صحيفة المثقف

حوار ميتافيزيقي في زمن أجوف (3)

MM80وجد نفسه في صمت مطبق إلا من أقدام الحارس التي تهز بلاط الممر ذهابًا وإيابًا، وبضع توقفات ربما للأستراحة، ولم تفصله عن الفضاء الخارجي سوى القضبان وهي تطل على ساحة تحيطها أشجار الكاليبتوس العالية.

فكر طويلاً بمعنى أن تكون خارج القضبان وتحس بأنك مقيد أو مراقب أو فاقد لحريتك .. تصورَ المعنى ذاته بين الجدران السميكة الأربعة الخالية من أي منفذ عدا قضبان معدودات من الحديد، وغالبًا ما يسئل نفسه عن الحقيقة .. أين هي؟ في الخارج أم هنا أم هي تقبع في الذاكرة؟

أااه، منك أيتها الذاكرة، ليتني أعرف الحقيقة؟، ولكن أي هي؟ يقول البعض عنها أنها مطلقة ويستحوذون عليها بالقبضات وبالصراخ وبطريقة الأحتكار.. وآخرون يرونها نسبية تتجذر وتمتد وتتسع بنسبيتها لتشمل كل شيء، فيما البعض الآخر يعتقدون بأنها الأثنين معًا في وحدة الوجود الكلية.. وهنا يكمن المنطق.

لا أعرف إن كان لها وجود أصلاً.. كل شيء في هذا  العالم يحمل في داخله بذور فناءه، إنه يتهدم بدون معاول للهدم .. ومن أنقاضه يرتجل الفكر لتشييد عالم آخر قد يكون من نسج الخيال، أينما يكون وجوده، وراء القضبان أم خارجها .. المهم عالم فسيح يتم صنعه رماديًا أو ورديًا أو مغبرًا عدا ذلك الشيء القابع في أعماق الذاكرة وهو الموت.. هَمومٌ وراء الأسوار يعشش في ظلها الخواء والخوار والسعار الفكري وووو.

-  كفى أيتها الذاكرة المتمردة وأنتِ تنبشين الأعماق بصراخ كاتم لا يتحمل صمت هذا المكان، الذي غادرته الحياة منذ أن بدأتي تشعرين بأن العالم لم يعد له قيمة أو معنى .. العالم بدأ يتشكل بصورة سيئة .. هل تشمين شيئًا نتنًا ؟ أظن أن المياه الثقيلة أخذت تطفح، ربما سَتُغرِق الخارج، والكل سيغرق في هذه النتانة، التي لن ينجو منها سوى من أستيقظ مبكرًا لينقذ حاله ....

-  دعك من هذا، أنت تفكر كمن يريد أن يموت في أفكار طافحة لم تعد لها قيمة في هذا الزمان الذي يستهلك نفسه في كل لحظة .. لقد قتلوني ألف مرة، وأنا الآن أمامك أتحدث .

-  ولكن كيف تتحدثين وأنت في عالم الأموات؟

-  نعم، الأموات يتحدثون أيضًا وراء القضبان وخارج القضبان .. هل سمعت موجة الغناء القادمة من البعيد كل يوم؟ هي أقرب إلى الضجيج منها إلى أفواه تصرخ؟ 

-  لقد عرفت، إنها عصافير الكاليبتوس تتجمع كل يوم، ولا أدري إن كانت هذه الضجة لها معنى أم أنها موجة حوار فحسب، ولكني أجدها تتربص وخاصة عند الغروب بكل شيء يطير أو يتقافز.

آااه، أيتها السماء اللآمتناهية افتحي أبوابك للجياع الذين ينتظرون .. كما هم أولاد الحارة الذين يتحلقون حول حاويات القمامة .. إنها العدوى التي تزحف كلما أنتشرت العفونة، إنها باتت كابوس يجثم على صدور الجميع .

- قولي لي أيتها الذاكرة، هل بدأتي تشعرين بالدوار، بدأتي تتحولين إلى دودة تصر على أن تتحرك دونما هدف وتصر على أن تبقى حيث يكون الشعور بالأغتراب؟

-  لا تُكملْ ... هنالك مسافة بين أن تعي ما أنت عليه وبين وعيك لما هو كائن في خارج ذاتك.. من أين تبدأ، إسأل نفسك أيها الشاطر؟

-  المسألة محسومة .. إنها تبدأ من الذات حيث الوعي بالأزمة، ومن دون الوعي على هذا النحو يمسي الكائن عبارة عن دودة تقتات على الأشياء الصغيرة التافهة حتى والنتنة لتعيش .

-  آاااهٍ، منك أيتها الذاكرة العنيدة، هنالك مسافة أخرى، محطات وجسور مقطعة الأوصال، وطرقات تنتظر القادم المجهول ربما " غودو " يحمل فانوس الوعي وجرافة للأنحطاط .. الكل ينتظر " غودو "، وغودو لا ينتظر أحدًا سيأتي لا محالة، سيأتي بوجوه غاضبة غير وجهه يأكلها الجوع، وجوه تركت صخرة " سيزيف " في القعر مع مصيرها الأبدي .

-  آاااه، كم أحن إلى أن أشم تراب الأرض بعد المطر .. وأشم رائحة الآس ووريقات الكاليبتوس المنعشة .. هل تعلمين، إن أروع سمفونية سمعتها هي انشودة المطر، حين يتساقط بغزارة على الممر، عندها أشم رائحة التراب.. هنا أشعر بالحرية .. يتداخل العالم كله في مساماتي، وأشعر بأن داخلي يبدأ بالرقص على نغمين، نغم إيقاع المطر ورائحة تراب الأرض، ونغم إيقاع الحارس حين يمشي في الممر .!!

-  ولكن هنالك إيقاع آخر قد يبدو غريبًا، هو تلك الصرخات الحزينة التي تطلقها الطيور المهاجرة وهي تجتاز المكان نحو وجهتها .. إنها إنشودة الحياة التي تعطي الأمل حين تحلق إلى البعيد .. لحظات قد لا تتكرر وإذا ما تكررت فأنها ستكون مبعثًا للأنتظار.. إنها توقظ أحلامًا هي والمطر وعصافير الكاليبتوس .. هذا الأنتظار الذي ينسينا الموت.

سمعت أستاذ الفلسفة، كمال يوسف الحاج، كان باذخًا وغزيرًا، ولكنه كان متوترًا لحد الفزع  يقول، قف مسافة عن ذاتك وتأملها قبل أن تتعجل في رؤية العالم من حولك .. لا وجود للعالم الموضوعي خارج ذاتك .. أنت أمام شيء أسمه الذات، إنها مفروضة وعليك أن تبرهن ما إذا كان العالم من زجاج أم انه تجريد مؤقت يعجز عن البقاء كما هو دون تغيير.. وهل فقدوا المُصْلِحْ ؟

-  آااه، المصلح الذي يحتاج إلى إصلاح .. كانوا يقولون أن الأرض مسطحة وهم رجال دين، ثم تراجعوا، فقال العلم إن الأرض كروية، فآمن رجال الدين .. وقبلها قالوا إن مركز الكون هي حدقة الشمس، ثم غابت في عتمة الليل البهيم .. حينها وضع رجل الدين عمامته جانبًا وترك العالم وراء الأسوار يلوك همومه دون خوف.. وهل يحتاج الله إلى وكيل؟

-  ولكن، هل علمت بذلك الكائن الذي أغرقه النبيذ ؟ لقد ظل يشرب ويشرب حتى تسرب النبيذ من منخريه وأذنيه وعينيه ومسامات جسده، حتى مات ميتة شنيعة معطرة بعبق النبيذ المعتق؟ وقبل أن يموت شعر باللزوجة الطافحة بحب الأنعتاق إلى الحرية .. لم يكن في خلده شيء أسمه الحب في الأنثى لحد الموت، إنما كان يدرك إنه لم يكن أسير رغبة طاغية، إنما أسير جناحي طائر لجوج متحفز يشدو صباحًا ومساءًا في أعلى قمة هو الشحرور .. أحيانًا يسمع صوته من بعيد ويحن إلى ذلك الأيقاع الرائع الذي يكتنفه الحزن ويزيده إيقاعًا، أقدام الحارس وصرامة القضبان .

-  أين هو المطلق ياهذا ؟ هيغل، سيبنوزا، كانط، ديكارت، سورين كريكجورد، سارتر، سيمون دي بوفوار، ألبير كامو، هؤلاء يرون الفاصل الوحيد بين الذات الصافية وتلك الجثة التي يحملها الكائن طوال حياته حتى تصبح جزءا منه وليس بمقدوره تركها، إنها مسؤوليته في بقائها.. كم يشفق عليها حين يراها تتعذب وتتلوى من الألم ؟ يسيل من فمها لعابًا لزجًا كما هو شعوره حين يدلف إلى عالم ليس عالمه، وخاصة تلك الكتلة من اللحم، التي يحملها ويتعايش معها يعتني بها وينظفها من قاذواراتها، وأحيانًا يبتعد عنها قليلاً ليراها كيف تتحرك بين هذه الجدران الأربعة المملوءة بالتواريخ التي تذكر بكتل اللحم الآدمية وهي ملتصقة بها أو بالقرب منها أو التي غادرتها إلى فضاء الحرية المبهمة أو إلى فضاء رحب أسمه الموت.!!

ربما كانت كتلة اللحم التي يحملها كل يوم في يقظته ومنامه وسيره وجلوسه تصغي رغم أنها أحيانا تعاني من لزوجة مقرفة مشبعة برائحة غريبة من القرف يعلنها مجيء الحارس الذي لا يحمل وجهه سوى سحنة جافة سمراء مخضرة تنبعث منها حمى تتقافز من عينيه الصغيرتين المتقاربتين في رأس صغير مركب على جثة ضخمة، ومع ذلك يتحملها ولا يشعر بأنها باتت عبئًا مثيرًا للشفقة، فيما كان حسه الأنساني ميت أو تكاد تخيم عليه سمة سوداء من الضجر المشبع بالحقد الأعمى.. وأكاد أن أسمع صراخه الداخلي وأنصت إلى إيقاعه الفاجع .. فهو لا يكترث لعصافير المساء، لقد رأيته يرش عليها الماء من الصنبور ويقذفها بالحجارة، ولو كان قادرًا على حجب القمر الذي يضيء الباحة والممشى لفعل .

قرأت نصًا لشاعر وجودي يقول .. أغمضت عيني فرأيها عارية فأود لو أرجع لأراها مرة ثانية .. تلك كانت نفحة الذاكرة التي ما تزال تصغي وربما نامت قليلاً من يدري، تأتي كنسمة هواء المساء في يوم قائظ تهب نحيفة وراقصة على  أنغام الوهم القابع في ذلك التجويف المظلم، الذي أسمه الذاكرة ..

أيتها المرأة  الرائعة التي تهب الحياة، تلك النسمة في المنام لم تعد قادرة على أن تهمس حتى من بعيد، إني أتذكرك .. هل الفضاءات من حولنا تنمو؟ أم إنها تدور في حلقة مفرغة لا طائل من ورائها سوى إنتظار المجهول؟ أعرف إنها الوحيدة الأكثر جمالاً وروحها أكثر تألقاً في عالم بشع والأكثر بشاعة هو الزمان .

- أجل .. هذا الزمان اللآمتناهي السرمدي، الذي لا يشيخ أبدًا .. المكان يشيخ ويتغير، أنا وأنت والقضبان وأقدام الحارس وشجرة الصفصاف والعصافير كلها تتغير وتشيخ عدا نكهة تراب الأرض بعد المطر، تظل كما هي حبيبتي التي أراها يافعة على الدوام وأكثر جمالاً حتى في العتمة.

- الزمن، أجل كما قلت .. يتسرب كرمال ناعمة تنساح من بين اصابعك كحية رقطاء دون أن تشعر بها.. إنه الأشد غموضًا ومن الصعب إحتضانه كايقونة تضم في جوفها الصمت، الذي يجعل الشياطين تخرج من الجدران لتلعب في الفناء وتمرح ولا تدع العصافير تزقزق برش الماء عليها وقذفها بالحجارة، وبشيء من العناد.

- أحيانًا لم ينطق فمي أسبوعًا كاملاً ولكني أتحدث في داخلي كثيرًا لأني أعلم أن لا أحد يستطيع أن يسمع أو يصغي أو يفسر ما أقول .. فالصمت هو جرس النفير العام في عالم صاخب بلا ضمير.

الضوء الأصفر الباهت غالبًا ما تلتصق هالته على أرضية الغرفة ذات الجدران السميكة، التي لا مخرج لها سوى باب القضبان .. وإن دائرة الضوء لا أحد يستطيع أن يمسح عنها ذرات الزمن الكالح .. في هذا الزمن تتحول الأشياء إلى أشباح مصفرة الوجوه، كتل من اللحم تنعدم لديها المدركات لحد الفجيعة، ويسيل بينها الجذام وتخوض في سفلس القنوط ولا تشعر بالقرف.. تعبر الجثث على الرصيف من فوق الجثث المسفوحة الدم، ومع ذلك تواصل العبور وكأن كل شيء مألوفًا، ثم تتحول إلى طواطم مسكونة تتحرك وتزحف تأكل بشراهة وتشرب بنهم وتتناسل بشبق لا مثيل له من القرف بعد كل جريمة.

- آااه، لقد أدركت للتو، أن الخدر بدأ يدب في الذاكرة .. وسأل نفسه لماذا لا تتركها تستريح قليلاً؟ اتركها كي تفكر عسى أن تدرك ذلك المحال الذي لا بد ان يفضي إلى الممكن في استكشافه المريع في صحراء كثبانية هي الذاكرة .. قد تدرك أن وراءها بحر تعج سواحله بجثث العابرين من كل فج عميق، ومن الشوائب المركونة بين صخور الشاطئ تجد المئات من أحذية الأطفال .. لا أحد يخاف أو يرتعب غيلان البحر، ولكنهم يهربون من غيلان المدن الهمجية، الذين يريدون تشكيل الأرواح على طريقة المسخ في أرجوحة هذا الكون المديد.. لا تولد الأرواح كئيبة ولكن الخارج يبعث فيها بروحه فيحولها إلى مادة للسخرية تحت الأضواء التي لا تقبل الأختباء .. لأن الزمن والكائنات البشرية فيه غير قابل للأستهلاك عن طريق اللآجدوى.

- صمت قليلاً ثم استدرك ليقول .. الشيء الذي يجعل الأمل يتراقص كالجندب، هو ضوء القمر كالعقيق عيون حبيبتي أو أحيانًا كالمرجان ينسكب لونه على الجدار.. وحين تتكاثف الغيوم وتتلبد تزخها ماطرة بعدها يظهر عبق تراب الأرض، كمن يتشوق لقطرات الماء، كدموع الصغار المحرومون من لعبهم .. وعيونهم معلقة بالرجاء المعلق في السماء المعلق في الرحمة المعلق بالخلاص.

شعر أن حلقه بات جافًا ولسانه قد تيبس أو تخشب، وعيناه تحدقان في ما وراء تلك البوابة المحصنة بالحديد وجبينه يتصبب منه العرق وشدقيه ينفرجان عن ابتسامة باهتة لا معنى لها سوى حالة العبث التي تطغى على المكان وترسم صورتها على الجدران بدأب شيخوخة الأنتظار، فيما ينزلق الصمت ليحتل المكان بتعويذته الفاجعة بأنتظار القادم الجديد .!!.

 

د. جودت العاني

5 / 06 / 2017   

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم