صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: عندما يكون التاريخ باعثًا للإحياء القومي!!

yousri abdulganiفالتاريخ متى كان مجيداً يمكن أن يكون باعثاً للإحياء القومي، ومحركاً لطاقات الشعوب، لأن به وفيه يتمثل الكبرياء الوطني، فإن في أعمال الأجداد نموذجاً أسمى، ومثلاً يحتذيه الكبير والصغير .

وما من نهضة حديثة من النهضات، وما من معركة كسبها الجنود إلا وكان التاريخ باعثاً وملهماً، وهي إحدى الفوائد العملية لدراسة التاريخ .

التاريخ المجيد يلهم الحاضر، ويجعلنا نتفهم واقعنا وما يدور حولنا، لأن هدف دراسة التاريخ هو الكشف عن الحاضر وإدراكه والوعي بمفرداته، فنحن ندرس تاريخ الأمم والشعوب، والقادة العظام، والمعارك التي غيرت وجه العالم، وتاريخ الصراعات والمشاكل الدولية التي تنعكس معطياتها على مشكلات العصر الراهن، فإن لم نتفهم مواطن الخلاف في الماضي فلن نتفهم نتائجها الحالية، فالحاضر نتيجة لتفاعل أحداث الماضي، فلا مانع إذاً من أن نقول : إن التاريخ قضايا وحلول، كل فترة نتيجة لقضية سابقة، وهي في نفس الوقت مسألة قد يترتب عليها أحداث المستقبل .

ولهذا فاختيار الموضوعات التاريخية يجب أن يكون على ضوء القضايا التي تهم الحاضر وتساهم في حلولها، وعليه فإن اهتمام المؤرخ يجب ألا يكون منعزلاً عن الحاضر ومشاكله ومتطلباته، ولكن على الباحث الجاد الصادق الملتزم، ألا يلجأ إلى تشويه الماضي لكي يتماشى مع الحاضر، من أجل أن يخدم أغراضه الخاصة، أو يحقق منافعه الذاتية، كذلك يجب أن نرفض أي محاولة لإعادة رسم الشخصيات التاريخية القديمة بطريقة تفرض عليها شكلاً حديثاً، كما نرى في بعض الأعمال الدرامية التاريخية، لأن كل شخصية لها ظروفها الخاصة، ولها أحواله الاجتماعية، وسماتها النفسية، وعصرها الذي عاشت فيه .

ومن الأمثلة على ذلك أنه عندما قام الرئيس المصري الراحل / محمد أنور السادات، بزيارته التاريخية على القدس، وذلك في 19 نوفمبر سنة 1977 م، وما تلاها من مؤتمر للقمة جمع بين الرئيس الأمريكي السابق / جيمي كارتر، والرئيس السادات، ورئيس وزراء إسرائيل / مناحم بيجن، وذلك في الفترة من 5 إلى 17 سبتمبر 1978 م، في كامب ديفيد بالولايات المتحدة الأمريكية، ثم معاهدة السلام بين مصر وإسرائيل في 26 مارس 1979 م .

ونتيجة لهذه الأحداث كتب بعض الكتاب يقول: ما العيب في أن يذهب الرئيس / أنور السادات إلى تل أبيب؟، وما المانع في أن يجلس مع الإسرائيليين؟، وفي أن يصالحهم ويعقد معهم معاهدة أو اتفاقية للسلام؟، الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) عقد اتفاقية مع اليهود ومع المشركين، والخليفة الثاني / عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) فاوض الرومان، ووقع اتفاقية سلام مع حكام بيت المقدس في فلسطين، وصلاح الدين الأيوبي بطل حطين فاوض وسالم الصليبين ..

نعم، كل ذلك وارد وثابت في التاريخ، ولكن من الإجحاف وعدم الإنصاف هذا التشبيه، لأن لكل شخصية ظروفها الخاصة بها، وسماتها النفسية التي تميزها عن غيرها، كما أن لكل عصر ظروفه وملابساته .

ونذكر هنا أنه بعد حرب 1973 م عقد مجلس الشعب المصري جلسة خاصة لتكريم مدينة السويس المصرية من أجل كفاحها وصمودها ضد الغزو الإسرائيلي، نذكر أن أحد أعضاء مجلس الشعب المصري وقف يلقي خطبة عصماء شبه فيها ما فعله أهل السويس المصرية بما فعله الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) وأصحابه (رضوان الله عليهم) في غزوة الأحزاب (الخندق)، بل تمادى الخطيب ليشبه السيدة / جيهان السادات (حرم رئيس الجمهورية) بأنها مثل السيدة / خديجة (رضي الله عنها) زوجة الرسول (صلى الله عليه وسلم) والتي أيدته وساندته ووقفت بجواره من أجل نشر الدعوة الإسلامية ..

وبالطبع هذه المقارنة غير علمية، وتبعد كل البعد عن المنطق السليم، والرؤية التاريخية الصائبة، وذلك لأن لكل حدث تاريخي ظروفه الخاصة به، ومن المستحيل أن تتشابه الوقائع التاريخية بأي حال من الأحوال .

نعود فنقول : إن عصر الإمبراطور الروماني (أوغسطس) ليس كعصر الدكتاتور الأسباني / فرانكو، ولا الدكتاتور الإيطالي / موسوليني، ومن ثم لا يجب أن نشوه الشخصيات القديمة بصورة تخلط بينها، وبين شخصيات من عصور أو مناطق أخرى .

كذلك فإن المؤرخ يجب أن يكتب التاريخ بأمانة وصدق وحيدة، بعيداً كل البعد عن روح التعصب العنصري أو الفكري، أو التحيز السياسي، بل عليه أن يلتزم روح الحياد التام من أجل الحقيقة، وهذا يمثل أكبر التحديات وأخطرها، فلا يصح أن يقال : إن كثيراً من المؤرخين لا يجرؤن على قول الحق .. !!

ومن الأمثلة التي تحضرنا هنا : إن ثورة يوليو 1952 م المصرية كتب عنها كتابات كثيرة، فقد قام بعض الكتاب اليساريين بالكتابة عن هذه الثورة، فجاءت كتاباتهم من وجهة نظرهم الخاصة، مشوهين كل من خالف عقيدتهم أو فكرهم، نفس الوضع عندما كتب عن هذه الثورة كتاب من العلمانيين أو الإسلاميين أو البرجماتيين أو الوجوديين، وذلك لأن كل صاحب فكر له فكره الخاص، أما المؤرخ الحقيقي فهو من يتجرد عن كل الأهواء والميول والنزعات، ولا يكون له أي هدف سوى إعلان الحقائق المجردة في أمانة وصدق وحيدة .

أذكر هنا وصية للمؤرخ والخطيب الروماني / شيشرون، يقول فيها : المؤرخ هو ذلك الرجل الذي لا يجرؤ أبداً على أن يقول شيئاً كاذباً، كما أنه لا يجرؤ إلا على قول كل ما هو صادق ..

وفي واقع الأمر أن كثيراً من المؤرخين كتبوا تاريخهم بروح التعصب والانحياز، وتركوا العاطفة تتغلب على العقل، فجاء تاريخهم مزوراً بعيدًا كل البعد عن الحقائق الثابتة بالأدلة والبراهين التاريخية ..

فبعض الأوربيين الذين كتبوا عن الشرق لم ينجوا من عقدة العداء نحوه، تلك العقدة المتأصلة في نفوسهم (ومازالت متأصلة في نفوس البعض في أيامنا هذه)، فكم تعرض تاريخ العرب في عصر الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم)، وفي صدر الخلافة الإسلامية إلى التشويه على أيدي بعض أهل الاستشراق، ولا يزال تاريخهم الحديث يلقى نفس المصير، وقلما أشادوا بفضل العرب على الحضارة الإنسانية بوجه عام .

نفس الأمر نجده عندما يكتب الرجل الأبيض تاريخ أفريقيا (القارة السمراء) فإنه يترك لعقدة العنصرية العنان ليصور المجتمع الإفريقي بدرجة ترضي عقدة الاستعلاء عنده .

والإسرائيليون يزورون التاريخ لينسبوا فلسطين العربية لهم، ويبعدوا حق العنصر العربي الفلسطيني في امتلاك الأرض .

كما أن أتباع المذهب السياسي المعين يشوهون كل شئ تاريخي من أجل إثبات المعتقدات الراسخة في نفوسهم، ومن ثم يتحول التاريخ الذي يكتبونه إلى صورة مزيفة، وادعاء على الحقيقة، وتحميل الوقائع الواضحة أكثر مما يجب، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون هؤلاء مؤرخين مثاليين يعتد بهم، فإن ما يكتبونه هو تاريخ مزيف مزور يفتقد المصداقية والأمانة العلمية .

الحق نقول: ما أكثر ما تعرض التاريخ الإنساني للتزوير والتزييف، وهذا يلقي على عاتق الباحث والمؤرخ مهمة شاقة عسيرة، ألا وهي: كيف ينقي التاريخ من الشوائب والمبالغات والأكاذيب والافتراءات، حتى يكون أقرب إلى الصورة الحقيقية، وإن كان ذلك على حساب مشاعر المؤرخ نفسه .

ومن حق المؤرخ أن يتنحى ـ كما يتنحى القاضي ـ عن النظر في قضية له بأحد أطرافها صلة أو علاقة، يخشى أن تؤثر على حكمه، وما المؤرخون في التحليل الأخير سوى قضاة في محكمة التاريخ الإنساني !!

المؤرخ النزيه الشجاع هو الذي يقول الحق ولا يعبأ بالآخرين، والمثل على ذلك واضح في المؤرخ الإنجليزي / أرنولد توينبي الذي تعرض لحملة نقد شرسة من المفكرين الغربيين، فقد اتهمه بعضهم بأنه تحامل على الحضارة الغربية عندما صورها بصورة الحضارة التي في طريقها إلى الأفول، وقالوا : إن توينبي قد خان الغرب وحضارته بسبب اعتناقه آراء وفلسفات لا تنبع من الغرب، كما اتهمه الإسرائيليون بأنه من أشد المعادين للسامية (كعادتهم مع كل من يخالفهم في الرأي)، متحيز للفلسطينيين، وبأنه متعصب للعرب لأنه أعلن إدانته للصهيونية وأطماعها، ونظرياتها العنصرية .

وقد تصدى توينبي بشجاعة لهذه الحملة الشعواء من النقد، وتسائل محتجاً : كيف يتمنى زوال مجتمع له فيه أحفاد ؟، إنه يحب أوربا، ولكن الحقيقة أهم بكثير من الحب، لأنها تخص البشرية جمعاء .

كما اتهمه آخرون بأنه اهتم بتاريخ مصر، أكثر من اهتمامه بتاريخ بريطانيا موطنه ومسقط رأسه، فقد خصص لتاريخ بريطانيا في فهارس موسوعته الشهيرة : (دراسة في التاريخ) مساحة تبلغ سدس ما خصص لمصر وحضارتها وتاريخها . !!

وقد رد توينبي على هذا الاتهام بأنه فعل ذلك لا راغباً بل مرغماً، لأنها هي الحقيقة التي يجب أن تتبع، وقال متهكماً : لو كانت الفهارس تقاس بكمية التراث التاريخي، لما تعدى نصيب إنجلترا واحداً من ستين بالنسبة لنصيب مصر، لأن مصر ليست مجرد بلد، ولكنها ظلت محور التاريخ العالمي 3500 سنة من تاريخ العالم الحضاري البالغ خمسة آلاف سنة من تاريخ الحضارة الإنسانية عبر العصور الفرعونية والإغريقية والرومانية، وخلال العصر الواحد بين القبطي والبيزنطي .

لقد أجمع جل أهل البحث التاريخي المحايد على أن مصر قد أعطت العالم فكرة الرهبنة، وهي نفسها التي أصبحت فيما بعد قلعة العالم الإسلامي، ورائدة الأمة العربية رغم كل التحديات والصعاب والظروف التي تجابهها، ولولا مصر ودورها لتحطم العالم الإسلامي واختفت الحضارة العربية الإسلامية، لأنها هي التي حمته من همجية التتار عندما هزمتهم شر هزيمة في موقعة عين جالوت بقيادة سيف الدين قطز والظاهر بيبرس في العصر المملوكي، فأنقذت الثقافة الإسلامية من الدمار والضياع، وهي التي أنقذت العالم الإسلامي من حروب أدعياء حماية الصليب من الفرنجة في موقعة حطين بقيادة صلاح الدين الأيوبي، وغير ذلك مما يؤكد دورها الحضاري عبر مختلف عصور التاريخ .

كما أن الأزهر الشريف، قلعة الوسطية والاعتدال والاستنارة، هو الذي حمى الثقافة العربية من عملية (التتريك) التي قام بها العثمانيون عندما فرضوا سيطرتهم على العالم العربي .

ويتساءل أرنولد توينبي المؤرخ البريطاني المحايد : أين هذا من الدور الهزيل الذي قامت به بريطانيا في التاريخ الإنساني؟!

لقد لعبت بريطانيا دوراً قيادياً لم يستمر سوى 250 سنة، ارتكبت خلالها أخطاء كثيرة، ثم راحت تنزوي عن هذه القيادة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، واعتقد أن نفس الكلام ينطبق على فرنسا (التي تبحث عن دور في أيامنا هذه) وألمانيا (رغم عودة وحدتها)، والاتحاد السوفيتي (الذي تفكك الآن إلى دول صغيرة، بعد انهيار المعسكر الشيوعي)، والولايات المتحدة الأمريكية رغم أنها أصبحت القطب الأوحد في العالم الآن، إلا أنها تقابل الكثير من عدم الرضا والقبول من معظم دول العالم لسياستها الغاشمة وزعمها أنها تحارب الإرهاب، ولعل ما يحدث في أفغانستان والعراق وفلسطين و غيرها أكبر دليل على ذلك .

على كل حال فما ذكرناه عن أرنولد تونبي هو مثال نسوقه لشجاعة المؤرخ الحق الذي يجرؤ على أن يقول الحق دون خوف أو وجل، دون تملق، دون مواربة، دون نفاق، يتصدى بشجاعة لكل ما يلقيه من نقد أو ظلم أو إجحاف طالما كان مقتنعاً بفكره وحيدته، ومنهجه العلمي في البحث التاريخي، ونزاهته .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم