صحيفة المثقف

إبريق جوتي

sardar mohamadلم يدر في خلدي، وسقط من بالي أن لقاء سيجمعنا ذات يوم، فهي أكبر زميلاتي في معهد الفنون عمراً، وكانت تسعد عندما تُنادى بكلمة (مام) بينما أغتمُ عندما أنادى بكلمة (أنكل) .

كان لي موعد مع (جوتي)* اليانعة التي تصغرني كثيراً ويتمناها الكهول والشباب .

رنّ جرس الباب، سارعت وكليّ لهفة وشوق للقائها كلهفة حبيب فارق حبيبته دهراً،لكني تفاجأت ب (مام) عند عتبة الباب، ولم يكن من اللائق أن لا أدعوها إلى الدخول،فسلمت تسليم البشاشة، وهي تعرف مقدار احترامي لها .

إذن ذهبت سدى كل تخيلاتي وما أعددت لمحاورة جوتي عندما ننفرد من رقيق الكلام وعذب المنطق وحلو الثناء (والغواني يغرّهن الثناء).

(مام) تحمل علبة ليست بالكبيرة هديّة عيد ميلادي الذي قرّرنا أنا و (جوتي) الإحتفال به معاً .

وجدتني (مام) مرتبكاً محرجاً وكأني أنتظر زائراً، وكنت كلما أملت مغادرتها تزداد أصراراً على البقاء .

- ألا تفتح غطاء العلبة ؟

إبريق جميل كالأباريق التي يحتسي بها السلاطين والأباطرة الخمر .

- أسكب لنا كأسين .

تذكرت (قامت بابريقها والليل معتكر فلاح من وجهها في البيت لألاء)

الخمر الوردي المندلق من الإبريق رائق تكاد الأشياء تُرى من خلاله، لم أتذوق مثله من قبل .

برشفة واحدة منه دبّ ما يشبه النمل في خلاياي ومسامي، (وتمشت في مفاصلي كتمشي البرء في السقم) فغرقت في عوالم لم أعهدها من قبل جعلتني أغمض جفوني نشوة وأتخيل (جوتي) بين ذراعي .

- إفتح عينيك ولا تسبح في وهم، أعرف أنك تنتظر جوتي، ولكن جوتي لن تأتي فهي في عالمها الحقيقي داخل الإبريق .

- ماذا.... أين؟

- ما العجب في ذلك، داخل الإبريق وإذا لم تصّدق فيمكنك دخوله لمشاهدتها .

- ماذا؟ !! أدخلُ الإبريق،كيف يمكن هذا؟

- لا عليك،خذ رشفة من الخمر واطبق بشفتيك على شفتي، مصّ رضابي وعيونك مفتوحة فتشعر بحرارة تذيبك ويصغر حجمك فتستطيع ولوج الإبريق بسلاسة .

لأجرب ذلك، ما الذي سأخسره،ءأكثر من خسراني وطني، فقالت :

إن لم تعتقد به لا تفعل، فقد سمعت ما حدّثت به ضميرك .

- وكيف سمعت هل تعلمين الغيب أم تطّلعين على الأفئدة؟

خجلتُ، ورشفت من الخمر الوردي وسارعت فلثمت شفاهها،

في لحظات شعرت أنني أصغر ...أصغر حتى صرت بحجم استطعت من دخول فوهة الإبريق بيسر .

وجدت نفسي في قرارته ولكن، أين جوتي التي جئت من أجلها ؟

ووجدت نفسي في جنّة خضراء يانعة الغصون،على كل غصن تجلس غانية حسناء كأن خدودهن الورد .

حدّقت بوجههن فكانت متشابهة كلها ورمقت قوامهن فرأيتها تتمايل هيفاً وليناً

صحت : جوتي ..جوتي ..جوتي، يا لله أين جوتي؟

سمعت صوتاً من يميني ...أنا، وقبيل أن ألتفت طرقني من شمالي صوت ...أنا

ثم ترددت من الجهات كلها : أنا ... أنا ...أنا ... أنا

كدت أجن فهربت من الجنّة، فوجدت معبداً فدلفته لأخفف من هلعي، فهالني مارأيت .

هذه المصليّة هي جوتي ..هذا هو شالها .

أعرف شالها الذي طالما تخيّلت أني سألثمه .

إنتظرت حتى أكملت صلاتها، التفتت إليّ فزاد ذهولي، هذه (مام) تلبس لباس جوتي، وقالت :

لا تذهل جوتي هي مام ومام هي جوتي،

 كل نساء الكون هنّ جوتي .

 

سردار محمد سعيد

نقيب العشاق بين ذرى قنديل وقمم هملايا .

...................................

* جوتي زميلتي في معهد الفنون بالهند. والقصة من مجموعة قصصي غير المطبوعة: العوم في بخور الهند

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم