صحيفة المثقف

حقيقة التنازع وتجلياته في سوبارتو لحليم يوسف

reebar habonيعالج الكاتب حليم يوسف المجتمع كونه نسيج جامع لكل الصفات المختلفة للبشر، حيث تعالج الرواية القبح والتشويه والاضطراب إلى جانب انتصارها للحلم والأمل والتبشير بعالم أفضل، لذلك تبدو الكوميديا في ذاتها موقفاً ثابتاً إزاء العسف والجور الذي يتم ارتكابه، إلى جانب العته والجنون، وكذلك التزلف والتملق، وهكذا فإن الرواية الاجتماعية تجسد ألواناً متعددة يحملها الشخوص عبر تلك الحوارات والسمات العامة للرواية في كونها تقدم للمتلقي، طبيعة الحال، والألم الساري في نفوس أفراد يلازمهم العجز المكتسب، والحاجة للبروز في نسيج المأساة الحاصلة، حيث ثمة جلد ذاتي حاصل بلهجة السارد للحدث يقدم البشر في سوبارتو على أنهم فلول وحشية وخائنة، حيث إسباغ الانفعال على المشهد، عبَّر عن نزق فني حقَّق قدراً من الإثارة والتتبع، حيث أن إثارة الضحك هو في ذاته إثارة للحزن، فيما أن تيقنا كنتيجة من أن الحزن والضحك مركبان من هيئة واحدة وهي الحياة، حيث لا تبدو الأمور منصفة بجزئيتها، فيما لو تم تناول سوبارتو كحصيلة لجهود عقلية، ولكن كان للجو المركب من هيئة الألم والضحك بمثابة الاكتمال للمشهد العام، الملم بجوانب الحياة في ظل المجتمع الذي يعيش في أتون معارك وصراعات لا تكاد تنتهي، حيثما تقف المأساة على إيقاع الحياة الرتيب أحياناً، نجد الدعابة والفكاهة ماثلة في أجواء الحدث وعلى مستوى الرواية النقدية بعمومها، كأن المعري2 كان محقاً تماماً حينما قال:

وشبيهٌ صوت النعيِّ إذ قيس بصوت البشير في كل نادِ

أبكتْ تلكمُ الحمامة أم غنَّت على فرع غصنها الميَّاد

صاحِ هذه قبورنا تملأ الثرى فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطأ ما أظنُّ أديم الأرض إلا من هذه الأجساد

وقبيح بنا وإن قدم العهدُ            هوان الآباء والأجداد

إبراز هذا التناقض هو المقصد من إبداء الفعل الروائي، كموقف يحتوي على أفكار ترتدي لبوس الثورة والخروج عن العرف الجامد، وكذلك بغية إشعال العقل وإشغاله بمقتضيات التفكير بالمجتمع عبر طرح التغيير كمسؤولية تاريخية صميمة، ينقلها الأديب أو الروائي ليبقى دوماً على مسافة معينة من المتلقي في كل عصر ومكان، لهذا فبتقديمنا لتلك المفارقة ما بين ما قاله المعري لإبراز ذلك التشاؤم عاكساً في الآن ذاته التشاؤمية الواضحة في هذه الرواية المفتوحة على كل الاحتمالات والتفاسير على صعيد العقل والتحليل والانطباعية، كل ذلك يمثل دوام الهاجس الفني في تحقيق جمالية المباغتة وتحقيق المفاجأة على صعيد تفجر اللغة والحوار، وكذلك كونهما يؤديان معاً وبالتزامن مع الحدث الشيء الذي لا يمكن أن تعرضه البحوث العلمية التي تعالج الأشياء على نحو يقتصر على الموضوعية والحيادية، أما عن الرواية فهي تعالج الإنسان، آلامه، أحلامه، وكذلك العثرات التي تواجهه على صعيد تجاربه النفسية والوجودية ككل، بل وتذهب لأبعد من ذلك من كونها تحاكي تساؤلاته الفلسفية في إطار جانبين متآلفين وهما خطاب العقل والوجدان معاً، ولعل ذلك ما يساعد المتلقي الفطن على استنباط رؤى جديدة وابتداع حلول وآليات أكثر حداثة وجدة في التعامل مع الأشياء بعين الفنان ونباهة الفيلسوف،وبمعرض حديثنا عن الكوميديا والغاية من عرضها في تفاصيل العمل الروائي فإننا نلمس ما قاله كرستوفر فراي3:  (الكوميديا مهرب، ليس من الحقيقة، بل من اليأس:إنها مهرب يأتي في آخر لحظة تؤدي إلى الإيمان)

لهذا فهروب الكاتب حليم يوسف يمثل تلك المحاولة المشروعة بتخطي الضعف على صعيد عيش الإنسان في أتون المواجهة إزاء الضغوطات والتحديات الجمة التي تقف في طريقه، لذلك كانت الكوميديا في ذاتها تشبثاً ببساطة الحياة وجوهرها وترفعاً عن الكآبة والحزن، أي تأكيداً لمقولة أزرا باوند4 في كتابه ألف باء القراءة حين قال: لا مكان في أشد دراسات الفن صرامة للشعور بالحزن، والكآبة، فالأصل في الفن أن يُدخل البهجة على قلب الإنسان

لذلك نجد أن المسعى الحيوي للكتابة يتجلى في تحقيق الأثر في النفس، ربما نقلاً لحصيلة تجارب متعددة، وفتح قنوات للتحاور الأكثر إثارة، ليس ببروز الذات المنفعلة، بل بإيجاد ذوات متفاعلة، تستطيع أن تهب روح الدلالة، وكذلك الخوض في الأغوار، إذ أن تجربة الرواية تعد نافذة رحبة لتقصي ما بالداخل من مساحات للتأويل والمقاربة، وكذلك للتعريف بجودة تجسيد التراجيديا، لدرجة التغني بالألم، وتحريض الروح على التفاعل، والانغماس بروعة اللغة وانسيابيتها في نقل مشقات وعقبات المجتمع، والتي تواجه أفراده على الدوام، فشخصية أبو عمشة توحي عن رغبة جمة ومركزة في كسر طوق الصمت السميك، والذي ما لبث أن يتداعى وبقوة، حيث توحي الشخصية الإشكالية هذه عن تعرية للفساد الأخلاقي الذي يعتمل المجتمع المتعنت بفوضاه الناجمة عن التقاليد والأعراف التي لا تهدد القيم الجوهرية التي تؤسس لعلاقات أفضل بين الرجل والمرأة حيث نتأمل هنا ص74: مارأيكم أن أعدِّد لكم عشرات الأسماء من نساء سوبارتو هذه ممن يقمن بنفس العمل، ومئات الرجال الذين لا يعرفون من المدن التي يسافرون إليها بحكم أعمالهم سوى أفخاذ المومسات.آخرون يعملون ليل نهار مقابل مبلغ يضعونه بين نهدي عاهرة.حالات الزواج التي تحدث هنا عندكم، حسناً إذا سألك أحدهم عن معنى العهر، كيف تعرفه؟، اعتبر نفسك طالباً في مدرسة، ألا تجيب بأن العهر هو فتح الفخذين مقابل الحصول على المال؟

فطبيعة التغييرات الاجتماعية التي كانت لمنظومة الدولة القمعية اليد الطولى في بناءه حالت دون مواجهة الانحلال الأخلاقي، الذي جعل المجتمعات تعيش في دوامة الفقر والجهل، حيث أن طمس الثقافات لصالح بروز ثقافة واحدة، وفئة حاكمة فارضة لهيمنتها، جعل مجتمع القاع يبرز أكثر فأكثر، حيث تذهب معالم التماسك والحضارة، لصالح نشوب الفساد بأشكاله في كل مكان، حيث تبقى القيم هنا أسيرة العبث بها كما أشار الكاتب إليها عبر سوبارتو، ويبقى صراع الإنسان الفعلي قائماً وفي أوج احتقانه للحفاظ على القيم الأخلاقية الطبيعية، المرتبطة بالتكوين الذاتي للإنسان ومدى قدرته على المواجهة الفعلية ضد قوى الانحلال والتبعية والمرض، حيث يجسد الأدب ذلك التحدي في إبراز عيوب المجتمع وإشهارها بوجهه، ولعل هذه المصارحة اللاذعة،تعتبر ظاهرة جريئة وفريدة من نوعها، والتي تجعل من الأعمال الروائية النقدية أعمالاً خالدة، نظراً لأخذها على عاتقها مسؤولية حماية المجتمع وإنصافه وكذلك الدعوة إلى نبذ كل ما يشوه حقيقة أن المجتمع يمثل في ذاته القوة التي لا بد من أن تنتصر من خلال إبراز عللها وتصدعاتها وكبواتها في ميدان الأخلاق والصيانة الذاتية، لبروز الحضارة التي تنتصر لمطلب الحق والواجب، حيث أن سقوط الحضارة مرده إلى تفشي التحلل في أوساط المجتمع، وداخل مختلف فئاتها وشرائحها بفعل استبداد السلطة الشمولية وتفسخ مؤسساتها بشكل هرمي، ولعل ذلك يؤدي بنا للحديث عن كوراث القمع والترهيب الذي تمارسه السلطة الفردية لدوام مكوثها فالصراع القائم ما يلبث أن يودي بصحة المجتمع وسلامة أفراده، ويشير كذلك إلى عجز المؤسسة عن الوقوف بوجه المفاسد التي تنخر داخلها شيئاً فشيئاً، مما يعطي نتيجة مفادها أن الاختبار قادم في شأن إعادة تصحيح المسار السياسي والاجتماعي الذي يوحي بالنتيجة لحقيقة مفادها ان التغيير لابد وأن يسبب الفوضى في بداياته، لكنه في النهاية ينتصر للمجتمع ومصالحه، ولمجموع القيم الطبيعية التي تعد عماد تشكيل الحضارات، وبالتالي فإن ما أشار إليه الكاتب حليم يوسف وبإسلوب استطلاعي عام، هو من مؤشرات قيام تلك الانتفاضة الشاملة التي ستحدد طبيعة الواقع التالي فيما بعد، بعد انهيارات أخلاقية وتصدعات جمة خيب الآمال، وجعلت الشباب في حالة هلع ولا استقرار،ولاشك أن التركيز على الفساد الاجتماعي، يرجح في الآن ذاته الاستبداد السياسي الذي جعل المجتمعات تعيش في تخبط وفشل تربوي فظيع، مما يجعلها عاجزة على استيعاب مضامين الحداثة الكلية التي تشمل الفكر والسياسة والمجتمع، حيث نجد أن سوبارتو أرادت الحديث عن ما يعتريها من فساد يحوي جميع الصعد، وما هذه البقعة التي يتحدث عنها الكاتب سوى أنموذج مثالي عن الأزمات التي يعانيها الشرق الأوسط والعالم العربي برمته، كما أن الحديث عن التحلل وغياب الحياة الطبيعية يشير إلى تفاقم الفساد الإداري وكذلك عجز الجهات المسؤولة على تفادي ذلك ومع الوقت يفشل الجهاز المؤسساتي من أداء وظيفته الموكلة على عاتقه ويصاب بالشلل والعجز التام الذي يقودها إلى التشظي والفناء كنتيجة حتمية، فالانهيار يقودنا إلى التنازع والتقاتل، وكذلك لتفكك البنى الرئيسية للمجتمع، وتصبح تلك الأقاويل والشعارات مجرد كلام في الهواء إزاء الخوف من الحاكم وأتباعه، الذين همهم الأول ترسيخ سلطتهم عبر قمعهم اللا محدود، ولاسيما أن ظاهرة التطرف هو نتيجة سلبية كارثية عن هذا الاستبداد والفساد الذي أشار إليهما الكاتب حليم يوسف في سبره لمعضلات سوبارتو وحوادثها، فهي مؤشر على تلك الهاوية واتساعها مع الوقت، فأمام هذا الكم من الانشقاقات الحزبية التي أشار إليها، ومن هذه المحسوبيات التي توغلت داخل الحزب المنادي بالعدالة الاجتماعية والثورة، يرقد الحب ميتاً ومضرجاً بدموع سليمان، الذي لم يعد يرى في الحياة سوى تلك الجماهير التي تبدو مثل كتل سوداء من الدخان، وسط أحزاب الغبار، والعالم المتداعي بخيباته الجمة حيث نتأمل هنا كيفية عرض المأساة بأسلوب يدعو للكآبة والحنق، ص86:“ قبل أن أكمل حديثي، تنفسوا الصعداء، تبعهم صابروا، مرة أخرى، واحداً بعد الآخر باتجاه المرحاض للتبول. رغبت في التبول على أرض الغرفة المزينة بالصور،شعرت بدمي يسيل من الصور المعلقة فوق رأسي.منعني الصداع من التفكير.خرجت من المحاكمة مترنحاً،كمن فقد نفسه.ارتميت على أعشاب قريبة من بيتنا. وضعت رأسي بين يدي وبكيت، بكيت كما لم أبكِ من قبل.بكت الأعشاب معي، بكت الأفعى المختبئة في حوشنا القديم، بكت الحجارة المتناثرة على قبر جدي، بكت الأرض، بكت السماء،عدت إلى البيت. مبلل الثياب، شعرت بأسياخ حامية تشوي لثتي . أسناني توجعني، رأسي يتشقق.كم أود أن أنام فلا أستيقظ أبداً.ما أبعد النوم وما أقرب الموت، كان هناك طفل من ضوء يجلس وحيداً على كرسي مشع،ينظر إليّ بود صامت.

فتلك الدراما التمثيلية بلغة وجدانية صاخبة، تحاول أن تنقل لنا ما وراء السطور، لا كونها وسائل لنقل الأحداث على نمط تسجيلي، بل إن جل غاية الرواية الاجتماعية،، المحاكة بروح وجدانية ذاتية، هو أن تنقل الصور والمشاعر والأحداث إلى المتلقي، ليعمد من خلالها إلى إعداد الذهن، وتهيئته للتساؤل والاستكشاف والقدرة على الفهم الجيد والجديد، لظواهر الحدث ومراميه، ولعل القارئ هنا، أمام اختبار ذهني داخلي، ليستخدم كل حواسه وروحه، لأجل البحث عن مقاصد سوبارتو، وفهمها على نحو جاد ومرت، حيث يقف المرتدون عباءة التحزب، والمشغولون بتلفيق المفاهيم التبريرية لصالح الحزب الشمولي، الذي يلتف حوله عادة، طغمة من المريدين الحمقى، ممن شربوا من آبار الوهم والانقياد والاصطفاف التبعي إلى جانب المصالح والمناصب، أمام الحب ورغبة التغيير الذي يقوم به سليمان، هنا بحزم بالوقوف عبره معترضاً على كل التهم التي تلتف حوله، حيث ينقل لنا الكاتب حليم يوسف اللذاعة الصريحة، في التصدي للتطرف العقائدي البغيض، الذي يعد جهة قمع أكثر فساداً، وتعد بمثابة الدولة التي توجد داخل الدولة القمعية الشاملة، فبدلاً من أن تؤدي وظيفتها المفترضة، الدقيقة والموضوعية في تنظيم الجماهير والنخب الشابة، تقف عائقاً خشناً إزاء عواطف الأفراد وشؤونهم، باسم الشعارات الجوفاء التي لا تمت بصلة للواقع المعاش، وبذلك ينقل لنا الكاتب حليم يوسف الصورة التي تكتظ بالنقمة والصراخ، مجسداً عجز وإفلاس الذهنية الشمولية في قيادة الجماهير ونهضتها، مستخدمة في الآن ذاته -التهويم النفسي- وهو ضربٌ من ضروب العبث والتأثير بالشباب غير الناضج، ليكون آلة تلقائية تتلقى الأوامر على نحو غرائزي تعويدي، مستخدمة الشعارات والخطابات، المليئة بالوعود والآمال، وذلك بزجهم في أتون أحلام طوباوية تعمل على إماتة التفكير النقدي الحر في أرواح مريديها وتلامذتها، للحيلولة دون تجاوزهم لذلك القالب.

وبذلك نجد التهويم، النسيج الأكثر متانة الذي يلتف حول جماهير مسحوقة، تعيش بين مطرقة السلطة الشمولية القامعة، وسندان الأحزاب الشمولية المرتدية عباءتي الموالاة والمعارضة، تماماً يتجسد ذلك في مجتمع سوبارتو، حيث يعتبر النموذج المثالي المصغر لمجتمعات الشرق الأوسط، والعالم العربي، إننا هنا في معرض تفكيك وتحليل واستنباط، لدلالات الرواية لكشف المضامين الجوهرية فيه، وكذلك الإشارة إلى جمالية اللغة، وقدرتها على الرصد والمواكبة والاستطلاع، ونقل الأفكار بصراحة لاذعة، لتعطي من حيثيات التقابل بين الشخوص عن طريق الحوار، تلك الرؤى التي نطمح لإظهارها عبر  إعمال النقد الكاشف لعلل المجتمع والتغيرات التي تطرأ عليه تبعاً لحوادثه، ولعل صرخة السارد، سليمان، توحي بمؤشرات التغيير الحية، وجعلت القلم النقدي يسهب أكثر في مواكبة ذلك، جاعلة من الانطباعية التحليلية، الحكم في التبحر والإتيان بمقاصد سوبارتو، عبر إيغالها بالمنتوج الإبداعي، والتطرق إليه من أكثر من زاوية، لبيان ذلك الوجه الأعمق والأهم الذي يأتي به النقد لنستخلص جوهره القائل بأهمية التطرق للأفكار التي تجلي الغمامة عن ما خفي وبطن في سياق الكلمة الأدبية، وتذهب لأبعد ما يوحي إليه النص، في إتيان إبداع يتغذى على إبداع موضوع على طاولة التأمل، فهنا كشف صريح لإشكالية التنظيم وسلبيات الفكر الإيديولوجي الذي يتعمد بهالة الشعارات، ودغدغة مشاعر الجماهير البسيطة، والذي تغذى تاريخياً من طقوس الأديان في تقديس نصوصها وتقاليدها والخضوع لزعماءها وشيوخها، الأمر الذي لا يستسيغه الفكر الحر، ويعتبره من أهم المعوقات التي تقف في طريق النهضة المعرفية والفكر الحر في كافة أنحاء الوجود الهندسي، كونه يعمد أبداً إلى قولبة كل ماهو غير قابل للتحنط والجمود ومثالاً الحب والعلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة، كل ذلك انتصاراً لنرجسية فكر الزعيم الملهم، ذلك ما يحاول سليمان أن يصل إليه في احتجاجه العفوي المتمرد، والمؤلم على محاكمته لحبه لبلقيس ابنة مسؤول الحزب فمطلب التعبير الفردي عن ما يختلج الأعماق والأفكار، هو تسليم بإرادة التغيير، وعدم السماح بتجاوزها تحت أي بند، أو مزعم، لهذا أمكن أن تتصارع تلك الحقيقتين، عبر التاريخ، لينتصر أخيراً مطلب التغيير المنصف لإرادة الإنسان ورغبته بالحياة، رغم التحديات والعثرات الموضوعة في طريقه، حيث تقف إرادة الفرد المعرفي ضد بواعث الخطر والدمار الذي من ممكن أن ينجم عن التنظيم السلبي وعدم استيعاب طاقات الشباب الذهنية، عبر الاكتفاء بزجهم في صراعات داخلية تفرغ الطاقة الإبداعية منهم وتسلبهم طمأنينة الحياة الأفضل،وكذلك فإن بحث تجارب المجتمعات في مواجهتها لقوى التهويم والجشع الربحي يعطي حقيقة مفادها، أن ثمة ذلك الصراع الرهيب بين قوى المعرفة التي تصون القيم مقابل قيم تعتاش على زوال تلك القيم التي تشكل عماد بقاء تماسك المجتمعات ورقيها باتجاه المزيد من التقدم والحضارة،حيث نمعن في شخصية دينو الثائر، والذي يهيل عليه المجتمع بتهمة الجنون، كونه يذهب عكس التيار، ويتجاهل التعامي والفساد الملاصقين لبعضهما والمحيطين بالأفراد، حيث نتأمل هنا: ص94: صابرو ودينو دخلا كلية الآداب، أما ابراهيم فقد دخل إلى كلية الهندسة الميكانيكية، صرنا أمام وضع جديد، صابرو لن يدوام إلا في شهر الفحص فقط،ولن يدوام معي إلا ابراهيم ودينو الذي تخلف عنا لسبب فاجأ الجميع،فقد دخل السجن مع مجموعة كبيرة كانت لهم معه علاقة سطحية، كما كنا نظن.شعرت بقطعة من جسدي تنتزع مني، انتظرت خروجه لأيام، كانت توقعاتي خاطئة، اختفى ويستحيل أن يعلم أحد. بمكان وجوده، بدأت ذاكرتي تسترجع خطاباته الحماسية المسبوكة بسخرية مريرة وأحاديثه النزقة عن الأحزاب التي تنشق على بعضها وتتمتع بطباع القطط، وتحاول إخفاء فضلاتها بالأتربة دائماً، وما رسخ اعتقادي بعلاقته الأكيدة مع هذه المسائل نوبة الغضب الأخيرة التي انتابته، عندما شق ثيابه وتعرى. ولولانا لشق جسده بمشرط حاد كان يحمله في يده وهو يصرخ: -انشقاق..انشقاق.انشقاق..سأشق جسدي وأستريح من هذه الانشقاقات. وبقي يهذي بسخط: -أحزاب تولد مثل الأرانب يارجل،العشائر باتت أكبر منها. حرر نفسه من أيادينا بعد أن أخذنا المشرط منه فبدأ يركض عارياً يحمل حفنة من تراب بين خطوة  وأخرى ويذورها للريح، صائحاً : غبار، خمسون عاماً، ألف عام من الغبار، أحزاب الغبار.

نجد معالم النقمة والصراخ، تبديها سمات وملامح دينو وكذلك نبرته التي احتوت الحماسة، السخرية والحنق الشديد، حوّلته لشخص آخر، حيث بدأ بالجنون الفعلي، إزاء حالات مزرية تتوالى، وتحول دون الوصول لنتيجة إيجايبة، فبزدياد الأحزاب وكثرة الانشقاقات، تسير عجلة المجتمع إلى الفوضى والتقهقر الذي يسهب الكاتب في الحديث عنه، حين انتقال سليمان إلى المدينة للدراسة، فخروج الأفراد أو المجموعات داخل حزب معين وتشكيل حزب آخر، أربك من فعالية الثقة والانجاز، حيث جعلت الفئات النزيهة تلجأ إلى الاعتزال السياسي، الذي يسهم في طبيعة الحال إلى نشوب حالة أشبه بالجنون والزهد، الجنون الذي أصاب دينو وجعله هائماً ومعتقلاً إلى أن بات مختفياً مع مجموعة كبيرة من رفاقه، لا أحد يعلم عنه وعن رفاقه شيئاً، وبين سلوك الزهد أو الاغتراب الذي تجسد في شخصية سليمان وحبه لبلقيس، وكذلك محاولته لتناسي حالة الحب الجميلة والطبيعية التي مر بها، والتي تكللت في النهاية بمزيد من الألم والشقاء، والدخول في متاهة الشهوات، والغزائز المبتذلة، هنا يربط الكاتب حليم يوسف بين الفساد السياسي والاجتماعي، وأدوار الشباب في ظل فساد وتحلل المؤسستين السياسية والاجتماعية، فالتنافس البغيض بين الأحزاب والهرولة إلى سباق الانقسام والتشظي، أدى بالنتيجة إلى ظهور الإعياء والوهن الاجتماعي الذي طفا جلياً في ملامح الفئات الشابة المستنيرة والتي يقع على عاتقها، القيام بعملية البناء والتحول الديمقراطي، فبروز الصراع الداخلي خنقت في الفئة الشابة أسمى مواهبها، في إدارة مناحي الحياة، فبرزت معالم الاغتراب بقوة، وجرى الانقسام في بنى المجتمع وترهل فئاته وشرائحة الشابة نحو كواليس الانزواء والتحلل والضياع، حيث الاغتراب الفردي، ومرد تلك الانشقاقات هي تقليدية الفكر، وجفاف الروح الابداعية، وتسلط المتنفذين والانتهازيين وتوغلهم في كل تنظيم، يحاول القيام بأداء المهام الموكلة على عاتقها، هذا ما جعلها في النهاية، أسيرة الفوضى والتبعية، وجعلت الشباب من أبرز ضحايا الانقسام الدائم،ناهيك عن الديكتاتورية والتفرد في الحكم، أي الزعاماتية في منطق المجتمع الأبوي الذي تجلى في بنية الحزب الشمولي، وغياب أدوار الشباب المعرفي في التغيير والعمل عليه، كل ذلك قاد المجتمع إلى الفوضى، وانسداد آفاق الحل، إزاء عجز النظم الشمولية، عن تقديم الحلول والبدائل العملية، فالأنشطة السياسية، باتت مشاريعاً ربحية، تصب في خدمة الفئة الخفية المتحكمة في بنية وقرارات الحزب، وغياب الديمقراطية الجوهرية، جعل فئات الجماهير تسير دون وعي بحقيقة مسعاها، ومبتغاها الأصلي، غير دارية بحقيقة الفئات التي تقودها، حيث يتناول الكاتب حليم يوسف، سلوك الشخصيات، ومآلات الحدث، على نمط يشير إلى علاقة الأفراد، بعضهم ببعض من ناحية التنظيم، حيث تتجلى الفوقية والاتكالية، وبروز الأنانية والتجهيل الكلي، والتجاهل لرغبات الشباب وهممهم، وعدم احتواءهم لطاقات الشباب، أو مراعاة طموحاتهم وأفكارهم الجديدة في التغيير والبناء، إلى جانب تفكك الأصدقاء وكذلك الأسر نتيجة طغيان الجهل والفقر، إلى جانب التنقل بحكم الظروف، فمن آخر يغيبه الأمن إلى آخرين يعيشون حالة الاغتراب التي عمت في النفس وتأصلت في ظل انعدام الحرية، والاختيار، حيث تعالج الرواية النقدية، المجتمع متفردة في الحديث عن علله وعيوبه وأثر منظومة العادات والتقاليد المقتبسة عن الأديان، على الفكر السياسي والتنظيمي، وكذلك فإن ابتعاد الفرد عن طبيعته، ونكران رغباته، هو مواكب في الآن ذاته إلى سعي التنظيمات الشمولية لتفريغ محتوى وطاقات أفرادها من أي إرادة في الاختيار أو النقد الحقيقي، وكذاك ابتعاد التنظيم عن غاياته التي جاء من أجلها، هذا ما أراد حليم يوسف قوله في معرض تطرقه للانشقاق المرادف لسحق الحب الذي في قلب سليمان، السارد والرواي لكل هذه الحوادث على نحو مكثف، يدخلنا إلى متاهة مركبة مبنية على النقمة والنفور، من مظاهر الخيبة والمعاناة في الميدانين الاجتماعي والسياسي، المتأثر بالجهل والفقر، فالعالم التراجيدي الذي بناه الكاتب في تناوله لمجتمع سوبارتو، لم يكن وليد التخييل الفني فحسب، وإنما هو إبراز للذات المنتهكة من كل النواحي، والتشاؤم الذي أسبغ على الفضاء التمثيلي بزمانه ومكانه، وشخوصه، أعطى للغة الفنية جودة تخييلية وإبداعية في الكشف عن أوكار الوهم والخرافة المتفشية في المجتمع الذي بات أسير فوضاه التربوية والسياسية، سيان أن تنقلت بين هدوء الأرياف وحاضرة المدن.. إذ هذه العوالم الملونة، المختلفة بين الحديث عن هموم الأرض، الأحزاب، التقاليد، المرأة، انعكاساً لنتائج الإبادة الثقافية والتشويه الذي فرض على أهالي سوبارتو وشبابها، وكذلك إفساح ذات القدر الكافي للحديث عن طباع البشر فيما يخص مفهومي الملكية والتنازع القديم الجدي.

 

ريبر هبون

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم