صحيفة المثقف

الحوزةُ العلميّةُ تصلبُ أبناءها

يحكي لنا الشهيدُ مرتضى المطهري (1979م) قصّةً ذات دلالات مشتركة وسيّالة في عموم الأزمنة والعصور؛ قصّةً تحكي جُرحاً لازمَ المصلحينَ طيلةَ فترةِ حياتِهم، سببتهُ مُديةٌ في الخاصرة، فأضحوا كبلّاعِ الموسِ؛ لا يقدر على لفظه ولا على هضمه...، في أيام المرجعيّة العامّة ِللسيّد أبو الحسن الأصفهاني المتوفّى سنة: (1946م) اجتمع ثلّةٌ من علماء حوزةِ النجفِ وفضلائِها، والذين أصبح بعضُهم مراجعَ لاحقاً؛ ليقرّروا: إعادةَ النظرِ في المناهجِ الدراسيّةِ الحوزويّةِ، وموائمتها مع متطلّبات المسلمين المعاصرة، وخصوصاً تلك التي تتعلّق بأصول عقائد المسلمين، بنحوٍ تكون هذه الأمورُ جزءاً من دروسِ طالبِ الحوزةِ التي ينبغي عليهِ دراستها والاهتمام بها، وبذلك يُطلق سراحُ طالبِ الحوزةِ من حصارِ الفقاهةِ وكتابةِ الرسالةِ العمليّةِ... وحينما نبا إلى مسامعِ السيّدِ أبو الحسن الأصفهاني مجريات هذا الاجتماع: أوصل إلى دعاته رسالةً قاطعةً تقول: ما دمتُ على قيدِ الحياةِ فلا يحقّ لأحدٍ أن يمسّ كيان الحوزةِ ودروسِها، وإن سهمَ الإمامِ الذي يُصرف فيها يختصّ بدارسي الفقهِ والأصولِ فقط!!!

أقولُ: ليسَ لديّ شكٌّ في إن الحرصَ الذي أبداهُ الأصفهانيُّ بغيةَ الحفاظِ على كيانِ الحوزةِ لم يكنْ نابعاً من هوى نفسٍ أو شهوةِ زعامةٍ لا سمح الله، بل هو وليدٌ طبيعيٌّ لسياقاتٍ دينيّةٍ وتربويّةٍ واجتماعيّةٍ استحكمت "خطأً" في عقل "المتديّن" الشيعي، وما لم يتمكّن الناقدُ من تفكيكِ وتحليلِ هذه السياقات، ووضع يدِه على الخللِ والخطأ فيها، وإظهار ذلك أمام المختصّين وعموم الناسِ لاحقاً، لا يمكن له ولا لأيّ مشروعٍ إصلاحيٍّ آخر أن يوفّق في مسيرته، وعليه: فالمرحلةُ الأولى من الإصلاحِ الحوزويِّ لا تبدأ بطرح البديل في داخل الوسط الحوزويّ كما هو الخطأ الشائع على ألسنةِ عوام طلّاب العلم؛ لأنّ طرحه في أمثال هذه السياقات يكون أشبه بمن يريد إزالة الحواجز الكونكريتيّة بدرّاجته الهوائيّة، وسوف يصلبُه المعنيّون على خشبةِ الاصلاحِ التي حملها، وتاريخُ الحوزةِ حافلٌ بذلك، والقصّةُ أعلاهُ من أبسط تجليّاته، ولكن ينبغي الالتفات إلى تعقيد عمليّة التفكيكِ والتحليلِ والنقدِ، وضرورة تميزها عن ممارسات بعضِ الدكاكينِ الحوزويّةِ التي تنتهج النجشَ من أجلِ الترويجِ إلى بضاعتها، نعم نصطفُ مع النقدِ العلميِّ الذي يذهبُ إلى جوهرِ الأفكارِ والمواقفِ والآليّاتِ ليبرهنَ على خطأها، ونحنُ نعيّ: إن هذه المرحلة تحتاجُ إلى سنوات طويلةٍ وجهودٍ مضاعفةٍ؛ وذلك لاستحكامِ تلكَ السياقات التي قد تكونُ مبرّرةً في ظلِّ ظروفٍ معيّنةٍ، لكن خيبتنا أن ندفعَ ثمنَ هذا الحرص المزعوم حتّى الّلحظة، ونحنُ نعيشُ في الربعِ الأوّلِ من القرنِ الواحدِ والعشرين.

وأخيراً: يحسنُ بنا أن ننقلَ التعليقَ الذي أضافهُ المطهريُّ بعد أن نقلَ هذه الحكاية حيث قال: "بدهيٌّ إن ما قامَ بهِ السيّدُ أبو الحسنِ الأصفهاني يُعدّ درساً تعليميّاً [نافعاً] لزعماءِ حوزةِ النجفِ المعاصرين" في إشارةٍ منهُ إلى مواقفِهم المشابهةِ التي وأدتْ جميعَ المشاريعِ الإصلاحيّةِ... الحكايةُ اعلاهُ جاءتْ في مقالةٍ للشهيدِ المطهريّ حملتْ عنوانَ: "مشكل اساسي در سازمان روحانيت"، نُشرتْ قبل أكثر من نصف قرن في كتاب: "بحثي در باره مرجعيّت وروحانيّت"، ص: (188).

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم