صحيفة المثقف

إشكالية الانتحار!

najib tala2توضيح لابد منه: حتى أكون صادقا مع القارئ الكريم؛ ذاك القارئ المفترض؛ أن هذا الموضوع وضعناه كبرولوج لنص مسرحي؛ قيد الطبع إلكترونيا تحت عنوان [حبال الرحيل] والنص أساسا ليس تطبيقا لما هو أدناه بل استحضار لبعض المبدعين المغاربة (حوري الحسين/ كريم حوماري/ عبد القادر الحافوي/ سعيد الفاضلي) الذين انتحروا؛ وفي نفس السياق؛ محاولة لإعادة النقاش حول إشكالية الانتحار الذي تفاقم بحدة وشدة في السنوات الأخيرة؛ وخاصة في العالم العربي / الاسلامي.. .. !!

الموضوع:

الإنتحار ظاهرة جد معقدة؛ إذ يكمن تعقيدها في عدم فهم مغزاها وتحليل طلاسمها؛ أو تأويل مسبباتها؛ لأنها معلقة بين الحياة والموت وأسئلة الوجود، والتي تجول في أعماق الإنسان وتفاعل انوجاده عبر التاريخ البشري في سيرورته وديمومته؛ وتعقد هذا الحتف المفاجئ والغامض جدا، هو نتيجة تداخل الذاتي بالميتافيزيقي؛ والموضوعي بالغيبي والغيبي بالذاتي والسحري والسّحري بالموضوعي؟ وهذا يشير بأن الظاهرة في حد ذاتها خليط من المفاهيم والمعطيات؛ التي تجعلك تتيه في التفسير والتحليل والتركيب؛ إذ كيف يضع المرء حدا فاصلا لوجوده الفيزيقي واغتيال شجرة حياته في رمشة طرف؟    سؤال يحيلنا إلى ما هو أعمق؛ هل فاعل الظاهرة يكون في حالة تخدير تام وشلل ذهني غير معلوم؟ أم يدرك فعله؟ وهنا السؤال متمركز على شريحة اجتماعية معينة؛ألا وهي فئة الأدباء والشعراء والمفكرين... وهم نسبة كبيرة في العالم العربي والعالم بأسره . وما أعتقد بأن أغلبية المنتحرين لم يطلعوا على فلسفة الانتحار عند ألبير كامو؛ مؤكدا بأن معظم المفكّرين المؤيدين لفكرة الانتحار ويصفون هذا الفعل بالشجاعة لم ينتحروا، وعلى رأسهم الفيلسوف الشهير شوبنها ور، والذي كان يكتب عن الانتحار؛ وفي السياق ذاته يشيرمن خلال (أسطورة سيزيف): إنه لا توجد قضية يستحق أن يشنق الإنسان نفسه لأجلها. ورغم ذلك فظاهرة الانتحار متفاقمة بين كل الشرائح الاجتماعية؛ وخاصة في الأوساط الثقافية والإبداعية؛ لأمر ملفت للنظر!ف: جومانة حداد (كاتبة لبنانية) قدمت عددا هائلا من المنتحرين في كتابها [سيجيئ الموت وستكون له عيناك] وفي سياق هذا الكم الهائل من المنتحرين - ك: الشاعر أحمد العاصي /أسامة الدناصوري/ فخري أبو السعود /منير رمزي /اسماعيل أدهم / سعاد حسني/ صلاح جاهين أروى صالح (مصر)عبد الباسط الصوفي /رياض الصالح الحسين/ عبد اللطيف خطاب (سوري) إبراهيم زاير / قاسم جبارة /مهدي الراضي / العراق) تيسير سبول (الأردن) أنطوان مشحور / رالف رزق الله /خليل حاوي ) لبنان (عبد الله بو خالفة / زاهرة رابحي / فاروق سميرة /جاك سيناك (الجزائر) عبد الرحيم أحمد أبو ذكري (السودان) راشد حسين / فرنسوا أبو سالم (فلسطين) الحبيب المسروقي (تونس) حوري الحسين / سعيد فاضلي/ كريم حوماري/ عبد القادر الحاوفي (المغرب) اختلفت الدراسات والتحليلات حول أسباب ومسببات شروع هاته النخبة في الانتحار؛ ومن أهم الكتب العربية التي توسعت في ذلك [ انتحار المثقفين العرب وقضايا راهنة في الثقافة العربية ] لمحمد جابر الأنصاري(مفكر بحريني ) إذ تتمحور الأسباب عنده في: حالة من التناقض بين الواقع وتلك الفئة وطموحاتهم وتطلعاتهم التي يهدفون لتحقيقها. أو في استحالة الانسجام مع الآخرين أو مع العالم أو حتى مع النفس، وهو ما يؤدي إلى دخولهم لخانة الإحباط والاكتئاب الشديد.

أكيد أن هنالك فعل نفسي واجتماعي واقتصادي وسياسي؛ يتحول إلى فاعل في أعماق المبدع؛ ولكن من باب الغباء المطلق أن يتم التركيز عليها؛ بأنها الدافع الأساس للانتحار؛ لأنه مسألة شخصية / ذاتية، يحكمها اختيار بعدم للإمساك بالحياة، ومحاولة التكيف مع طبيعة تفاعلاتها؛ وإكراهاتها وكبواتها وإشراقاتها؛ وإن كان في عمق الإنسان يعشق العيش/ الحياة؛ ولنا في قضية *غاليليو * حينما تراجع عن رأيه، بعدما أشار وأكد بأن الأرض تدور،؛ لحظة اقتياده إلى المشنقة؛ من لدن كهنة الدين . ليتشبث بالحياة. وبالتالي فالانتحار أساسا نوع من العنف الموجّه نحو الذات، يقدم عليه فاعله عمداً وبإرادة منفردة لاغتيال نفسه نتيجة أزمة حادّة وتخلّصاً من ظروف داخلية مأزومة !وبالتالي فالانتحار رغم تعدد أسبابه وعوامله؛ يبقى قرارا شخصيا . فمثلا:

1) تكرار المحاولة الإنتحارية عدة مرات؛ إشارة إدراكية؛ بأن المنتحر يدرك ما يفعله ولاسيما أنه يقوم به إراديا؛ وبوعي حسب ظرفيته للبحث عن هدف القرار: مثل الشاعر السوري عبد الباسط الصوفي؛ الذي أقدم على أكثر من محاولة انتحار فاشلة وآخرها في1960 انتحرشنقًا في غرفته.

2) اقتناء أداة الإنتحار: كالشاعر العراقي قاسم جبارة الذي اشترى مسدسًا من إحدى مخازن الخردوات؛ واستعمله في قتل نفسه .

3) إعداد أدوات الإنتحار كالسمّ، الحبل، الكرسي؛ الموسى؛ البندقية؛ الرصاص، ومن أبسط الأدوات وأضعفها حبل الرحيل (المشنقة) وأعلاها درجة؛ سكب مادة حارقة؛ ك أحمد العاصي: الذي كانت له محاولة انتحار فاشلة، قبل أن يجدوه في غرفته منتحرًا سنة 1930 بعد أن سكب مادة حارقة على جسده ! وأخطرها إطلاق النار على نفسه ك الشاعر المصري منير رمزي: عام 1945/ الشاعر العراقي إبراهيم زاير في - بيروت - عام 1972/ اللبناني أنطوان مشحور في بيروت / 1975/ خليل حاوي سنة 1982 / فخري أبو السعود المصري أطلق النار على نفسه في حديقة منزله -1940/..../

3) اختيار المكان: فمهما اختلفنا عَن أبعاد ظاهرة الانتحار وعواملها الذاتية أو الموضوعية؛ فاختيار المكان ليس بالسهل أو الأمر التافه، للقيام بالإنجاز الانتحاري؛ فاختياره محصلته: فعل إرادي؛ وله تهيء أو تخطيط قبلي؛ يفرض من خلاله التمييز بين منتحر وآخر في قراره الشخصي؛ كالشاعر السوداني عبد الرحيم أحمد عبد الرحيم الذي حرق جميع قصائده، ومن ثم يرمي بنفسه من نافذة غرفته في الطابق الثالث عشر من مبنى أكاديمية العلوم السوفيتية عام 1989/ الجزائري عبد الله بو خالفة اختار عجلات القطار عام 1988/ إسماعيل أدهم ألقى بنفسه في البحر على شاطئ الإسكندرية / زاهرة رابحي أنجزت قرارها في جسر تيليملي الذي يبلغ ارتفاعه ثمانية طوابق تقريبًا، في العاصمة الجزائرسنة1989/ درية شفيق مؤسسة أول حزب نسائي في مصر، وأصدرت عدداً من المجلات، وساهمت بشدة تحرير المرأة، نهايتها قفزت من الدور السادس في شقتها سنة 1989

4) الإشعار: المقصود منه أن المقدم على الانتحار؛ يترك ورقة أورسالة؛ دونت فيها أسباب الانتحار؛ وعدم اتهام أحد؛ وإعفاء البحث الجنائي من تضييع الوقت في الأسباب والفاعل؛ ك = إبراهيم زاير-1972(لقد قررت الانتحار... آسف لإزعاجكم) إسماعيل أدهم وجدت في ملابسه رسالة تؤكد انتحاره بسبب (سأمه من الحياة) أما منير رمزى كتب على قصاصة ورق رسالة الأخيرة (أنا هارب) داليدا تركَت رسالة تقول (الحياة أصبحت لا تطاق سامحوني) وما أكثر الرسائل التي تركها المنتحرون من العرب أو الأوربيين. وهذا الإشعار الخطي؛ بنوع من التأمل قبل التحليل؛ يزيد تعقيدا لظاهرة الانتحار التي تنفذ بسرعة مذهلة؛ ويتوقف فيها الزمان؛ لحظة؛ بعْد إيجاد ورقة وقلم وحيز للكتابة(كتاب/طاولة / كرسي/ منضدة/ الجدار/البسيطة/...

6) وكذا تهيء أداة الحَتف وتوابعها؛ فهَل كل هذا يتم تحت تأثير ضغط نفسي قاتل ومحبط؟ ممكن حسب التفسير النفسي .(نتيجة = اليأس الإحباط = الانهيار= ...) ولكن ألا ننظر للانتحار من زاوية أخرى؛ وإن كانت أكثر تعقيدا وفهما؛ لها ارتباطا (ب) [ القرين] وهاته لا تناقش ربما لتعارضها مع المفاهيم الدينية والإيمانية؛ لأن القرين يتموضع موضع (الشر)؟ – قال الشوكاني: قوله " فإن معه القرين " في القاموس: " القرين ": المقارن، والصاحب، والشيطان المقرون بالإنسان لا يفارقه، وهو المراد هنا . كتاب" نيل الأوطار " (3 / 7) فالقرين موجود في / مع كل إنسان منذ ولادته؛ حسب الطرح العقائدي، كما هو مثبوت في سورة * ق*: وقال قرينه هذا ما لديَ عتيد (الآية 23) قال قرينه ربَّنا ما أطغيته ولكن كان على ضلال بعيد(الآية 27)

إذ يعتبر حسب التفاسير؛ بأنه شيطان/ جان/ وهو الذي يمنع المرء من عمل الخير، ويزين له عمل الشر، ويبقى موكلاً به من ساعة الولادة إلى الموت، ولا يفارقه أبداً. ولكن نجد ما هو متداول منذ القدم (شيطان الشعر) وفي هَذا الباب

يقول – جرير –:

رأيتُ رُقى الشيطان لا تستفزه    وقد كان شيطاني من الجن راقي

وقبله يقول امرؤ القيس:

تخيرني الجن أشعارها     فما شئت من شعرهن اصطفيتُ

إذن؛ هذا يؤكد بأن الشيطان؛ حاضر في كل عمل (ما) ويتسربل ويتحرك في مدى أداء الفعل البشري عموما، ومن الطبيعي أن يكون ملازما للأدباء والشعراء؛ وبالتالي فالعديد ممن يربط العمل الشعري بأن بابه الشر . فهذا الربط لما لا يكون القرين هو الفاعل الحقيقي للانتحار؛ بحكم أنه أراد أن يخرج من جَسد صاحبه؛ فلم يجد فككا سوى الانتحار. ومن ثمة فالجسد سوى أداة لتنفيذ لما أقدم عليه (القرين) أوأوحى لصاحبه بالانتحار.

فمن خلال العديد من الرسائل والأوراق التي تركها – المنتحرون – نستشف شيئا ما يتحرك خفية في بنية المنتحرفمثلا: فيرجينيا وولف أحد أهم الروائيين المعاصرين

في كلماتها الأخيرة؛ تقول: [إني أفقد صوابي مرة أخرى، أنا متأكدة من ذلك. ولكني لن أتعافى هذه المرة. أسمع أصواتاً غريبة، ولا أقوى على التركيز. ولذلك، أنا أفعل أفضل شيء يمكن فعله الآن. كما ترى، لا يمكنني حتى الكتابة بشكل لائق.....]

نلاحظ لفظة:

(أسمع أصواتاً غريبة)- (أفضل شيء يمكن فعله الآن)

ألا يمكن أن نترجمها بهذه المعادلة:

(أسمع أصواتاً غريبة) = (قرين)

(أفضل شيء يمكن فعله الآن) = (انتحار)

في هذا الباب لمن الصعب سرد كل المنتحرين؛ ولكن نماذج من السياق؛ نطرحها لنتساءل: هل انتحار طرفة بن العبد وعمرو بن كلثوم وأبو حيان التوحيدي وكليوباترا و زنوبيا (ملكة تدمر) حنبعل (قائد قرطاجنة) فهؤلاء...

هل أسباب انتحارهم مصدره الكآبة واليأس المفرطين، وفقدان الأمل والخوف من الحياة وعدم القدرة على مجابهة ومواجهة الواقع المشحون بالصعوبات المادية والعاطفية وغيرها، كما يرى علماء النفس؟

يكون شيئا من هذا القبيل؛ ولكن ليس هو السبب المباشر للانتحار؛ فلماذا الكتاب المقدس يذكر أربعه أشخاص أقدموا على الانتحار: شاول (صموئيل الأولى 4:31) أخيتوفل (صموئيل الثانيه 23:17) زمرى (الملوك الأول 18:16) يهوذا (متى 5:27)؟ في تقديري لكي يرسخ الكتاب المقدس بأن الانتحار هو قتل وهو خطية. وبناء عليه فالانتحار يكون مساويا للقتل؛ وهذا ما يحرمه الإسلام (قتل النفس) .

وبالتالي فحسب هذا التحريم والذي أجمعت عليه كل الشرائع السماوية: فكل شخص (ما) أقدم على الانتحار يعد مجرما / قاتل نفسه .

وللإشارة المفتوحة: لقد طرحت مسألة القرين كدافع أساس للانتحار؛ ليس مسألة قطعية بل ظنية أو يمكن أن نعتبرها مسألة نقاشية؛ مادام الانتحار ظاهرة أكثر التباسا وغموضا؟؟؟

 

نجيب طلال

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم