أبحاثنا الفقهيّة والأصوليّة، حضور تفهّمٍ، بتحقيق وتعمّق وتدقيق، وأتعب نفسه الشريفة في كتبها وضبطها، ليلاً نهاراً، وبعد اختباره وامتحانه: شفهاً وتحريراً، ثبت لدينا إنّه قد بلغ مرتبة سامية من الاجتهاد التي لا ينالها إلا ذو حظّ عظيم، فله العمل بما استنبط وما يستنبطه من أحكام، على النهج المألوف بين الأعلام، ويحرم عليه التقليد، فلله درّه، وعليه سبحانه وتعالى أجره...(25) شعبان/(1391ق)».

وقبل أن أسجّل تعليقاتي على هاتين الإجازتين أجد من الّلازم أن أشير إلى ملاحظة سيّالة تُلقي بظلالها على عموم ما أكتبه في هذه المقالات: ليس الحديث في هذه المقالات عن علم المُجاز الواقعي واجتهاده؛ فربّما يكون عالماً نحريراً لا يشقّ له غبار ولا يُعثر له على عثار في الحقيقة ونفس الأمر، ولكنّا نتحدّث عن طبيعة المرتكزات التي آلت إلى إصدار هذه الإجازة العلميّة، فهل هي مرتكزات علميّة ظهرت ولاحت وتوضّحت للمُجيز من خلال ما قرأه وطالعه وخَبِره وما عرفه من المُجاز، أم إنّها ارتكزت على أشياء أخرى، هي التي دفعت المُجيز لإصدارها كما هو الحال في إجازات السيّد أبو الحسن الأصفهاني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء كما مرّ بنا في المقالات السابقة.

وبعد هذا الإيضاح الضروريّ أقول:

أولاً: إن الإجازة الأولى جليّة تصرخ بأعلى صوتها إنّها لغرض تعزيز المكانة الاجتماعيّة والعشائريّة للشخص المُجاز، وبغية توفير غطاء شرعيّ لاستلام وتسليم الحقوق الشرعيّة التي تحتاج في الرتبة السابقة إلى رتبة علميّة حوزويّة؛ أقول ذلك لمجموعة من الشواهد والقرائن أهمّها: إن السيد الشاهرودي الكبير بعد ما نصّ على ثبوت الاجتهاد عند صاحب الإجازة الأولى، فبدل أن يكمل الصياغة المعروفة لإجازات الاجتهاد التي تقول: فله العمل بما يستنبطه من أحكام، ويحرم عليه التقليد... أقول بدل هذا عطف على عبارة ثبوت الاجتهاد قائلاً: "فله التصدّي للأمور الحسبيّة"، ولم يورد لا من قريب ولا من بعيد موضوع جواز العمل باستنباطاته وحرمة التقليد عليه، كما جاء ذلك في إجازة الاجتهاد التي منحها أبو الحسن الأصفهاني للشخص نفسه قبل هذه الإجازة بثلاثة أيام، وكما هو جليّ في الإجازة التي صدّرها لتلميذه المبرّز الجنّاتي؛ حيث حملت مضامين عالية جدّاً، وأردفها بعد ذلك قائلاً: فله العمل بما استنبطه ويستنبطه من أحكام، ويحرم عليه التقليد، واستخدام الفعل الماضي للاستنباط وعطف الفعل المضارع عليه يدلّ بشكل لا لبس فيه على أن الاجتهاد الذي ثبت للشيخ الجنّاتي ليس جديداً، وإنّما منذ فترة سابقة، نعم ربّما يتخلّص من ذلك من باب العناية حينما يقال: إن التصدّي للأمور الحسبيّة شأن المجتهد، لكن هذا التوجيه يؤكّد ما ذكرناه، من إن الهدف في استصدار هذه الإجازة هو شرعنة عمل المُجاز بحيث لا يحتاج إلى إظهار وكالة في الأمور الحسبيّة من مجتهد آخر.

وثانياً: بعد صدور إجازة الشيخ عبّاس الخويبراوي بسنتين تقريباً توفّي السيّد أبو الحسن الأصفهاني، المرجع الذي كانت زعامة الطائفة بيده آنذاك، فأرجع الشيخ عبّاس أهالي الناصريّة إلى تقليد السيّد الشاهرودي كما نصّ على ذلك الشيخ الجنّاتي نفسه، الأمر الذي سبّب عداءً تاريخيّاً معروفاً بين السادة بيت الحكيم وبين أسرة الشيخ عبّاس الخويبراوي؛ حيث كانت أسرة السيّد الحكيم تأمل من الشيخ عبّاس إرجاع الناس إلى تقليد السيّد محسن الحكيم، لكنّ الشيخ عبّاس أرجعهم إلى الشاهرودي.

وثالثاً: لم ألحظ في حدود المتابعة البسيطة أثراً مطبوعاً للشيخ عبّاس يمكن لي من خلاله تلمّس طبيعة الاجتهاد الذي كان يتمتّع به (رحمه الله)؛ نعم جاء في موقع دار الكتب والوثائق الوطنيّة العراقيّة: إن هناك كتابان للشيخ المرحوم، الأول يقع في جزئين حمل عنوان: "فوائد الناصريّة في فقه الإماميّة"، والثاني في علم الكلام، ويقع في 73 صفحة من القطع الصغير، وحمل عنوان: مفتاح القواعد لأصول العقائد.

جميع هذا يؤكّد: على إن (كثيراً) من إجازات الاجتهاد (في تلك الفترة) لم تكن تلحظ البُعد العلميّ للشخص المُجاز عادة، وإنّما تلحظ عادة أشياءً أخرى، ذكرنا بعضها سابقاً، وهي: قانون الزيّ الموحّد والخدمة العسكريّة، وذكرنا آنفاً بعضها: وهي منح الشخص مكانة في منطقته لاستلام الحقوق الشرعيّة وإرجاع المقلّدين، وسنذكر قسماً آخر لاحقاً.

لملاحظة الوثائق أسلك الرابط التالي:https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=881193522002973&id=100003369991996

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم