صحيفة المثقف

فالح مهدي وعبد الجبار الرفاعي: دراسة للظاهرة الدينية من منظورين مختلفين (2)

يقول فالح مهدي:  (يضعنا عبد الجبار الرفاعي من البداية ودون مواربة أمام إشكالية الكتاب الأساسية، والمتمثلة بالفقر الوجودي لعالم لا دين فيه. ففي الصفحة (6) يذهب إلى الآتي: " الفقر الوجودي حقيقة يتفق عليها الكثير من الفلاسفة والمتصوفة والعرفاء، ولكن ربما يقال: لماذا الدين هو سلم الكمال لا غير؟ ..  ". ويستمر في طرح الأسئلة، وفي تلك الفقرة نفسها يتساءل عن دور الفنون والآداب في الحد من ذلك الظمأ، ويشير إلى أنّ المعرفة والشوق إلى الإبداع ذات أهمية قصوى لكي يحس الكائن الحي أنّ لوجوده معنى.

وفي ضوء ثقافته وسعة أفقه لم ينكر أنّ لكل ذلك أثرا في إغناء الوجود الإنساني، إنّما وفي تلك الصفحة نفسها يؤكد: " لكن ذلك كله أيضا لا يغنيه عن الحاجة إلى الدين، ولا يكون بديلا عن الدين، وإن قدّم له شيئا مما يهبه الدين".

كما أشرت ليس من أخلاق عبد الجبار الرفاعي المخاتلة واللعب بالكلمات، فهو أمين أشد الأمانة إلى ما يعتقد أنّه صحيح. لذا فإنّ جوهر كتابه مع تعدد مقالته يصب في الدفاع عن الفكرة القائلة: " ليس من حياة تستحق العيش دون إيمان ودون دين.

تلك المقالة تجد صداها وجوهر وجودها في الحيز العمودي، ذلك أنّ الدين بوصفه مفهوما وفهما للكون، تفسيرا وتأويلا وأيديولوجيا، طقوسا ومعابد من نتاج ذلك الحيز. أما الحيز الأفقي فهو فقير في إنتاج عقائد ما ورائية. ما موجود من عقائد وأديان في العالم المعاصر هي من بنات الحيز العمودي.

عبر الكاتب بأمانة عن ثقافة ذلك الحيز الذي هو جزء منه. لذا فإنّنا لن نجد صعوبة في فهم عبارة: " الدين سلم الكمال "، ولا يمكننا أن نتخيل أمرا آخر في ضوء ثقافة المكان التي أنتجت الدين) . (29)

رد الرفاعي:  (لا أزعم أنَّي نجحت في التحرّر من ذاتي، ذلك ألا تفكير خارج الذات، كل تفكير يلتبس بـ"الذات". تداخل تفكيرنا بذواتنا حتمي، يصعب عليّ الفرار من أحكامي المسبقة القابعة في أعماق عقلي، ويتعذر عليّ فهم العالم خارج رؤيتي للعالم التي تشكلت في سياق تربيتي وبيئتي وثقافتي وديانتي، ويشق عليّ التفكير بأفكاري خارج أفكاري المترسبة في ذهني والمولودة في فضاء دراستي وتدريسي ومطالعاتي وخبرات حياتي، ويصعب عليّ عبور آفاق انتظاري.

أود عاجلاً توضيح ما يلي:

1. كتاب "الدين والظمأ الإنطولوجي" يشدو لحنَه الخاص، خطيئتُه أنَّه لم يكرّر الأصوات المكررة في أدبيات الجماعات الإسلامية، أو غيرها من أدبيات الجماعات اليسارية والقومية، التي يغرق المجالُ العام في مجتمعاتنا في شعاراتها ومقولاتها ودعواتها وأحلامها وأوهامها، منذ أكثر من قرن.

"غيرُ الإسلاميين" من بعض القراء أزعجهم دفاعي الشديد عن الإيمان والدين والوحي والنبي الكريم "ص"، ودعوتي لتدين ينشد إغناءَ الروح والأخلاق. كذلك أزعج بعضَهم اكتشافُهم  أني كائن روحاني أخلاقي ميتافيزيقي مؤمن، وامتعض البعض الآخر من تمسكي بالصلاة والفرائض العبادية وتديني التقليدي، إذ فوجئوا بأني مازلت حتى اليوم وسأبقي ألجأ لطقوس تدين أمّي.

كما أن معظمَ الإسلاميين أزعجهم إيماني وتفكيري الحرّ، ونقدي لإحراقهم الدين في عربة الأيديولوجيا والصراعات على السلطة والمال والنفوذ.

لا أستطيع حين أكتب أنْ أُزيّفَ تفكيري، أو أكذب، أو أتملق أحداً. لا قيمةَ لكتابة تتملق القراء. ما قيمة صوتي حين يصبح صدى ببغاء تكرّر أصواتاً لا تفقهها. الكتابة هي الكاتب، كلُّ كاتب أصيل يكتب ذاتَه، وينسج من ألوان حروفه لوحةً تحيل إلى: مسبقاته ومعتقداته وفكره وأفق انتظاره وأحلامه.) (30)

التعليق: من الطبيعي أن يرى فالح مهدي، بالاستناد إلى ما خلص إليه منهجه من نتائج، أنّ كل مفكر يعتقد بالدين سلما للكمال إنّما هو يعبر عن ثقافة ذلك الحيز الذي هو جزء منه، ولذا فإنّنا لن نجد صعوبة في فهم عبارته بحق الرفاعي: " عبر الكاتب بأمانة عن ثقافة ذلك الحيز الذي هو جزء منه "، ولا يمكننا أـن نتخيل أمرا آخر في ضوء ثقافة تعتقد أنّ ثقافة المكان هي من ينتج الدين.

(3)

يقول فالح مهدي: (ثقافة عبد الجبار الرفاعي الواسعة والمنفتحة على كل النوافذ لم تمنعه عند الكلام عن الإنسان، من اللجوء إلى التعميم، إذ نجد في الصفحة (8) ما يلي: (الإنسان يبحث عما يتجاوز الوقوف عند سطوح الأشياء والاكتفاء بظواهرها ... إنّه يفتش على الدوام عما هو أبعد مدى ... إنّه في توق لاكتشاف " معنى المعنى " ...).

عن أيّ إنسان يتحدث عبد الجبار الرفاعي هنا ؟ فهو لم يأت إلى هذه الدنيا يوم أمس، بل إنّ تجربته في الحياة، وفقر حال والديه وضعه أمام سكتين، إما أن ينتقم من ذلك الماضي، ويتحول إلى كائن رخيص، أو أن يترفع عن كل ذلك. ودون تردد اختار السير على السكة الثانية، حيث نجد في سلوكه حبه لللإنسانية، ترفعه، موضوعيته، وقدرته الهائلة على التسامح والتسامي. إنّه على دراية من أنّ عبارة إنسان تضم تحت جناحيها مشارب، واتجاهات، ميول ومواقف، أذواق وحساسيات ... الخ، بيد أنّه لم يتوان من استخدامها بمعناها المطلق.

عندما تلتقي به يذهلك حكمه على من يعرفهم، دون أن يتخلى ولو لهنيهة عن موضوعيته ورقته، فيقول: إنّ فلانا متمكن بيد أنّه وعر في سلوكه، وإنّ فلانا مع أنّ الدنيا فتحت له أبوابها إنّما بقي يعاني من عقد نقص الأقليات ... الخ.

استعماله لمفردة "إنسان" وعلى ذلك النحو غير دقيقة في تقديري، لا اجتماعيا ولا أنثروبولوجيا، ولا ثقافيا ولا نفسيا. عبد الجبار الرفاعي على دراية بأنّ الناس مشارب واتجاهات، وليسوا سواسية كأسنان المشط: لا في سلوكياتهم، ولا في ردود أفعالهم، واندفاغاتهم، ورهافة حسهم، وتألق ضمائرهم، واستعداداتهم لبيع أنفسهم ... الخ.

ولم يكتف بذلك، بل ذهب إلى مقولة متمثلة بشوق ذلك الإنسان إلى البحث عن معنى المعنى ! لا أعرف ماذا يعني الرفاعي بمعنى المعنى، ذلك أنّ البحث عن المعنى لوحده أمر شاق من الناحية المنهجية، فما بالك بمعنى المعنى ؟ (31)

رد الرفاعي:

1: (لو بطل التعميم تبطل العلوم، العلوم تنشد التعميم والارتقاء من الجزئي إلى الكلي، ومن الجزء إلى الكل، ومن الخاص إلى العام. لو بطل التعميم لاندثر التقدم في كل معارف وفنون وخبرات ومهارات البشر، ولم تتطور ويهتدي الإنسان من خلالها كل يوم لاكتشاف القوانين العامة للطبيعة، وسنن النفس والمجتمع.

حين يتعطل منطق التعميم لا تتعطل علوم الطبيعة فحسب، بل علوم النفس والمجتمع. فلماذا يصبح حديثي عن الدين وتعبيراته، بوصفه ظاهرة أصيلة عامة كلية مشتركة في الحياة البشرية، ليس دقيقاً). (32)

2: (كان عبد القاهر الجرجاني " ت 471هـ " أول من استعمل مصطلح " معنى المعنى " في كتابه دلائل الإعجاز. كما ورد هذا المصطلح من بعده في أكثر من كتاب، مثل دستور العلماء. ما يقصده الجرجاني والبلاغيون وصاحب دستور العلماء من " معنى المعنى " هو: المجاز والكناية والاستعارة والتمثيل، كما أوضح ذلك الجرجاني الذي دشّن تداول المصطلح .

ما أقصده أنا في سياق هذا الكتاب من "معنى المعنى"  هو ذروة المعنى، أو كثافة المعنى، أو فائض المعنى أو ما وراء المعنى أو ما هو أبعد مدى من المعنى، ـأو ما هو أعمق منه. يمكن أن نتعرف على "معنى المعنى" في آثار الكثير من الفلاسفة واللاهوتيين والمتصوفة والعرفاء الذين تناولوا دلالات المعنى في اللغة والدلالة والعلامة والإشارة والرمز، وتجلياته في العقل والروح والعاطفة. وفي مطالعة كتابات شلاير ماخر ودلتاي ونيتشه وهوسرل وهيدغر وغادامير وبولتمان وتيليش وريكور ورولان بارت وأمبرتو ايكو وغيرهم ما يضيء ذلك. كذلك يمكننا اكتشاف مضمون " معنى المعنى " في آثار فلاسفة الإشراق والحكمة المتعالية، ونصوص التصوف والعرفان في الإسلام.

ولتوضيح ما أعنيه بذلك أشير إلى حدث الموت، بوصفه مثالا يتجلى فيه " معنى المعنى ". الموت حدث وجودي يكف فيه الكلام عن الكلام، وتكف فيه الكلمة عن أن تظل كلمة. إنّه الكلمة التي تفشل في البوح بمعنى صريح، إذ أنّ كل معنى تورده لها يحتاج إلى معنى يكشفه ويعلن حقيقته.

تعجز لغتنا البشرية عن القبض على معنى الموت؛ لأنّ هذه اللغة ولدت وتنوعت وتغذت من أحداث حياتنا وتجارب عيشنا المألوفة لنا. اللغة معطى تاريخي يختزن خبرات تعاطي الإنسان مع كل ما حوله من طبيعة وبشر، وتتسع لأفكاره ومشاعره وأحلامه ومتخيله، لذلك تعجز هذه اللغة عن التعبير عما لا يدرك الذهن صورته.

يتطلب التعبير عن الموت اجتراح لغة رمزية بموازاة هذه اللغة؛ ذلك أنّ الدلالات التي يحيل إليها حدث الموت لا تستقي معناها من معاجم وقواميس اللغة، وإن كانت بعض كلماتها ذات دلالات متداولة، غير أنّ بعض معانيها لا نعثر على كلمات تحكيها ولو مجازيا. إنّها لغة خاصة، معانيها خارج سياقات اللغة. إنّها لغة ما وراء اللغة. كي تفهم لغة معينة الموت لا بد لها من أن تحكي تجربة جديدة خارج سياق ما يعرفه الإنسان؛ لأنّ تجربة الموت حدث شخصي آتي، لا يتموضع في تجارب الكائن البشري اليومية قبل حدوثه ولا يعرفه الإنسان ما دام حيا. كي تبوح هذه اللغة بمعنى الموت فإنّها ينبغي أن تنبثق من داخل هذا الحدث المدهش، لتضع الإنسان في فضائه. لغة تتجه للداخل لتشي بشيء من طريقة وجود أخرى لكينونة هذا الكائن، لا تشبه طرائق وجودها الدنيوية.

الموت أعظم حدث يواجهه الإنسان. إنّه الحدث الذي يختصر كل أحداث الحياة. إنّه الحدث العصي عن التفسير والتبرير، ذلك أنّ كل تفسيراته تكرر نفسها، فهي غالبا ما تبدأ حيث انتهت، وتنتهي حيث بدأت. لعل الدين، ودين الوحي خاصة هو الوحيد الذي حاول أن يقارب الموت بشكل أكثر وضوحا من سواه، فقدم له تفسيرا وتبريرا مختلفا، وإن كان ذلك الوضوح يكتنفه شيء من الإبهام أيضا، لذلك يتطلب مفهوم الدين للموت دائما مزيدا من البيان والتوضيح.

الموت ذهول لا يماثله ذهول. إنّه أخطر حدث وجودي تواجهه كينونة الكائن البشري، فتتبدل به طبيعة هذه الكينونة. إبهام المعنى في الموت لا يعني انعدام المعنى، وإنّما يعني أنّه معنى يفوق ما هو متداول أو مبتذل من معنى، بل إنّ الدلالة فيه ضرب من الدلالة الموازي لنظام الدلالة المتداولة في اللغة. إنّه معنى كثيف عميق جدا لا يتطابق مع ما هو معروف في عالم المعنى. ليس لأنّه المعنى الذي يكف فيه المعنى عن أن يظل معنى، وإنّما لأنّه معنى عصي على الإدراك بالأدوات المتعارفة للقبض على المعنى.

الموت أمر أنطولوجي، وكل ما هو أنطولوجي، يشتبك جوهريا بكينونة الكائن البشري، إنّه مكوّن تتحقق به هذه الكينونة ويتحقق بها، إذ تتبدل به فيوجدها من جديد في حالة مختلفة. طبيعة التجربة الوجودية أنّها مما يتذوق كل ما تتحق به ومعرفته. الموت ذروة اختبارات كل روح وابتلاءاتها، حتى تلك الأرواح المتمردة الهاربة، تنصاع كرها لهذا الاختبار المريع، وترضخ له مرغمة عليه.

يعود إبهام المعنى وغموض كنهه في الموت إلى أنّ الموت هو الحدث الوحيد الذي تلتقي فيه كل معاني أحداث حياة الكائن البشري المريرة وامتحاناته الحزينة وتجاربه الكئيبة.

أعرف أنّي أتحدث عن الموت بلغة لا تخلو من التباس وغموض ورهبة؛ لأنّي أتكلم عنه بلغة قابعة وراء اللغة، والكلام بلغة كهذه يتحير فيها الفهم عادة، بوصفه فهما لما وراء المحسوس. هكذا دائما هي اللغة التي تحكي اختبارات وجودية، وتجارب ذات طابع أنطولوجي، بل أنّ اللغة الرمزية تشي بشيء من ذلك، مثلما نطالعها في الشعر والرسم والنحت، ولغة الأساطير والكتب المقدسة. ذلك أنّ الفعالية اللغوية فيها تقوم على استيعاب اللامحدود في المحدود. إنّها لا تخبرنا فقط عن شيء موجود، بل عما يمكن أن يتحقق بها وينوجد. اللغة طبقا لتلك الرؤية رهانات وجودية، تنكشف بها للكائن البشري ذاته، مثلما يحقق هو فيها شيئا من هذه الذات.

خزّان الكلمات لا يفي على الدوام بكل أغراض وانطباعات وغايات وأحلام الذات؛ ذلك أنّ توالد الكلمات أقل من أن يستوعب كل معاني المشاعر والانفعالات والأفراح والأحزان والعذابات والآلام التي تمور بها الذات، وتستبطنها الطبقات العميقة لعالمها الباطني). (33)

التعليق:

أولا: يعتقد فالح مهدي أنّ الرفاعي لم يكن دقيقا في تعميماته، حيث أنّه يعمد إلى تعميم ظواهر معينة إلى جميع أفراد الإنسان من دون أن يراعي الشروط العلمية للتعميم. فضلا عن انّ الملاحظة البسيطة، لو تنبّه الرفاعي لذلك، تبين بطلان تلك التعميمات.

في ردّه، جرّ الرفاعي الحديث إلى أصل التعميم، ولكن فالح مهدي لم يُنكر على الرفاعي أن يُعمّم، وإنّما بين انّه لم يتقيد بالشروط العلمية للتعميم. ومن جهة أخرى بيّن الرفاعي أنّ تعميماته تتحدث عن ظواهر أصيلة عامة كلية مشتركة في الحياة البشرية، ولكن فالح مهدي سيعود ليسأل: وما الدليل أنّ هذه الظواهر أصيلة عامة كلية مشتركة ؟ هذا هو السؤال الذي ينبغي على الرفاعي أن يقدم الإجابة عنه.

ثانيا: يتساءل فالح مهدي: ما الذي يعنيه الرفاعي بـ " معنى المعنى "، ولا نعلم هل كان مهدي يسأل عن المصطلح ومعناه أم عن معناه فقط؟

أغلب الظن أنّه لم يكن يسأل عن المصطلح باعتباره كثير التداول، ولم يكن أيسر عليه من الاستعانة بشبكة المعلومات للحصول على العديد من النتائج بشأنه. نعم كان سؤاله عن معنى المصطلح عند الرفاعي في محله؛ ذلك أنّ الرفاعي أورده دون إيضاح مراده منه. وقد يبرر ذلك له أنّه لم يكتب " الدين والظما الأنطولوجي بلغة أكاديمية، ولكن ذلك لم يطرد كما هو واضح في توضيحه لما يتبناه من معنى لبعض المصطلحات كاللأيديولوجيا، والظمأ الأنطولوجي، والذات، وغيرها. وعلى اية حال فإنّ الرفاعي قد أجابه عن المصطلح وما يقصده به.

(4)

يقول فالح مهدي:  (منهجه ذاك أدّى به إلى إيجاد مصطلح أطلق عليه "الأنا الخاصة"، إذ يبدأ القسم الأول من كتابه بتعريف تلك الذات، وفي ضوء منطقه وعقلانيته، يقوم بتعريفها على النحو الآتي: "وإنّما نريد بها الذات الفردية والهويّة الشخصية والتي هي قوام الحياة الباطنية للكائن البشري. فمن دونها يفتقد كل إنسان ذاته ويصير نسخة مكررة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفاً..." ص 15 .

في تقديري إنَّ الذات والتي بطبيعتها شخصية ليست الهويّة التي أطلق عليها الرفاعي "شخصية"، ذلك أن مفهوم الإنسان عن نفسه يبدأ وينمو ويتفاعل وينضج في ضوء تجاربه ومراراته وخيبات أمله، أو إحساسه المرضي والنرجسي المتمثل بتضخم تلك الذات. هذا الشعور ينبع من إدراك الفرد لوجوده وكينونته. البعض يعرّف الذات بوصفها إناءً يستقر فيه الوعي أو الشعور والاستجابات لخبرات وتجارب تنطوي على ألم وسرور. عملية التفاعل تبدأ عندما يقوم المرء بوعي تلك الذات كموضوع، أي إدراكه لنفسه بنفسه وتقييمه لها، أو الفكرة التي يكوّنها الفرد عن نفسه.

أما الهويّة، فهي كموضوع مستقلة عن الذات ومرتبطة بالثقافة والمكان، التاريخ والجغرافية، التقاليد والعادات. وتعرّف بوصفها مجموعة القيم والمثل والمبادئ التي تقوم عليها الشخصية الفردية والجماعية. فبدون هوية لا يستقيم أمر الذات، إذ إنَّ هناك علاقة ديالكتيكية بين المفهومين ولا يقوم أحدهما دون الآخر. هوية الفرد هي لغته وثقافته وتاريخه. الهوية مرتبطة على نحو لا فكاك منه بمفهوم الثقافة.

ولا يغفل الكاتب هذا المفهوم، فيبذل جهداً واضحاً لتطويره، فنجده يقول في الصفحة 16 "لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية، وهذه الذات لا تتحقق من دون فعل... الذات البشرية وجودها وصيرورتها الحرية، وحيث لا حرية تنطفئ الذات ...".

وقبل الحديث عن الحرية، تنبغي الإشارة إلى أنَّ الذات البشرية لا تتحقق دون أن يكون لها وجود، لذا فالأصوب هو أن الحياة الإنسانية لا تبدأ إلا عند وجود تلك الذات أولاً وتحققها ثانياً). (34)

رد الرفاعي: (إشارتكم إلى عدم تمييز الكتاب بين (الذات الفردية) و(الهوية المجتمعية)، إذ أشرتم بقولكم: (في تقديري إنَّ الذات والتي بطبيعتها شخصية ليست الهويّة التي أطلق عليها الرفاعي "شخصية"...). والذي ورد في سياق تعليق على حديثي عن "الأنا الشخصية"، وبيان أني أعني بها: (الذات الفردية والهويّة الشخصيّة، والّتي هي قوام الحياة الباطنيّة للكائن البشري. فمن دونها يفتقد كل إنسان ذاته، ويصير نسخة مكررة متطابقة مع نموذج محدد مصاغ سلفاً).

من الواضح أن (الهويّة) لا ترادف (الذات). سياق الحديث يدل على أني استعملت الهوية هنا وفي هذا المورد فقط بمعناها اللغوي لا الاصطلاحي، لذلك خصصتها بأنّي أعني بها (الذات الفردية والهوية الشخصية) بغية تفسير ما أقصده. وما ورد في الفصل الأول من الكتاب يؤشر بوضوح في عباراتي للتمييز الذي أقمته بين الذات الخاصة (الأنا)، والـ (هوية) المجتمعية. كما تشي بذلك هذه النماذج من عباراتي: (فائضُ هويتي يسجنُ ذاتي، ويصادرُ حريتي.. أنا لست أنا، يفرض عليّ انتمائي لهويتي ألَّا أكون أنا؛ كي تتطابق صورتي مع ما تنشده هويتي).  (35)

التلعيق:

أولا: من الواضح أنّ ما أورده فالح مهدي على الرفاعي لا يرد عليه، فقد كان الرفاعي واضحا في تمييزه بين (الذات) و(الهوية).

ثانيا: قول فالح مهدي: (تنبغي الإشارة إلى أنّ الذات البشرية لا تتحقق دون أن يكون لها وجود، لذا فالأصوب هو أنّ الحياة الإنسانية لا تبدأ إلا عند وجود تلك الذات أولا وتحققها ثانيا)، يوحي بأنّ كلام الرفاعي: (لا تبدأ الحياة الإنسانية الحقيقية إلا عندما تتحقق وتوجد الذات الشخصية)، لا يفيد ذلك، ظنا منه أنّه قدّم التحقق على الوجود بينما كان عليه أن يقدم الوجود على التحقق، والحقيقة هذا مردود لأنّي أظن أنّ الرفاعي لم يقصد بكلمة " توجد ": " تخرج إلى الوجود "، وإنّما قصد بها " تؤكد وجودها "، كمثل من يقول لمن حضر ندوة للنقاش، ولم يكن فاعلا فيها، مع علمه بحضوره: " إنك لم تكن حاضرا "، قاصدا أنّه لم يؤكد حضوره من خلال النقاش.

(5)

يقول فالح مهدي: (لا يكتفي عبد الجبار الرفاعي بذلك، بل ربط ما بين الذات والحرية وتوصل إلى نتيجة مفادها  "وحيث لا حرية تنطفئ تلك الذات". إذا أخذنا تلك المقولة العميقة على نحو مطلق، نجد أنَّها سليمة. بيد إنَّنا أمام كاتب مؤمن، وهو يعلم قبل غيره أن الإيمان والدين، لاسيما في الأديان التي لم تخرج من ماضيها ولم تقم بقراءة جادة ونقدية لكثير من الطقوس والمفاهيم، يحدّ من تلك الحرية). (36)

التعليق:  ما الذي يقصده فالح مهدي بإنّ الدين يحد من الحرية، فإن كان يقصد أنّ الدين لا يترك الحرية مطلقة وإنما يشرع حدودا لها، فذلك شأن أيّ مذهب فكري يحاول نظم أمور المجتمع، لا يمكنه أن يمنح الحرية دون أن يشرع لها حدودا. وإن كان يقصد أنّ الدين يشرع حدودا للحرية فيها تجاوز على حرية الإنسان، فذلك أمر فيه نقاش؛ لأنّ رسم الحدود وتشريعها أمر عائد لمفهوم المشرع عن العالم والإنسان، وبالتالي فإن النقاش سيدور حول مدى حقانية ما يقوله الدين عن العالم والإنسان، فذلك هو وحده ما سيحدد ما إذا كان الدين محقا في تشريع تلك الحدود أم لا. هذا من جهة ومن جهة أخرى: ليس الدين وحده هو الذي يرد عليه أنّه يشرع حدودا تتجاوز على حرية الانسان، فالمذاهب الفكرية المختلفة تتراشق الاتهامات باستمرار فيما بينها حول تشريعات يرى بعضهم أنّها تتجاوز على حرية الإنسان بينما يجد لها الآخرون تبريرا، فمثلا: داخل فرنسا نفسها، نجد أنّ هناك من يعتبر منع ارتداء الحجاب في أماكن معينة تجاوز على حرية الفرد، في حين يبررها آخرون. والمناقشات الدائرة حول أخلاقيات إجراءات مثل الاستنساخ أو أبحاث الخلايا الجذعية، تنقسم إلى معسكرين: أحدهما يرغب في السماح بعمل كل شيء، والمعسكر الآخر يرغب في حظر مجالات واسعة من الأبحاث والممارسات. (37) هذان مثالان من بين عشرات بل مئات الأمثلة التي يتضح من خلالها حجم الخلاف بين المذاهب الفكرية المختلفة حول الحدود التي ينبغي أن ينضبط على وفقها السلوك الإنساني.

من هنا يتضح أن الخلاف بين الدين والمذاهب الفكرية الإنسانية حول الحرية لا يكمن في أنّ الدين يحدّها وتلك لا تفعل، بل الجميع  يرسم حدودا لها بحسب رؤيته للعالم والانسان، وإنّما يكمن في أنّ تلك المذاهب تدعي عدم حاجتها إلى الدين في التشريع للحرية، في حين أنّ الدين ينكر عليها ذلك. ومن الجيد أنّ الإنسانية بدأت تدرك مؤخرا أنّها قد شطت كثيرا في تقييم قدرتها، هذا ما نراه واضحا في الحديث الراهن عن منطقة الفراغ التأسيسي للأخلاق النظرية – ويعلم الجميع العلاقة بين التشريعات المختلفة  ومبادئ الأخلاق النظرية -: (إنّه مطلب أحجية: فعندما يكبر طلب الأخلاق النظرية، وعندما تتكاثر النظرات الأخلاقية والأوامر العتيدة من كل جانب، وفي كل مجال، لا يستطيع المراقب الفطن، إلا أن يشير، مع ذلك، إلى المفارقة التي تلازم مجتمعاتنا، مجتمعات " ما بعد الحداثة " (تلك التي تفرغ المسارد الشمولية الكبرى). إنّ الأخلاق النظرية، وهي محل طلب في كل مكان، تغرس بمشقة معاييرها وقيمها في أرض هي أساسها ومسوغها. بل إنّها تبدو أحيانا مما يتعذر العثور عليه. فمن " كارل – أوتو آبل " إلى " بول ريكور "، ثمة مفارقة يُعنى بها عدد جم من المفكرين: إنّ زماننا الشغوف بصنع النظريات الأخلاقية يحيا، مع ذلك، في ظل أخلاق نظرية إشكالية في الغالب ... والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: إذا كنا من جهة أولى بحاجة إلى أخلاق نظرية، ومن جهة أخرى، تبدو مهمة تحديد أساس لأخلاق نظرية لما بعد الحداثة، تبدو أحيانا أنّها مهمة يائسة، وأنّ المعايير الأصلية ترتسم في الأفق بعسر. فكيف، من ناحية أخرى، يمكن أن يكون الأمر على غير هذا المنوال ؟ إنّ مهمة التأسيس تبدو بطبعها ذاته أقسى غرض لعصرنا. فإذا كان التأسيس يعني أن نجلب للأشياء المعطاة هنا – الآن مبدأ معقولية، ومسوغا، تحديدا، بصورة صحيحة أو كلية، للحقل النظري أو العملي، فكيف ننهض بمثل هذا المشروع ، وكيف نرقى لنبلغ فكر التأسيس الأخلاقي النظري ؟) (38)

من هنا أدرك العديد من المفكرين الإوربيين ضرورة العودة للدين لتجاوز الفراغ في الأخلاق النظرية، ومنهم    " لوك فيري "، الذي  يعتقد: إنّ الدين ما زال ينبوعا حيا للأخلاق. فهو يرى: إنّ مثل الوزنات  الوارد عند متى، هو بلا شك مقطع الأناجيل المعبر بأكثر قوة عن الانقلاب في وجهة النظر، الذي أدى بالمسيح إلى سحب المشروعية عن القيم الأرستقراطية لاستبدالها بقيم المساواة والحرية. ويمكن أن يصلح كخيط مثالي ناظم لفهم ما تقدمه لنا إلى الآن الثورة اليهودية المسيحية على الصعيد الإيتيقي ... لا بد أن ندرك جيدا ما يحويه هذا المثل من بعد إيتيقي. إنّه يمثل في عالم ما زال مليئا بالإيتيقا الارستقراطية زلزالا بحق، ثورة لا بد أن نقدرها. إنّها تُدرج لأول مرة فكرة المساواة كما سنجدها في العصر الحديث: معنى ذلك إن الطفل المصاب بالمنغوليا له نفس الكرامة هو وأينشتاين وأرسطو أو نيوتن.  ... إنّ الرؤية التي يحملها مثل الوزنات هي أحد إسهامات الأناجيل الذي بفضله سينفتح العالم المسيحي على العالم الانسانوي والديمقراطي ... ومثلها عظة الجبل. إنّها تبين فيم الحب في أقصى الحالات هو أهم من القانون، وكيف لا يقضي على القانون في شيء، بل يمكّن من تحقيقه، وإعطائه معنى لا يتوفر عليه بغير الحب (وهذا موضوع ذو دلالة عميقة للمؤمنين وغير المؤمنين على حد   سواء). (39)

تقول " جاكلين روس ": (إنّ الفكر المعاصر يجدّد بحكمة هذه الموضوعات المدرسية: إنّه يدرك أحيانا ضمن المبدأ الدين ينبوعا حيا، دون أن يخلط البتة هذا الينبوع بمعنى الأساس. وعلى هذا النحو فكر (إيمانويل ليفيناس) في التقليد التلمودي والتوراة اتخذ الدين بؤرة إلهام للأخلاق النظرية) (40)

وفي كتابه " الانسان المؤله أو معنى الحياة " ينصح " فيري " الإنسية الحديثة الرافضة لتأويلها ماديا، والمؤكدة على جانبها الروحي أن تعمل على إعادة تأويل إنسي للمفاهيم الرئيسية للدين المسيحي. بمعنى آخر لا بد لهذه الإنسية – بحسبه – من إعادة استثمار معين للمعجم، ومعه لرسالة الديانة المسيحية. وهو يقدّم في هذا السبيل مجموعة من الحجج،  تعمل لفائدة إعادة بناء الديني هذه.  (41)

وفي السياق ذاته (يتساءل هابرماس عما إذا كانت الدولة الليبرالية والعلمانية، قادرة على أن تسوغ قيامها و  " تجدد نفسها " بالرجوع إلى " منابعها الخاصة " أو بالاستناد إلى معاييرها الذاتية العقلانية أو الدستورية أو الديموقراطية، أم أنّها بحاجة إلى أن تستمد المشروعية والدعم من معايير سابقة عليها أو تقع خارجها وتتجاوزها ذات طبيعة دينية أو ما ورائية أـو خلقية ؟ ... وهو يعترف، ولو متأخرا، بوجود " أزمة " تعاني منها المجتمعات الديموقراطية المعاصرة، كما يتجسد ذلك في الميل الطاغي إلى التخصيص الذي يغلب المصالح الشخصية والنزعات الفردية على القيم التي تسهم في تشكيل الإرادة العمومية، فضلا عن الخيبات الناتجة عن النزاعات الدائمة والمظالم الاجتماعية الصارخة لمجتمع عالمي آخذ في التفتت. وبالطبع فالأزمة تطاول " العقل " نفسه، ولكن ليس على الطريقة النيتشوية التي يعتبرها هابرماس ذات طابع " تدميري ". وإنّما بإخضاع العقل لنقد جذري يطاول مبادئه التنويرية وأسسه العلمانية، بقدر ما يجعله ينفتح على آخر سواه، أي على الحقل الديني بقواه وفاعلياته ... لا على نحو التنازل للأخذ بالتصورات الدينية، وإنّما على نحو الاعتراف بنمط  الوجود الديني، سواء من الوجهة السياسية أو من الوجهة المعرفية، أي الاعتراف بمصالح الجماعات الدينية، وبأنّ ما تقوله لا ينتمي إلى منطقة اللامعقول، بل له رصيده من الحقيقة). (42)

وأخيرا بودي أن أنقل بعض ما كتبه " علي حرب " على ما تقدم من كلام " هابرماس "، حيث كتب: (هذا التطور الفكري لدى " هابرماس " يخالف أو يتجاوز ما ذهب إليه منظرون عرب، من دعاة الحداثة، يؤكدون على أنّ المبادئ والقواعد الدستورية والمدنية الخاصة هي أساس التضامن الاجتماعي، وهؤلاء يشهدون على جهلهم المركب، أولا بأزمة الحداثة؛ ثانيا بالتطور الذي شهد فكر هابرماس ...) (43)

 

رضا حسن الغرابي

...................

الهوامش:

29 – عبد الجبار الرفاعي، الدين والظمأ الأنطولوجي، مصدر سابق، ص261-262.

30 – نفسه، ص267 – 268.

31 – نفسه، ص262 – 263.

32 – نفسه، ص269-70.

33 – نفسه، ص271-273.

34 – نفسه، ص263-264.

35 – نفسه، ص270.

36 – نفسه، ص264.

37 – فرانسيس فوكاياما، مستقبلنا بعد البشري: عواقب ثورة التقنية الحيوية، مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 2006م، ص21-22.

38 - جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، ترجمة وتقديم: د. عادل العوا، عويدات للنشر والطباعة، بيروت، 2001م، ص9-10.

39 - لوك فيري، أجمل قصة في تاريخ الفلسفة، مصدر سابق، ص69-70.

40 -  جاكلين روس، الفكر الأخلاقي المعاصر، مصدر سابق، ص34.

41 -  لوك فيري، الإنسان المؤله أو معنى الحياة، ترجمة محمد هشام، أفريقيا الشرق، المغرب، 2002م، ص202.

42 - علي حرب، الإنسان الأدنى، مصدر سابق، ص231-236.

43 – نفسه، ص233.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم