صحيفة المثقف

عبد الواحد مفتاح: مريم ُطلِقت

abdulwahid miftahأنتم لا تفهمون أن صانعي القصص أكثر الرجال تعاسة، هؤلاء الكائنات المتألمة، التي تخفي حزنها وسط ركام من الحكايا، والأحاديث الطويلة اللذيذة، والبطولات المزيفة. إنكم لا تفكرون أن تأسفوا لحالهم، وتعملوا زيارات وهدايا لهم، لتُخففوا على ما بهم، تقولون إنهم سعداء، وتحبون العالم الجميل، والحب الكبير الذي يتحدثون عنه، بمهارة تتمنون -أن تتملكوها أنتم أيضا- لكني سأخدمكم حين أقول لكم أنكم بُلداء، لا أحد عاش الحب، وقع فيه وتحدث عنه، مثل ذلك الذي تمناه، وسعى إلى رضاه وصلى معلقا بلا جدوى على نجواه، أنا مثلا:

عندما أقدمت على كتابة هذه القصة، كنت أريد أن أتقاسم مع غيري، شهادة واضحة المعالم، عن الذي انتهى به أمري مع مريم، بعد قصة حب لابأس بطولها ...لم أختر موقع المؤلف، أو الراوي الضحية ..موقع الشاهد قبل كل شيء، هذا ما اخترته، رجل يشهد على حبه الذي يعيش في فترة انهياراته المتوالية ..أشياء كثيرة كان القائلون بها يُعبِرون عما لا أريد استنطاقه/سماعه .. موسيقى حالمة تطن في رأسي مع كل رنين لتلك الفكرة اللابأس بوقاحتها ..أني سأطلقها ..سأتخلى عنها وأرميها ككلبة خارج حياتي (ولو لم نتزوج بعد).. تَعارفنا كأصدقاء أَسْررنا إعجابنا.. تعاشرنا بالمعروف، والآن بطريقة ملائمة حتى..سأتخلى عنها، وأظل لطيفا معها، ولتذهب للجحيم(الجحيم تقرأ بصوت عال هكذا: الجـحيـــم) إن نهاية علاقتي مع مريم، ليست المأساوي إنها نهاية تزامنت مع حصولي على وظيفة جديدة ..صحيح أني مع كل شجار معها كنت أرغد وأزبد.. صراخ كثير ..أصرخ كوغد (كما تقول) لكن كلماتي الوقحة كانت دائما مجانبة للحسم في أمور عديدة، مُتشَبِثا بعدم الإنصات لأصوات كثيرة تَطِن في رأسي.. أصوات كثيرة تتعالى  آمِرَةً إياي بتهشيم وجهها (..) وليكن الغرق في أي مصيبة هو أهون من هذا الصبر، الذي يصير يوما عن أخر مُقرفًا. مرارا تَجنبت ..لا أريد أن أقول لها كلمات تخون معانيها ...(أُشَّغِلُ الكثير من نقط الحذف هنا ..كيف لي أن أبصر تصرفات هذه الفتاة الموبوءة، وأكتب بطريقة مُتزنَة)

من جهتي، يؤدي التأمل في صَيرورة الوقائع، إلى ما لم أكن أدركه، وأنا أفتت وعودي بمعدل واحدة مع كل عشر قبلات جديدة.

..عندما سأخبرها، أني سأتخلى عنها، بطريقة ملائمة، بها الكثير من المرونة،والحيادية الإجابية (لا أعلم كيف سأقوم بذلك)

أنا جبان حين أكون أمامها.. لن أقوى على فعل أي شيء ..خطط كثيرة لم أُنْجِحها ..حياة رديئة..فتاة رديئة..وظيفة رديئة (القديمة أقصد) لم أدخن الحشيش من قبل، ولن أفعل ..أنا متزن كفاية حتى لا أقترف ذلك ..لكن سهل أن أكون مستسلم دماغي يشبه بحيرة صغيرة، مخملية عائمة وغائمة .. فليكن أما الآن فعندي من العزم والحسم، ما يكفي لأبدأ حياة جديدة، أختارها أنا بنفسي.. صحيح أن في حياتي التي ستكون قديمة، لم تكن غير مريم الوحيدة التي اخترتها أنا، أما كل شيء كانت الظروف هي من تفرضه، أو والدتي لا غير.

إن لم أستطع مواجهتها، ستنكسر أمالي العريضة ..أما إن أرسلت لها رسالة ستَصحب الأمر مزاح لا أكثر ...وحينها سأجد أنها مستعدة كفاية، حالما ألقاها ولن أستطيع الإفلات من براثين حُنقها،  الذي ستهتدي به إلى أحد الحيل ..تُكَلكِمُني داخلها (أووه لا أستطيع تخيل الموقف )

ما الذي ستتفوه به..تم ما عساها تفعل ؟ لا أملك القدرة على التخمين.

أولا ستُحدق بي طويلا، بين عيني أو فوق أنفي، هي طريقتها لتلافي الخجل (الذي لن تستعمله معي أكيد)أمام الآخرين، ياما علمتها كيف تُحدق مباشرة في عين مخاطبها، دون جدوى ..هذه المرة ستكون نَظراتُها باردة، أستطيع أن أتخيل ذلك..سيكون لها أن تتشكل في شكل إهانة.

ثانيا: ستأخذ في تلطيفي بكلمات قليلة ..قليلة جدا (مريم شِحيحة في أي شيء، مع كل من لا يعنيها) لا أتذكر أنها أعطت صدقة، أو أبدت تعاون في لطف مبالغ فيه اتجاه بعيد، وإن تَلمسَت أني لن أذعن ستنفجر في وجهي كخنزير، بشتائم عادية جدا (أتمنى أن لا تستخدم كلمة كلب، سأكره ذلك بشدة).

تم لا أدري ماذا ستفعل بعد ..قد تنسحب بعد دقائق ..لا أعتقد ذلك إنها..ربما تحتال بحيل ..تعطيني هاتفها لأصلحه، وأرجعه صباحا  ومن تم ..لا أعرف عموما ستذهب سواء بعد ساعتين أو دقيقة، في رأسها أمال كثيرة أني سأهاتفها في المساء.. ولن أفعل ..وااو لن أفعل ..كم أحس صدري يمتلئ بلذة الإنجاز كلما قمت بعمل كبير ..الظفر الفوز الإنتصار أشياء عديدة طالما مَنيتُ نفسي بها، وأنا أتجرع مرارة هذه السنوات الكثيرة التي مَرّت بلاجدوى.

مريم أيضا مُحبة ..ستليق أن تكون زوجة أكثر، ..المسؤولية، المتطلبات اليومية، أشياء كثيرة، ستُربك توثب لهفتها، داخل الحيوية الزائدة التي تنفقها ببلادة، على هِوايتها التافهة: الرسم طوال النهار بلا نتيجة أو جوائز أو بيع.

رغم رداءتها سأتزوجها ربما، وأعيش حياة رديئة، ننجب أبناء نجباء كما تقول، تلفهم حياتها الرديئة، إلى أن يُنقدهُم منها قدر ما، إبنيْن لا غير، وئام وأمجد ..لكني لا أعرف كيف ستنجبهم ..شيئها صغير جدا ..عندما ألحسه أجد لساني يُغطيه بالكامل، فيما هي تلهج ..لا أفهم الكثير في أمور النساء ..وتلك الأشياء.. لكنه صغير جدا ..لا أعلم كيف سيكون الوضع ..لا يهمني.

حياة صغيرة ..شيئها صغير.. رأسي صغير ..كيف يألله لم تمنحني غيرها، لا أريد أن أصير مثل سكير يسكن قنينته، ولا يتوانى عن رضعها طوال العام.

كم أسخر من نفسي، عندما يَتملكني ذلك الفكر الخائب، أني علي تَطليق عاداتي أولا ..أفكاري التي احتمي بها وطريقة عيشي ..لن استطيع ولا أريد أن أطَلِق أصلا ..فيما يخص صاحبة السعادة مريم (كما أناديها ) أنا أريد أن أنتقم منها، لأن ما تريده لي معها يقلق راحتي، ..كل مرة ما أنجزتَ بعد؟..بعد شهر علينا أن نحقق هذا .. هي لا تمل طلباتها المتزايدة، تخنقني تُطَوقني.. إن الحياة حياتي، ومساحة هذه المرأة داخلها، التي تتقلص يوما عن أخر مهددة بالفَلَتان مني. ما بِت قادرا على غير الصمت ومواصلته.

 حيرتي تزداد فيما الحب الذي طالما كنت متنبها ومتمنيا وصوله، يَهزمُني أكثر مما يجب.

أنا بريء رغم كل شيء.. أردت أن أكتب هذه القصة لأستوعب ما يحدث.. حتى أتجنب الإلتباس، مدة وأنا أتأمل علاقتي مع مريم، ومآلاتها، بعد أكثر من سنتين من عيش مشترك، سمته هي حب، وسميته أنا أسماء كثيرة لا أجد كبير راحة في إعادة تذكرها.

للتأمل وقت كبير، أرصد وألاحظ أفعال هذه الفتاة، التي سعت إلى الاستحواذ على ما تبقى لي من وقت أثناء النهار، بعد العمل حرام أن أقضي ساعة واحدة بعيدا عنها، حتى خارج البيت، اضطررت أن أستبدل ثرثرت أًصدقاء من يجرهم صف الوقت إلى مقعد إلى جانبي بمقهى، إلى تكاليف المطاعم ..يُمنع الخروج إلا وهي تطوق ذراعي بيديها ..العشاء خارج البيت، أكثر من مرتين في الأسبوع يصبح شيئا فشيئا مكلفا، لا أستطيع القول أن مريم فتاة مملة أو غير محبة، هنا توجد ورطتي، وأنا أبحث عن كلمات تستقيم في تعبير ملائم لوصف حالتي معها.

 عمليا حتى تكاليف المطاعم ليست بالأمر الكبير، أو بعبارة أخرى، لا بأس إن لم أوفر شهر أو شهران، رغم أني لم أكن أجد صنعة، تُدرُ ربحا ولا موردا يوفر رزقا، غير مجموعة من التلاميذ أعَلمهم قواعد اللغة العربية، في حجرة واسعة حتى تستقبل المزيد دائما، ممن تبعتهم الوزارة، أحكم إغلاق بابها، كي لا يسترق السمع زميل أو مدير، ألقنهم أشياء تافهة ، لأنها لن تنفعهم، ينادونني أستاذ أستاذ ..قليل من الجدية ممزوجة بالصمت ..ابتسامة مكوية بعناية، تماما كما البذلة الأنيقة التي أرتديها، وها أنا أستاذ أدرس أشياء ما عاد لها نفع لأي شيء، قواعد أنا نفسي نسيتها، أكل الزمان عليها وشرب،  فقط من أجل الصرامة المطلوبة، أعاقب بين الحين والأخر من تُسوِّل له نفسه عدم حِفظها.

 المغالاة لا نفع فيها ..شخصيا لا أتهرب من مواجهة ما علي مواجهته، إن العيش المشترك الذي يفقد معنا أساسيا، لا يستحق على الدوام إلآءَهُ الأهمية المفرطة. مُخلصة الأمر: قُبلٌ مبعثرة لها الرضا بما سيكون، بعيدا عما حَلُمنا به ذات يوم، ونحن نقطع الشارع متشابكين بوعود كثيرة، لا أستطيع أن أقول أن مريم خانتها.

 أحاول كل مرة أن أتبين أن الحب هو حياتنا كشخصين، لا خيار لنا في ذلك، مهما أقدمنا على مراجعة المسلمات، التي تشكل سلطتها علاقتنا، فإن هناك مالا يقبل التفاوض كما تقول هي، ومالا يقبل النقد كما دافعت كثيرا.. صحيح أنه كانت لنا المسافة المطلوبة مع أي شكل من أشكال الحياة التقليدية، وإني لا أتصور أن الحب علاقة نسكنها، نكبر عبر سنواتها، لنقبل واقعا يتبلد، فهو بيننا دائم تالف بين أشكال الحياة اليومية، التي تتشجع أكثر فأكثر على إظهار ما لم يكن ضمن جدول رغباتنا العنيفة. هي لم تكن تقول أنها مشتركة ..هي رغبات محتدمة، الله هو الذي جمعها وضَمها بيننا ..وااه كم كان يؤلمني، منظرها صباحا ذاهبا للعمل.

وهي تقول شكرا لله الذي وهبك لي ..هكذا لم أكن غير تافه ملعون، الله هو الذي أهداه لها كدمية، هذا هو التبرير الكافي، لما أستنتجه لأفعال هذه الفتاة، التي صارت تجر ورائها لامبالاة مقيتة اتجاه أحاسيسي.

 

أه يا أنا، ما هذا الذي يصيب حياتي ويهددني بنقيضها، مند اليوم الأول كانت تعرف الأمر، قالت أن لها القدرة وما يكفي للبحث عن عاداتنا المتلائمة، واستخلاص ما يضيء منها، كأسلوب لعيش مشترك في حياتنا الجديدة هذه، فيما أنا كنت قادما لهذه الحياة بحب لم أختبر جلاله من قبل، وبكسل يُجدد أسبابه دائما..تماما مثل قرد انتزعوه من غابة وصار إلى قفص، أشياء كثيرة صارت فيَ ألطف، ذلك راجع لأن عدم الجدوى الذي كان دائما نتيجتها معي، لم يكن ليطرح عندها مشكلا أو يوقظ لديها قلقا، لأنها لم تكن لتُدعن لذلك الإحساس العنيف داخلها بالفشل ..كل مرة كنت متأكد أنها ستستسلم ..قلقي وأوهامه، كل شيء في كان يقول أن منسوب الجدية في أملها المضاعف سينهار، وتعتقني من هذا الحب المُتسرِع، الذي يجعلنا نتجاوز سريعا مراحل كان لتأمل بعضها وتنمية الرؤية إليه، ليجنبنا كل هذا.

لكنها وكما تقول: الأسد يليق للغابة والغابة تليق للأسد

لن أتخلى أبدا عن غابتي  ..هي لي وأنا مِلكها.. لكن مؤقتا دعني أخطط في خيالي، كيف أطَلقها لابد أن أطلقها، قد أحتاج إلى ذلك يوما. 

 

......................

مقتطف من رواية "مذكرات تاجر مخدرات"تنشر قريبا

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم