صحيفة المثقف

توظيف الاسلام في الايديولوجيا والحداثة

ali mohamadalyousifيعمد المفكر القدير محمد عابد الجابري احيانا في طروحاته الفلسفية الفكرية، ملامسة قضايانا المصيرية الحساسة ملامسات خفيفة لا تصل وقائع الأمور كما هي، منطلقا من ثوابت قبلية محددة، كما نجده يتعمق في امور ثانوية اقل أهمية وشأناً يوليها البحث المستفيض، والدراسة الوافية من فكره. ولايعطينا في مناقشته وبسط قضايانا المصيرية تلك حلولا تضعنا على سكة الخلاص من دوامة الشد والجذب، بل التيه والضياع والتباس الرؤية التي يتقاذفنا بها العصر اليوم ذات اليمين وذات الشمال، ونتطلع الى من يهدينا سبل الخلاص.

يرتكز الجابري على (الهوية) الحضارية للأمة، وعلى الإسلام باطلاقية دينية عامة، في معاداة الغرب للاسلام، ولايوضح أي اسلام يعني، هل هو الإسلام كدين، ام الاسلام كحضارة غابرة، ام الاسلام كايديولوجيا مذهبية متطرفة معاصرة، كما نجده لايحدد أيضا مرتكزاته الفكرية القبلية على أي من الاسلام يعتمد وعلى أي من الهوية يختار، في استهدافهما الغرب بالعداء المستحكم.

واما واذ يمكننا ترسيم ملامح عديدة، وأوجه كثيرة للاسلام الذي يعيش معنا اليوم ونعيشه ايضا. فهناك الاسلام الديني في صدر الإسلام وعصر النبوة، وعصر الخلفاء الراشدين، الذي اصبح تراثا متوارثا عبر العصور والاجيال، وهناك اليوم الاسلام المذهبي السني بأئمته الأربعة، الشافعي، الحنفي، المالكي، الحنبلي، والاسلام المذهبي الشيعي بخصوصيته في أئمته الاثني عشر. ثم عندنا ايضا الإسلام السياسي المعتدل الحاكم الذي يقوم على شرعية فقهية مذهبية حرفية تدعي تطبيق الشريعة الإسلامية، بانتقائية واطلاقية مبهمة غامضة، كما في السعودية منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، وفي مصر بعد ثورة الربيع العربي.

والنوع الثالث من الاسلام المعاصر هو الإسلام السياسي المتطرف الإيديولوجي الذي يروم قيادة العالم، وفرض نموذج العنف المتبادل في معاداته للمجتمعات العربية داخليا ورفع راية الجهاد بوجه الغرب عالميا (القاعدة وداعش).

أذن في اعتماد الجابري الاسلام الديني، باطلاقية قبلية غير محددة، معتبرا اياه المرتكز الحضاري والجذر الانساني المتبقي لنا، يطرح من خلاله اشكالية لماذا يعادينا الغرب؟ ولماذا يستهدفنا؟ ونبادله العداء نحن ايضا، وبسند التعميم الاسلامي كصيغة ايديولوجية معاصرة يتخذ الجابري موقف الدفاع عن النفس في ادانته استهداف الغرب لنا بمصادرة رأي الغرب المدان الذي ليس بمجمله ايضا عدائيا كارها التعايش السلمي مع الاسلام كدين ومعطى حضاري للعرب وغيرهم، ومع المسلمين في العالم قاطبة. والعكس من ذلك صحيح ايضا فلا يصح اعتبار الاسلام كمفهوم ديني عام بالضرورة والحتمية التاريخية الحضارية المعاصرة، ان يكون معاديا للغرب باستثناء توافر اسباب عقائدية دينية متطرفة اسلاميا، تدعي وصايتها على الاسلام.

فكما نعطي لأنفسنا الحق ان ندرج قناعتنا المترسخة عقائديا بان الغرب عدو لنا، في الماضي، ويبقى كذلك في الحاضر والمستقبل، يتوجب علينا في المقابل معرفة حقيقة ان ليس كل (الاسلام) معاديا للغرب، ولا جميع الغرب معاديا للاسلام، فالغرب الديمقراطي الليبرالي لديه، كما موجود في الاسلام (قيم) ومبادئ انسانية حضارية، يعتمدها في مواجهتنا كأسباب ومسوغات تعمل لصالحه في معاداته التطرف الاسلامي تحديدا، وحتمية التصادم معنا دون غيرنا من امم وشعوب العالم، وهي جديرة بالإقناع لاطراف عديدة لنا، ولدى غيرنا من شعوب العالم على حد سواء.

الاستاذ المفكر الجابري يدين (العملاء الحضاريين) مستعيرا عبارة أنور عبدالملك، لكنه لايوفق في اعطائنا آليات فكرية محددة ترسم لنا خارطة طريق خلاصنا من وهدة سقوطنا الدائم الراسخ عقائديا لقرون طويلة، ومراوحتنا في منطقة اشكالية تساؤلنا، هل نحن نعادي الغرب ونمنحه أسباباً وذرائع ومستلزمات معاداتنا واستهدافنا؟ أم ان الغرب يختلق الاسباب وينبش في التاريخ الماضي لتغذية حاضر ومستقبل، أحقيته في معاداتنا وصواب توجهاته بالضد من نهضتنا بكل الطرق والوسائل؟

الجابري ومعظم المحللين السياسيين، يذهبون الى ان الغرب بعد انهيار الشيوعية، وتمزيق الاتحاد السوفيتي 1991، أخذ التفتيش عن خصم آخر ندا له يصنّعه الغرب العدو البديل عن الشيوعية ليستهدفه في عداء ايديولوجي مستحكم وحرب باردة جديدة لايعرف احدا أمدها!! ولم يجد عدوا له غير الاسلام.

لماذا لايصح العكس انه بعد خروج الروس من أفغانستان، وانتصار طالبان بمعونة أمريكية مكشوفة، بدأ الاسلام السياسي المتطرف (القاعدة وداعش) وامثالهما، بتصنيع الولايات المتحدة الند المناوئ لها، خصما يحول دون نشر اهدافها؟ وتنظيم القاعدة الاسلامي كان البادئ في تصنيع الخصم (امريكا) باستهدافها في تفجيرات 11 ايلول 2001، وقاد هذا العمل تأجيج العداء الامريكي والغربي والعالمي علينا علانية بعد اعطائهم الدليل الدامغ على نوايا الارهاب وما يرغب تحقيقه عربياً اسلاميا وعالمياً.

وعلى حد زعم هؤلاء المحللين العرب والمسلمين، ان الغرب الامريكي لم يجد غير الاسلام عدوا يصنّعه بالاستهداف والمعاداة المستحكمة، لاسباب عديدة تتفرع عن وجود تناقض اساسي جوهري بين الغرب والاسلام، مصدره تضاد واختلاف حضارتين غير متكافئتين، حضارة تمتلك نظرتها العلمية الخاصة في الحاضر والمستقبل البشري الانساني من جهة، وتنظيمات اسلامية متطرفة تتخذ من الاسلام غطاءا عاما، أسلوبها وعملها في تحقيق اهدافها أفزعت العالم وأرقتهُ، وعبّأته في عدائه للاسلام من جهة ااخرى.

وقبل سوقنا اسباب ما نقله الجابري عن مفكرين واستراتيجيين غربيين، لماذا اختار الغرب معاداة (الاسلام) نجد الجابري يتحاشى الاشارة او التعليق، بان القوى المتطرفة الفاعلة في اسلام اليوم، لم تكن في الماضي القريب، ولن تكون في الحاضر والمستقبل (حمامة سلام) تحمل غصن الزيتون بفمها، تريد التعايش السلمي والتحاور الحضاري مع الغرب والاخر، والغرب فقط هو المتسلط المتجبّر، الذي يسحق الاخضر واليابس امامه، ومن طريقه في بحثه عن كبش فداء وجده في (الاسلام) ليعاديه ايديولوجيا ارهابيا، ويحيى معه صراعَ ايديولوجيا الحرب الباردة الجديدة، وتسخين مناطق عديدة في العالم ارهابيا.

ولا يشير الجابري تلميحا بين الاسلام الحقيقي الذي تعايش مع المسيحية واليهودية والاديان الاخرى قرونا من الزمن، ويستبعد ايضا عدد المسلمين الذين يتوزعون اليوم دول الغرب متعايشين مع المسيحي واليهودي والملحد، والبوذي، والهندوسي.... الخ. من غير تمييز ويتمتعون بنفس حقوق شعوب تلك البلدان الاوربية المعادية، لكل ما هو اسلامي على حد رأي البعض، بل العكس سنجد لاحقا ان المفكر الجابري ومعه مفكرين غربيين يضعون هذه المسألة، قضية المهاجرين العرب والمسلمين احد اسباب واشكاليات معاداة الغرب للاسلام في وجود المهاجرين. في دول الغرب، وعدم الاطمئنان لهم ومضايقتهم في حياتهم وطقوسهم الدينية.

يمهد الجابري بادراج اسباب معاداة الغرب لنا ومعاداتنا المتبادلة معه من قبلنا نقلا عن الغرب قائلا:

- الاسلام ضخم ومخيف ومعاد للغرب، ويتغذى على الفقر والسخط، وينتشر في بقاع عديدة من العالم.

- يلي ذلك حتمية التصادم بين الغرب والاسلام هو نتيجة التعارض بين القيم العلمانية الغربية، والقيم الدينية الاسلامية.

- التنافس التاريخي بين المسيحية والاسلام.

- غيرة المسلمين من قوة الغرب وحقدهم عليه لكونه استعمر بلدانهم.

- شعور المسلمين بالدونية ازاء قوة الغرب وتقدمه.

- الجوار الجغرافي وما نشأ من احتكاكات وعداء تاريخي.

- وجود اعداد كبيرة من المهاجرين المسلمين في امريكا واروبا.

ويضيف الجابري ان هذه الاسباب ليست اسبابا محتملة بل هي مطلوبة من طرف الغرب في تبرير عدائه للاسلام.

واود تسجيل ملاحظات سريعة على الاسباب التي ادرجها الجابري في قناعته وقناعة الغرب معاداة الاسلام الواردة، فمن البديهي ان قضايا الدول في عالم اليوم وتطور التكنولوجيا والذرة وتقنيات الحاسوب المعقدة واشتغالات علم الوراثة في طفرة الاستنساخ الحيواني من خلية حيّة، وعوالمها الاحتمالية العلمية المفتوحة، تجعل الدول لاتقاس وتخيف الاخرين بحجومها وعدد سكانها، ولو صحت قضية الحجوم لكانت الصين أفزع وأرهب دولة على وجه الارض. كما لايكفي دين معين بتعداد معتنقيه ان يكون سببا مباشرا في استعداء الاخرين عليه، كما يذهب الجابري ان الاسلام ضخم....الخ.

المسألة الثانية تناقض علمانية الغرب مع القيم الدينية الاسلامية على نص تعبير الجابري الذي اوردناه سابقا، هي فعلا حقيقة قائمة ليس بين علمانية الغرب وقيم الاسلام الدينية المسيّسة، بل بين علمانية امم وشعوب العالم أجمع وعدائها وتناقضها مع اهداف ومرامي الاسلام المتطرف تحديداً، وعلى هذا الاساس تكون روسيا والصين ودول اوربا وغيرها من العلمانيين اعداء لنا، حتى تركيا المسلمة هي عدو لنا بعلمانيتها حسب مفهوم معاداة الاسلام للعلمانية.

اذن لا تكفي علمانية الغرب ان تكون سببا في معاداتها (الاسلام) لانه صاحب قيم روحية إنسانية، فالعلمانية الغربية هي ايضا صاحبة قيم انسانية لا تحتاج الى اثبات، بما يفوق القيم الانسانية الاسلامية في أي دولة في العالم تدعي احتكارها للاسلام وقيمه وتاريخه، وفي نفس الوقت تكون عامل مساعد في تسويق الارهاب.

وعلمانية الغرب لاتشكل سببا في معاداة الاسلام تحديدا، ولو جاز لنا ذلك لاصبح العكس مطلوبا اذ من الاولى (الاجدر) ان تقف علمانية الغرب القوية في نبشها تاريخ الماضي القريب الميت، بمعاداة الكنيسة الاوربية ودولة الفاتيكان؟ التي ارغمت بالتنازل عن زعامتها للمسيحية، وارتضت العلمانية نظام حكم ديمقراطي، وتسابق علمي حضاري لم يكن بمقدورها الآن – الكنيسة – مجاراته او الوقوف ضده ومحاربته، كما نفعل نحن في معاداتنا العلمانية!!.

اما عن غيرة المسلمين من الغرب الذي استعمر بلدانهم فهو ايضا نبش وحفريات في تاريخ ميت من عمر البشرية، وفي اعتمادنا هذا المنطق يصبح معاداة الاسبان لنا، أصبح وأكثر ترجيحا عقلانياً من معاداة امريكا واوربا جميعا للاسلام، كون العرب المسلمين استعمروا بلادهم ثمانية قرون، وكذا الحال مع كل بلد استعمره أجنبي، بغض النظر عن مسألة عامل الدين، فالاستعمار القديم والحديث والمعاصر لايستعمر البلدان على اساس الاختلاف دينيا او قوميا او اثنيا، بل على اساس وهدف اقتصادي صرف، وسوق استهلاكية لبضائعه، فالاستعمار الانكليزي للهند دام مائة عام (1858-1947) لم يستهدف الهند استعماريا لدياناتها الهندوسية او البوذية او الاسلامية، وانما استعمرها لمصالح اقتصادية معروفة، وكذا الحال مع شعوب الارض التي ذاقت مرارة الاحتلال والاستعمار وسرقة ثرواتها ومواردها الاولية.

وسبب الاستاذ الجابري وبعض الخبراء الغربيين الاخر في معاداة الغرب لنا، هو شعور المسلمين بالدونية تجاه الغرب القوي المتمدن. اجدها مسألة لا تحتاج الى كثير من التعليق، فنصف سكان المعمورة واكثر يشعرون بالدونية من النمط المعيشي الامريكي الاوربي، ولا يشكل لديهم معاداة احترابية معهم في تهديد نمط معيشتهم.

والشعور بالدونية – وان كان التعبير ورد قاسيا بالاصل عن الجابري – مسألة نفسية فكرية ثقافية سلوكية حضارية بالنسبة للفرد والمجتمع، فأين الخطأ؟ هل الخطأ فيمن يتعقد هذا الاعتقاد البائس ويجعله محركا وباعثا وسببا للكراهية على مستوى تصفية الخصم حضاريا اقتصاديا وسياسيا ام يتوجب على الغرب ان يتخلى عن قوته وغناه كي يتساوى معنا كمسلمين، ونكف ان نحقد عليه؟ هل من المعقول ان تطلب من الغني القوي ان يتخلى عن ثرائه، كي لايصبح ظالما ويتساوى مع المظلوم في الشقاء والمظلومية ايضا؟. معادلة غير عقلانية ولا مجال البحث ان تكتسب مشروعية ان تكون سببا محركا عدائيا لنا تجاه الغرب، باسم الاسلام.

اما سبب جوارنا واحتكاكنا مع الغرب ان ينقلب سببا للعداء المستدام المستحكم فلا يمتلك مسوّغا ولا مشروعية، وكذا وجود مئات الالوف لا بل الملايين من المسلمين المهاجرين القاطنين الموزعين بين المجتمعات الامريكية والاوربية، ان كانوا اصبحوا يمثلون مشكلة عداء بين الغرب والاسلام، فلماذا لايعود هؤلاء الى بلدانهم ان كانت فعلا تمارس عليهم دول الغرب ضغوطات تهين كرامتهم وثقافتهم ودينهم في تمييز عنصري، بدلا من الجلوس على ظهر السفينة من قبلهم، وتحمل الاهانات، فقط ليقوموا بفقئ عين الملاح، وخرق قعر السفينة كي يغرق الجميع، وعليّ وعلى اعدائي.

 

علي محمد اليوسف - الموصل

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم