صحيفة المثقف

جودت العاني: هل النظام الرأسمالي يحتضـر؟!

ثمة محاولات سابقة أبداها خبراء في الأقتصاد لمعالجة أمراض الرأسمالية وترقيع تشوهاتها بالتجميل والتخفيف من هولها وإضفاء ما يمكن عليها من صفات الحداثة، فيما شخص " كارل ماركس" و "فردرك إنجلس" منذ عام 1848، الحالة المرضية المستفحلة في واقع التناقض أو تناقضات واقع النظام الرأسمالي، بين الذين يملكون والذين لا يملكون، مهما إختلف لون النظام أو شكله الكائن في البنية الإقتصادية والإجتماعية للنظام الرأسمالي وفي أي ظرف . كما أن مسألة الترقيع والمداواة بالمسكنات لنظام يعاني من سرطانات التناقضات والفوارق لا تجدي نفعاً، حتى وان نفذت أمريكا وتابعوها من إستعماريين خطط الإنقاذ التي رصدت سابقًا ما يقرب من (700) مليار دولار، لمعالجة الوضع المالي والإقتصادي المتردي للإمبريالية، التي هي أعلى مرحلة من مراحل الأستعمار.

إن تأكيد صحيفة " ليبراسيون" الفرنسية يعبر عن عين الحقيقة حين قالت (أن الرأسمالية تحتضر وإن كارل ماركس كان محقاً في بيان الحزب الشيوعي) .. وهنا لا يجوز الإعتقاد بأن تغيٌر الظروف سيغيٌر الحقائق العلمية الكائنة في طبيعة الهيكلية الرأسمالية فكراً وتنظيماً ووجوداً مادياً، كما يعتقد البعض . من أن ذلك البيان، إندحاره لم يعد له وجود، بإفتراض أنه وجد في الأساس في وقت من الأوقات، وعلى إفتراض أن العالم الآن ليس منقسماً بين طبقة بروليتاريا فقيرة تتعرض للإستغلال بصورة متزايدة، وتشكل 99 % من السكان، وطفيليين برجوازيين يشكلون الواحد بالمائة المتبقية ويعيشون على إمتصاص دماء البشر، وإن الإقتصاد العالمي لا تهيمن عليه حفنة من الكيانات الإحتكارية والتكتلات والكارتلات العملاقة، مثلما نعتها ماركس، بإمكانها تحديد الأسعار والأجور والإنتاج وظروف العمل ومصير البشر فـ(خلال بضعة أيام من الأزمة التي ضربت الرأسمالية، سرحَت بعض الشركات الأمريكية قرابة (64000) الف شخص بين عامل وموظف) الى المجهول .

فما الذي تغير في الواقع، وما الذي تغير في واقع الإفتراضات التي أثارها الخبراء الغربيون من المرقعين والمجملين لوجه الرأسمالية الإمبريالية القبيح ؟ .. الرأسمالية هي الرأسمالية، والكارتلات الإحتكارية هي ذاتها، بل زادت وحشية ودموية، والفوارق الطبقية زادت إيلاماً ولكن بوجه آخر، والبرجوازية وإحتكاراتها، التي لا تفكر في إنسانية البشر غير جمع أكبر كمية من الثروة لصنع القوة من أجل إستعباد البلاد والعباد، ما تزال في الواجهة المتقدمة على نمط التعامل والإدارة والإنتاج والتسويق والتحكم بالأسعار ونمط العيش في شكل عولمة بائسة لا تصمد أمام الحقائق الموضوعية التي تتمسك بها شعوب الأرض .. إن البون الشاسع بين الذين يملكون والذين لا يملكون ما يزال كائناً مخيفاً إستولد الفقر والمرض والمجاعة والتشرد، كما إستولد رفض الشعوب لأوضاعها المزرية المغلفة بالخوف والإنتهاكات والحروب والإحتلال.. فما الذي تغيٌر في نمط هذه التوصيفات والمفردات التي يحاول الخبراء معالجتها وتجميلها لصالح السيد الإمبريالي الأمريكي المتهالك ؟، ربما أدخل الرأسماليون في إطار الترقيع ولخدمتهم نظام الضمان الإجتماعي، ولكنهم يقدمون هذه الإعانات الإجتماعية باليد اليمنى ليأخذها النظام الرأسمالي باليد اليسرى في شكل ضرائب باتت تثقل كاهل الطبقات الفقيرة والمعدمة .. نعم هناك في أوربا وأمريكا من يفتش عن إعانات الكنيسة، ومنهم من يفتش عن بقايا طعام في القمامة ويبيت في العراء، أما الذين تحت خط الفقر فقد بلغ في أمريكا أكثر من (16) مليون نسمة !!

إن ما قاله رئيس وزراء بريطانيا " غوردن براون "، الإقتصادي المعروف في عام 2007 (أن حقبة المد والإنحسار الإقتصادي قد ولت الى غير رجعة) .. لم يكن صحيحاً، بل هي رؤية قاصرة، إذ سرعان ما عاودت نوبة الكساد الإقتصادي والإضطراب المالي والتضخم النقدي تأخذ طريقها الى النظام الإقتصادي والمالي الأمريكي، لتدفعه الى الإنهيار، فيما باتت تأثيراته مرهقة ومهددة لإقتصادات أوربا ولدول العالم التي يرتبط إقتصادها بالدولارعلى وجه الخصوص.. كما هي حال موجة الزلزال التي تتوسع لتضرب الأقرب والأبعد .

 كما أن الإستناد الى مقولة الفيلسوف اليوناني " أرسطو "، التي تضع قواعد عامة لحالة عامة يشير فيها الى أن (كل نظام يَفْسَــدْ، حال الإفراط في مبدأه الأساس).. بمعنى، أن الحب المفرط يقتل الحب، وأن المغالات المفرطة في الدين تقتل الدين، وأن الرأسمال المفرط في إنفاقاته العسكرية العدوانية يقتل الرأسمالية .. يحمٌل هذه المقولة الحكيمة، جانباً منها، هذا المنقذ، مغالطة على مستوى من الأهمية، وكأن الرأسمالية لم تكن تحمل في أحشائها بذور إنهيارها، كما قال المؤرخ البريطاني " آرنولد تويمبي"، وكأن الرأسمالية لا تعاني من مرض قاتل إسمه الفوارق والتفريق بين البشر، الذي ينتهي نظامها دائماً الى أزمة يصعب معالجتها بترقيعات وتسكينات (الأسبرين) لعلة سرطانية قاتلة لا محالة !!

فمقولة " أرسطو " كقاعدة عامة صحيحة تضاف اليها أزمة الرأسمالية وأدوات الحروب الإمبريالية والتوسع في الحروب، التي يتساوق معها الإفراط في الإنفاقات العسكرية على حساب الإقتصاد الرأسمالي المريض أساساً بفعل قوانين التناقض الإجتماعية والإقتصادية .. (سقط الإتحاد السوفياتي بفعل سباق التسلح، على كل المستويات ومن أهمها وسائل الردع المتبادل، وسباق التسلح كان على حساب الإقتصاد السوفياتي، الذي كان يعاني من الضعف- والآن لم تتعض موسكو من هذه التجربة المريرة)، وتراجعت أمريكا وأنكفأة بعد حربها في أفغانستان، وخاصة حربها في العراق، ومع ذلك تستمر واشنطن في سياسة محاربة الأرهاب المصطنعة والفاشلة .. فالمرض يكمن في جوهر النظام الرأسمالي .. كيف؟

دعونا نبدأ مثالا بعام 1979 حيث إستقر مؤشر (داو جونز) لقيمة الأسهم عند مستوى أقل من (1000) نقطة كما قيل، فيما تأرجح في وقت سابق من عام 1979 حول مستوى (14000) نقطة، أي بزيادة قدرها (14) ضعف خلال ثلاثة عقود، كما أن إزدياد من يمتلكون أسهماً من الأمريكيين بعد مرور ثلاثين عاماً الى ما يقرب (60) مليون شخص بعد أن كانوا (5) ملايين أمريكي!!.. هذه الأرقام لا يقاس عليها حين يتحدد الواقع السكاني الأمريكي بـ(473) مليون نسمة .. حيث يظل البون شاسعاً، وتلك نتيجة طبيعية للتطور بحسب واقع الزيادات السكانية وواقع الإقتصاد وطبيعة نظام السوق والتسهيلات التي إنهارت جميعها عند أول بروز للأزمة المالية والإقتصادية والنقدية الأمريكية .. وهذا يعني أن (العُلة) كائنة لا تلغيها خطط الإنقاذ ولا خطط الترقيع، وهذا الأمر قد نبه إقتصادات العالم، وخاصة الإتحاد الأوربي، ليضع له نظام للتعامل والحماية من الإنجرار وراء السياسة الأمريكية، والإعتماد على الدولار الأمريكي وإقتصاده المأزوم، والإبتعاد عن تداعيات الأزمات التي يمر بها الإقتصاد الأمريكي، التي فجرتها الحروب الإمبريالية الأمريكية على العراق وأفغانستان وغيرها . والمتضرر الأكبر من الإنهيارات المالية والإقتصادية الأمريكية، هي الطبقات الفقيرة والمعدمة، وذوي الدخول المحدودة، والمستلفين، وصناديق الإدخار، وحسابات المتقاعدين، والذين رهنوا عقاراتهم .

ورغم اموال الـ(بترودلار) الضخمة وبالمليارات، وهي أموال عربية، مودعة في البنوك الأمريكية، إلا أنها لم تسعف الإقتصاد الأمريكي، إنما زادت من تضخمه على حساب أصوله من الذهب، حتى بلغ الدولار الأمريكي لا يساوي قيمة الحبر والورق الذي يصنع منه، وإن إنتعاشه النسبي لا يعدو سوى صحوة وهمية لتدفق نقدي هائل الى الشركات والبنوك لتلبية الحاجات العاجلة، بيد أن الدولار هذا يظل في غرفة العناية المركزة التي لا تجدي نفعاً ... ومع كل ذلك ما تزال الدول العربية تتعامل مع الدولار الأمريكي، وتتعامل مع الإقتصاد الأمريكي الخاوي، وهي تخسر الكثير من الأموال.

الدول العربية ضخت ما يزيد على (1) تريليون دولار داخل الإقتصاد الغربي  المتداعي الذي تأثر بفعل أزمة الإقتصاد الأمريكي عام 2007، وهي محاولة لإسعافه، مع علمها أن الحلول المطروحة غير مضمونة النتائج بإعتراف الضالعين بحيثيات الإقتصاد الرأسمالي من الغربيين، وهم يعترفون بفداحة الأزمة وعمقها في دورتها التي ترجع جذورها الى عام 1929، والى ما قبلها من عقود، إنها أزمة النظام الرأسمالي القائمة على التناقض، ما أن تبدأ حتى تنتهي بسلسلة من الأزمات تصب في دورة الكساد الحتمية .. فالأمريكيون يعملون على معالجة أزمة النظام الرأسمالي بعولمته. !!

حروب أمريكا، هي بحد ذاتها فوضى عارمة أثارتها في العالم، تمخضت عن تدخلات عسكرية وحروب إقليمية طاحنة كرست حالة (عدم القدرة على تحمل الأعباء) من جهة، وتعزيز حاجة تسمى (شد الداخل الأمريكي المتنوع والمختلف والمتناقض) الأمر الذي دفع بها الى التأزم الأكثر حدة في كل تاريخها السياسي والإقتصادي، ومنذ عبور أزمة عام 1929 بالترقيع، والتي تمثل قمة الأزمة الرأسمالية وكسادها الإقتصادي، وهي الآن تطل بوجهها الكالح لتهد بنية النظام الرأسمالي وتكشف عوراته . وهذا يتطابق مع مقولة (بول كنيدي) حين تحدث عن سقوط الإمبراطوريات، من أن غالبية الدول العظمى والكبرى سقطت في مرحلة من المراحل بفعل عدم القدرة على تحمل أعباء الإنتشار العسكري - وهذا القانون ينطبق على أي دولة تعمل على التوسع خارج حدودها الأقليمية -  زاد ذلك من أعباء أمريكا التي تمثل قمة الإمبريالية الرأسمالية وهي تعيش أزمة ساحقة لإقتصاها ولمجتمعها ومحيطها العام على السواء .. فالضرر الذي تعرضت له إقتصادات الدول التي تربط مصير إقتصادها ونقدها بالدولار كان جسيماً .. ومن هنا كان تعزيز اليورو الأوربي يحظى بأهمية بالغة لتلافي الأنهيارات والتلاعب بسلة العملات التي تهيمن عليها أمريكا بالتضخم وبأسلوب العولمة .

الأنفصام الراهن قد يؤدي إلى تفكك الولايات المتحدة الأمريكية بخطوات الأنسلاخ عنها وتكريس إستقلال ولآياتها، فيما يتصاعد الصراع العرقي في داخلها بين المتنفذين والمهمشين والفقراء .. وهو القانون الذي يشترط التناحر حين يولد الفراغ وتبرز الفجوات وتظهر الأمراض المزمنة، التي من الصعب معالجتها بالأسبرين وهي سرطانات مستفحلة ومنتشرة على مدى عقود وعقود منذ عام 1929 حيث بدأت أولى زفرات الأحتضار.!!

 

 د. جودت العاني

15 / 11 / 2016

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم