صحيفة المثقف

هذا الشاعر.. هذه القصيدة.. هذه الاغنية

khalidjawad shbaylإلى الشاعرة وئام ملا سلمان، إن هي إلا استراحة مرتحِل ألقى بعصاه هنيهة، وسيواصل رحلته بعد العيد! الذي استقبله البهاء زهير م.الرمل:

قد أتى العيدُ وما عِن – دي له ما يقتضيهِ

غاب عن عينيّ فيهِ – كلّ شيءٍ أشتهيهِ

ليت شعري كيف أنتم – أيها الاحباب فيهِ

***

أما القصيدة فشاعرها زهير بن محمد المهلبي العتكي الملقب بهاء الدين والمكنى بأبي الفضل والمشهور ب البهاء زهير(581ه-656ه/1186م-1258م)، ولد بمكة ونشأ بقوص من صعيد مصر؛ من العصر الأيوبي، ترجمته وافية في وفيات ابن خلكان، شاعر الرقة والعذوبة واللغة السهلة المنسابة الى القلب قبل الأذن، هو شاعر القصائد المُرقصة بموسيقيتها، وسلاسة سكبها في البحور الخفيفة القصيرة، لا تجد في كلماتها غوامضّ ولاشواردّ، فطارت سمعتها وحفظها عشاق شعر الغزل وغنّاها المغنون.

 هو محب للدنيا بغير إسراف، وهو محبوب عند كل من عرفة، سجّل عنه ياقوت الحموي البغدادي (547-626ه)- في معجم الأدباء - الذي التقاه عند مكثه في القاهرة وقال فيه كلِماً طيباً في بساطته وتواضعه، وكان يقضي حاجات الناس غير منتفع منهم عند الملك الصالح بن أيوب، الذي اتخذ من شاعرنا نديماً وصديقاً وفيًاً وجليساً لطيفاً اصطحبه معه في رحلاته وغزواته في الشام وأرمينيا.. لكون زهير شاعراً رقيقا حُلوَ الحديث واسع الثقافة!

من يقرأ قصائد زهير ويُنعم النظر فيها سيدخل في روح الشاعر الخفيف وسيكتشف أن شعره أقرب إلى هموم الناس في عواطفهم ويبدو في لغته سهلاً ممتنعاً واضحاً مفهوماً، فالبهاء شاعر مصري بكل معنى الكلمة فيه من مصر خِفة ظلَّها وسرعة بديهتها ومرحها والفة ناسها وحبهم للنكتة والمرح ولا أدلَّ على ذلك من مداعبته جارته الأرمنية بقصيدة من الطويل:

تكلّمني بالأرمنية جارتي – أيا جارتي ما الأرمنيةُ من طبعي

وفي أصعب ظروفه وحزنه على ولده لم يعدم خفة الشعر ورشاقة الأسلوب وهو يخاطب نفسه راثياً إياه، لذلك جائت على شكل مونولوج داخلي حتى لو اتخذ صيغة المخاطب،  على الوافر مستهلها:

نهاك عن الغواية ما نهاكا – وذقتَ من الصبابة ما نهاكا

وطال سراك في ليل التصابي – وقد أصبحت لم تحمد سراكا

بروحي من تذوب عليه روحي – وذق يا قلب ما صنعت يداكا

وعندما أقول هو شاعر غنائي، لا بالمصطلح الشعري فحسب بل كان وما يزال المغنون يجدون في شعره كنوزاً مثالية للتلحين والغناء للخصائص التي ذكرنا بعضها، ففيها من غناه أرباب المقام العراقي واخص منهم المطرب الكبير يوسف عمر من البنجكاه/رست قصيدة م.الرمل:

كلّ شيء منك مقبولُ – وعلى العينين محمولُ

والذي يرضيك من تلفي – هينٌ عندي ومبذول

أما صباح فخري فغنّى إحدى روائع زهير من الطويل قصيدة:

حبيبي على الدنيا إذا غبتَ وحشةَ – فيا قمري قل لي متى أنت طالعً

وغنّت الفنانة الكبيرة عفيفة اسكندر العديد من الأغاني للبهاء وكثيراً ما اختارها لها العلَامة الدكتور مصطفى جواد والأديب فؤاد عباس ومنها هذه م الرجز:

باللهِ قل لي خبرَكْ – فلي ثلاثٌ لم اركْ

يا أسبقَ الناسَ إلى – مودتي ما أخّرَكْ

وغنًت ايضاً م. الخفيف:

غبت عنّي فما الخبرْ؟ - ما كذا بيننا اشتهرْ

أنا مالي على الجفا – لا ولا البعد مصطبرْ

أما ناظم الغزالي فغنّى له من الوافر:

يامن لعِبت به شَمولُ – ما ألطف هذه الشمائلْ

نشوانُ يهزهُ دلالُ – كالغصن مع النسيمِ مائلْ

***

وعودة الى قصيدتنا:

 يعاهدني لا خانني ثمّ ينكث

 

يعاهدني لا خانني ثم ينكثُ – وأحلف لا كلّمتُه ثم أحنثُ

وذلك دأبي لا يزالُ ودأبُه – فيا معشرَ الناسِ اسمعوا وتحدّثوا

أقول له صِلني يقولُ نعم غداً – ويكسر جَفناً هازئاً ثم يعبثُ

وما ضَرّ بعضَ الناسِ لو كان زارنا – وكنّا خلوْنا ساعةً نتحذّثُ

أمولايَ إني في هواك معذَّبٌ – وحتى مَ أبقى في العذابِ وأمكُثُ

فخذ مرّةً روحي تُرِحْني ولم أكُن - أموتُ مراراً في النهار وأُبعَثُ

وإنّي لهذا الضيم منك لحاملٌ – ومنتظرٌ لطفاً من الله يحدثُ

أعيذك من هذا الجفاء الذي بدا- خلائقُك الحسنى أرقُّ وأدمثُ

تردد ظنُّ الناس فينا وأكثروا – أقاويلَ منها ما يطيبُ ويخبُثُ

وقد كرمت في الحبِ منّي شمائلي – ويسألُ عنّي من أراد ويبحثُ

 

عندما سمعت هذه القصيدة مُغنّاة لم أكن أتصورها من بحر ثقيل كالطويل، وذلك لخفة الشعر وانطلاقته وسهولته، حتى تصورت أن بعض الأبحر يثقل وبعضَها الآخر يخفُّ وفقاً لشاعرية الشاعر وحسن تحليقه في القصيدة وقدرته على موائمة القصيدة للبحر وكذلك على حسن استخدام البحر نفسه أي أن لغة القصيدة وجمالها يمنح البحر مزاياً إضافية تتعدى تفعيلاته!

والشيء الآخر هو أن هذه القصيدة ذات قافية بروي الثاء! والثاء هو حرف اللثغة فمن كان أدردً يحول السين الى ثاء فيقال عنه ألثغ.. وقد ذهب الثاء بكثير من سين الاسبانية فحولّها إلى لثغاء على خلاف الفرنسية اللاثغة بالراء فتزداد غَنجاً على لسان بنات السين!!

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تجد أن القوافي الثائية وهي نادرة حيث لابن الرومي عاشق القوافي النادرة عدة قوافي ثائية وكذلك الحال مع أبي العلاء المعري؛  جاءت ثائية البهاء زهير بصيغة أفعال عدا مرة واحدة اسم تفضيل "أخبثُ" ولا تجد بينها اسماً غيره قط! زد على ذلك فواعل الأفعال مضارعة عدا مرةً واحدة أمر " تحدّثوا" تكون بضمائر مستترة: الأنا والهو والأنت والنحن، ومع ذلك استطاع أن يروضها ضمن سياق القصيدة المنساب بتلقائية كأنه خرير يصحب انسياب الجدول!!

لحن الأغنية من الجهاركاه وهو من أكثر الأنغام بهجةً وروحانية  يشمل مقامات مثل خلوتي وماهوري والطاهر.. وطالما نسمعه في صلاة العيد في التكبيرات ضمن تلاوة العيد، الأغنية من تلحين الملحن العراقي اليهودي صالح الكويتي (1908-1986)، وعندما أذكر دينه لسبب ن روائع ألحانه والحان أخيه داوود (1910-1976) كانت تذاع من الإذاعة والتلفزيون من دون أن يذكر اسمهما رغم انهما أثريا الغناء العراقي بروائع الالحان العراقية الأصيلة المطوَّرة فلا بد من رد الاعتبار لهما وتكريمهما فالعراق أولى بهما من إسرائيل!

 أدت هذه الأغنية سليمة مراد (1905-1974) ذات الصوت القوي الجميل والذي يظهر جماله في الجوابات بشكل خاص وهو من طبقة الميزو سبرانو.لقد اشتهرت هذه المطربة المتميزة بأصالة الأغاني البغدادية من مقامات وبستات وحتى الأغاني الريفية مثل - الأبوذية- التي قدمتها بفضل كلمات الشاعر عبد الكريم العلأف والحان صالح الكويتي. وفي عم 1935 حين زارت أم كلثوم العراق حيث قدمت حفلاتها على مسرح فندق الهلال، ذهلت عند سماعها لسليمة مراد وهي تغني "كلبك صخر جلمود ما حن عليّ" فطلبت منها ان تدربها على الأغنية وغنّتها أم كلثوم وسجلتها على اسطوانة بصوتها!

ويلاحظ أن أغنية " يعاهدني" ذات تمبوعال وإيقاع سريع وهو الجورجينا؛ وهي تمثل إنموذجاً جلياً على قدرة الفنان صالح الكويتي على تطوير الغناء العراقي مع المحافظة على أصالته.. وقد سجّلت على فيديو في الكويت لها ولزوجها ناظم الغزالي (1923-1963) الذي أحيى عدة حفلات.. حيث لم يتحصل التلفزيزن العراقي يوم ذاك عام 1962 على جهاز فيديو وبذلك حرِم كثيرٌ من الفنانين العراقيين من توثيق أغانيهم بالصوت والصورة للأسف!

https://www.youtube.com/watch?v=BwSkMyCSac0

 

خالد جواد شبيل

رام كم هنغ 3 تموز/يوليو 2016

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم