صحيفة المثقف

حكايات بغدادية (المقامة الثانية)

زاحم جهاد مطرما إنْ نَزَلُتُ مِنْ سِيارَةِ الأجْرَة ِحتى تَنَفَسْتُ الصُعداءَ بِراحَةٍ وإطْمِئْنانٍ بَعْدَ إحْساسي بِالراحَةِ والأمانِ؛ حَقيقَةُ الأمْرِ فَقَدْ شَغَلَ فِكْري عَباس طيّارة بِحَديثِهِ الفَصيحِ البَليغِ ورأيه الصَّريحِ السَديدِ؛ فَقُلْتُ مَعَ نَفْسي مَنْ يَتَحَدَّثُ بَهذهَ البَلاغَةِ والفَصاحَةِ قادِرٌ أنْ يُلْقِمَ حَجَرأ ويُسْكِتُ أيَّ سياسيٍ ويُفْحِمُ .

سِرْتُ بِإتِجاهِ زُقاقِنا القَديمِ الّذي يَبْدأُ مِنْ مَقْهى أبو فيشه ويَنْتَهي عِنْدَ الساقِيةِ الصَغيرةِ والّتي كانَتْ تَزْخَرُ ضِفافُها بِالفَراشاتِ المُلَوَنَةِ الّتي غابَتْ وذَهَبَ ذِكْرُها مَعَ الأشْياءِ الجَميلَةِ الأخرى .

المَقْهى والساقِيِةُ والبُسْتانُ؛ المَقْهى تَحَوَّلَ إلى مَخْزَنٍ لِلمَوادِ الإنْشائِيَةِ؛ والسّاقِيَةُ إنْدَرَسَتْ آثارُها ومُحِيَتْ بَقاياها وطُمِسَتْ؛ والبُسْتانُ تَحَوَلَ قِسْم ٌمِنْهُ إلى مَلْعَبٍ لِكُرَةِ القَدَمِ مُنْذُ سَنواتٍ؛ والقِسْمُ الأعْظَمُ الى أكْواخٍ عَشْوائِيَةٍ وكَرَفاناتٍ؛ تَتَخَلَلُها بَقايا مِنْ حِيطانِ البُسْتانِ إلى السُقوطِ آيلاتٍ وأعْدادٍ مِنْ جُذوعِ النَخْلِ خاوِياتٍ .

شَجَرَةُ السِدْرِ وَحْدَها بَقيَتْ تُقاوِمُ عادياتِ الزَمَنِ وما تَزالُ كَريمةً لَحَدِّ الآن تَهُبُ الأْطْفالَ مِنْ ثِمارَها وتَحْتَضِنُ العَصافيرَ مَساءَ كُلّ يَوْمٍ .

بِلا شُعورٍ بَدأتُ بِالمَسيرِ نَحْوَ بَيْتَنا القَديمِ الصَغيرَ؛ وَقَفْتُ مُتسائِلاً:

لِمَ كُنْتُ أراهُ كَبيراً هَلْ لِأنَهُ كَانَ يَسْتَوْعِبَنا جَميعاً مَعَ الضُيوفِ والزُوّار الذينَ يَأتونَ بِمَوْعِدٍ أو بِلا مَوْعِدِ أمْ لِأَّن قُلوبَ الناسِ كَانَتْ أكْبَرُ مِما عَليْها في الوَقْتِ الحاضِرِ . لِمَ فَقَدَتْ الأشْياءُ الجَميلَةُ رَوْنَقَها وبَساطَتَها وتَخَلّتْ الأسْماءُ عَنْ طيبَتِها وأصالَتِها؟

الزُقاقُ هادِئٌ تَماماً عَكْسَ ما كانَ عَلَيْهِ سابِقاً؛ إخْتَفى صَوْتُ الصِغارَ وصِياحُ الكِبارِ . والعَتَباتُ تَفْتَقِدُ دَرْدَشاتَ الجاراتِ اللائي كُنَّ يَتَبادَلْنَ أحاديثَ المَساءِ بِكُلِّ سّعادَةٍ وهَناءٍ؛ وغابَ صَفيرُ جَباّر أبو الطُيورِ وضَجيجُ رُوادِ المَقْهى وطَقْطَقاتُ قِطَعُ الدُّومينو والنَّرْدِ وجَقْجَقاتُ إسْتكاناتِ الشاي ونِداءُ بائِعُ شَعْرَ البَناتِ: شَعَرْ بَناتْ شَعَرْ بَناتْ وينْ أوَلّي وينْ أباتْ والخ . وبِالرَغْمِ مِنْ ذلك فَقَدْ شَعَرْتُ بِأنَّ البيوتَ التي تَهالَكَتْ ما تَزالُ تَعْرِفُني أكْثَرُ مِنْ الوُجوهِ التي تَغَيَّرتْ وتَبَدَلَتْ .

لا أعْرِفُ كَيْفَ سارَتْ قَدَماي بِأناةٍ وتَمَهُّلٍ نَحْوَ بَيْتَ الحَبيبَ الأوّلِ الذي يُبْعُدُ أمتاراً قَليلَةً لكِنَّهُ يُذَكِرُني بِأشْياءٍ كَثيرةٍ جَميلةٍ؛ وإذا بِصَوْتٍ يُناديني:

إلى أيْنَ يا زاحِم ْ..زاحَمَتْكَ العافِيَةُ ؟

قُلْتُ: مَنْ ؟

قال: هَلْ أنْتَ غافِلٌ أمْ مُتَغافِلْ؛ لِمَ لا تًسَلِّمُ وأنا صَديقُكَ سَليمْ فاضِلْ؛ هَلْ نَسَيْتَ أمْ تَناسَيْتْ ؟

قلت: أهلاً بِصاحِبِ الحَرْفِ الوَسيمِ سَليمْ سَلَّمَكَ اللهْ؛ وكَيْفَ لا أسَلِّمُ عَلَيْكَ وأنْتَ الصَديقُ الأنيسُ والجارُ الجَليسْ . المَكانَ إلى الذِكرياتِ الجَميلةِ جَذَبَني ومِما حَوْلي أخَذَني هَلا عَذَرْتَني أو إلتَمَسْتَ ليَ عُذْرا .

صافَحَني وصافَحْتَهُ وقَبَّلَني وقَبَّلْتُهُ؛ ثُمَّ إلى جانِبِهِ أجْلَسَني وعَنْ أحْوالي سَألَني .

قلت: أصْبَحْنا كما قالَ الشاعِرُ:

فَيَوْماً تَرانا في مُسوكِ جِيادِنا     ويَوْماً تَرانا في مُسوكِ الثَعالِبِ

فقد نَضَبَتْ أنْهارُنا وجَّفَتْ آبارُنا ويَبُسَتْ اشْجارُنا وأفَلَتْ أقْمارُنا؛ خَيْرُنا إنْحسَرْ وشَرُّنا إنْتَشَرْ؛ مَوارِدُنا تَذْهَبٌ إلى غَيْرِ مَواضِعها وأمْطارُنا تَأتي في غَيْرِ أوانِها؛ فأصْبَحْنا في زَمَنٍ لا يُطيقُنا ولا نُطيقُه؛ وطَقاطيقُنا غَيْرَ طَقاطيقِه؛ طَقاطيقُنا أغاني جَميلةٌ وألحانٌ وطَقاطيقُه ُ إنْفِجاراتٌ وغُبارٌ ودُخانٌ؛ وعلى هذا المِنْوالُ سارَ ويَسيرُ الحالُ؛ على كُلِّ حالٍ أخْبِرْني بِاللهِ عَلَيْكَ ماذا تَعْمَلُ الآنْ ؟

قال: أبيعُ الفَلافِلَ في كِشْك مَفْلولٍ .

قلت: ماذا !

قال: أراكَ مَصْعوقاً مَصْدوماً .

قلت: نَعَمْ أنا مَصْدومٌ مِما رَأيْتُهُ وسَمَعْتُهُ؛ لَيْسَ لأنَّ بائِعَ الفلافِلِ أديبٌ بارِعٌ بَلْ لِأنَّ الأديبَ البارِعَ للفلافِلِ بائِعُ !

كَما عَرِفْتُكَ عُمْرُكَ لَمْ تَنْظُرْ إلى المَنْصَبِ والفِلْسِ بَلْ عِشْتَ عَزيزَ النَفْسِ .

قال: الوَطَنٌ أصْبَحَ كَريماَ لِأصْحابِ الحُظوظِ وعِنْدَ أصْحابِ العُقولِ لَيْسَ بِالكَريمِ . فَكَيْفَ يا صَديقي لا نَشْكو مِنْ سوءٍ أوْ ضِيقٍ ؟

جَعَلْناهُم وُلاةَ أمْرَنا فَجَنَوا خَيْرَنا وشَكَروا غَيْرَنا؛ وَعَدُونا بِالمَنَّ والسَلوى ووَهَبونا الفِتَنَ والبَلْوى؛ فَعادَتْ حواضرنا قُرى وغَدا ماؤُنا قِرى .قلت: ومَنْ هؤلاءْ ؟

قال: أتَحَدَّثُ عَمَنْ يُريدُ أنْ يَعودَ مِنْ جَديدٍ بَعْدَما نَكَثَ بالوُعودِ والعُهودِ مُنْذُ زَمَنٍ لَيْسَ باِلبَعيدِ .

قلت: وَصَلْنا إلى الحَدِّ ودَخَلْنا في الجِدِّ وما الجَديدُ في الأمْرِ ؟

قال: بَعْدَ الذي جَرى وصارَ عادَ مَنْ إتْتَخَبْناهُ لَيقولَ إنْتَخِبوني يا أهْلَ الدارِ .

قلت: ما ضاعَتْ نَصيحَتُنا حينَ نَصَحْنا الناسَ؛ بَلى واللهِ ضاعَتْ وكَأنَنّا لَمْ نَنْصَحْ أبَداً ؟

قال: يا سَيَّدي خَدَعوا الناسَ

قلت: والعاقِلُ لا يُخْدَعُ مِنْ مُخادِعٍ مَرَّتَيْنِ .

قال: على كُلِّ حالٍ ما يزالُ هُناكْ أناسٌ مُخْلصونَ لِلوًطَنِ مُحِبوّنَ لَهْم زَبْرٌ وجُولٌ وقُوَّةٌ وحَوْلٌ؛ أتَدْري ماذا فَعَلْنا بِالرَجُلِ ؟

قلت: ماذا ؟

قال: تَجَمَعْنا عَليهِ وصَكَمْناهُ وصَكَكْناهُ ولَكَمْناهُ ولَكَكْناهُ ودَكَكْناهُ كَما قالَ الأصْمَعي ثُمَّ في القُمامَةِ رَمَيْناهُ وبِنارِالذُّلِّ صَليّناهُ؛ وتَرَكْناهُ يُرْغي ويُزْبِدُ ويُهَدِّدُ ويَتَوَّعّدُ .قُلْنا لَهُ طُزٌّ فيكَ وألْفُ طُزِّ يا سارقَ البَطِّ والوَزِّ .

قاطَعُتُهُ ضاحِكاً سارِقُ البَطِّ والوَزِّ؟؟

قال: نَعَمْ سَوْفَ أذَكِّرُكَ بِهِ .......مَنْ كانْ ومَنْ هُوَ الآنْ !

والى المقامة التالية

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم