صحيفة المثقف

معركة بالسلاح الأبيض

ibrahim yousifغَطَّ قوْسَهْ

في شَرَايينِ الشّفقْ

خَشَبُ القوْسِ احْترَقْ

حِيْنَ مَسَّهْ

(نزارقباني)

 935-libannan

في باڠولينو"Bagolino" قرية جبليَّة ساحرة من شمالِ إيطاليا الرّيف، حيث يتعاطى أهلُها مع الوافدين إليها "لشمِّ الهوا"، وشراءِ جبنةِ الماعز ومشتقاتِ الحليبِ والعسل، بكثيرٍ من البساطةِ والكرَم وطيبةِ القلب. ويؤمُّها المُتعَبون في الدُّنيا عبرَ الطريقِ المتعرِّجة الصاعدة، من بحيرةِ إيدرو "Idro" طلباً للهدوءِ وراحةِ البال.

من هذه القرية المتواضعة الرابضة على أقدام جبل شاهق يلامسُ حدود السماء. نقلتْ لي حكاية "الرَّغبة القاتلة" أو"Mourir  de plaisir"، كما سمَّتها "مانويلا"- حفيدةُ فلاّحةٍ إيطاليّة، بفرنسيّة متقنة، بابتسامةٍ ماكرة، بجَرأةٍ لاتخلو منَ الخجل، دون أن تدلَّ على الأشياءِ بأسمائِها؛ نيابةً عن جدّتها حينما سألتُها مازحاً عن أحوال"حمارتِها". لم يكنْ ما نَقَلتْه لي مانويلا يحتاجُ إلى جهدٍ لصياغتِه باُسلوبٍ أفضل، ما اقتضى منّي الثّناءَ على بَراعتِها وجرأتِها وإيحائِها في التّعبير.

نشيط ٌوخادمٌ أمينٌ ومسالم، إستبدَّ به بنو البشر، فارتضى لنفسِهِ أعمالَ السُّخرة، والسُّمعةَ المُسْتباحة. لا يشكو أو يتذمَّر. مخلصٌ لأصحابِه في أداءِ مَهَمَّاتِه. صَبورٌ على الشدائدِ والشتائمِ والجوع. في حبِّه هَوَسٌ يبلغُ حدَّ الجُنون.

متَّهمٌ ظلماً بالغباء..! وهو يختارُ الطرقَ الأسهل التي يسلكها، فيحفظها جيداً ولا تغيبُ عن ذاكرتِه ولو طال به الزمن..! ممن لا يراوغون ولا يخاتِلون أو يضمرون الحقدَ والعداوة لسائرِ المخلوقات، بل يحملون قلوبَهم بين أيديهم فلا يبيِّتون للسوى إلاَّ السَّلامة والرَّاحة والأمان. مظلومٌ لصوتِه المنكر، يستحقُّ منّا أن نرأفَ به وأن نأسفَ لسوءِ أحواله.

كان حماراً..! وهذه ليست مَهانة على الإطلاق كما قد يتبادرُ إلى الخاطر، لأنّه كان حماراً متيَّماً وأنيقاً كعريسٍ يزهو في أبهى حُلله. هامَ بها بكلِّ جوارحِه، ومحبوبتُه أتانُ العجوز.. تدركُ جيّداً حالَ صديقِها وتتغاضى عن رغبتِه المفضوحة، عندما تتحرَّك عواطفُه وتعلو عقيرُته بالحِداء ويعدو وراءَها كالمجنون، بين الغابة والغدير.

فشلَ مرَّاتٍ ومرَّات أن ينالَ منها بالبساطة الّتي تخيَّل. هكذا أغوتْه فأوقعتْ به وتمنَّعتْ عليه ورفستْه بفظاظةٍ مستخدمةً قائمتيها الخلفيتينِ على السواء، فأوقعَتْه وهشّمتْ أسنانَه وعفَّرَتْ أنفَه بالأرض، وشهَّرتْ به بين الحمير.

وحينما أرَهقها هواه، استجابتْ له رأفة بحالِها وحالِه؛ فاستكانتْ واستسلمتْ لفيضِ مشاعره ورغباتِه، ونالَ منها أقصى ما يتمناه.. ومن حينِها استوطنَ طعمُ لهفتِها في كيانِه، وصارَ يمشي متعالياً مُسْبَطِراً واثقاً من نفسه مَزهواً بين أترابِه من زُمَرِ الحمير.

أما الأرملةُ الفلاّحة صاحبة الأتان، الّتي أَسَرَهَا المشهد، فراحتْ تتنهَّد حسرةً على حالها..!!"هكذا تعلّقُ الحفيدة بمكرٍ على الواقعة في غفلةٍ من جدَّتها، الّتي كانت لا تفقَهُ ما تقول".

وتتوالى الأيامُ على طريقِ الوادي رتيبة كسولة بين الغابةِ والغدير، حتّى اسَنفرَتْهُ أتانُه بعطرها الأنثوي المثير، وإشارةٍ من طرْفِها المكحول. حينما تناهى إلى مسامعِه لحنٌ رخيمٌ يناديه، وهو يرعى آمناً مطمئناً إلى جانبِ السُّور في أعلى الطريق، فتحرَّكتْ "هرموناتُه" وتجاوزتْ رأَسَه إلى سائِر الأعضاء.

سَرَتْ بين فخذيه رعشةٌ لذيذة لا تُقاوَم. نَبَضاتُ قلبِه بلَغَتْ حدّها الأقصى. غلبتْه عواطفُه؛ فَقَدَ الشّقيُّ صوابَه؛ أصابَ العمى بصيرتَه وقال لنفسه: بضعةُ أمتارٍ نحو الأسفل وتكونُ في مرمى سلاحي. دقَّ النّفير؛ إرتفعتْ عقيرتُه بالحِداء، جرَّد سيفَه وقفزَ من عل كالجلمود.. انقضَّ بعزيمةٍ وثبات على هدفِه كالمجنون، فأدركَها.. ثمّ اختلجتْ أنفاسُه قليلاً وأسلَمَ بينَ ذراعِيها الروح.

 

إبراهيم يوسف- لبنان

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم