صحيفة المثقف

استجابة.. ما بعد المحنة

كانت الخطوة الأولى مفرطة الصعوبة نفسياً أكثر منها جسدياً . فهي لم تر وجه الطريق منذ بضعة أشهر، هبط عليها وران نوع من الاستحياء، كما لو أنها كانت سجينة أطلق سراحها للتو، فهي ستتواجد في الشارع مع شيء يثقل ضميرها لا تستطيع أن تنظر في عيون الناس نظرة مباشرة بل عليها أن تراوغ . كما إن عينها اليمنى تشي دائماً بما يعتمل في روحها فهي لا تنفك تذرف دمعة بعد اخرى، فما تكاد تمسح واحدة وتزيلها بمنديلها الورقي المتهم بالضلوع معها في تغطية الدموع المنسربة من بئر روحها التي أوشكت أن تتيبس حتى تنبثق دمعة اخرى، يغيظها ذلك حتى الموت وما بيدها حيلة لمنعه .

صممت على الخروج متحدية نفسها . لاشيء يمنعها فعلاً أن تخرج وتذهب حيث تشاء، غير إن مكوثها المتطاول الأمد في عقر الدار أحدث شرخاً غائراً بينها وبين المجتمع يصعب رأبه فهي ما تنفك تشعر بغربتها وانفصالها عن الأحداث والناس حتى غدت تشعر كأنها انضمت لفئة اخرى تنفرد بخصوصيتها فلم تعد ضمن نفس القطيع الذي كانت ترتع معه، وإنها أُخرجت من القائمة التي ألفت نفسها فيها منذ الولادة . حتى لون بشرتها يشي بها . لم تكن أجرمت ولا حتى أخطأت ولا ضلت الطريق لكن التغير الذي أصابها فصل بينها وبين الناس جميعاً فكأنها قذفت الى الضفة الأُخرى من النهر الجارف منفردة ولا من زورق ليعيدها الى الزحمة حيث كل الآخرين ينتمون خارج المحنة . كان حلماً سيئاً يتوغل في أحشائها مثل أفعى تلتف وتلتف بلا نهاية مقيماً جداراً سامقاً من الخرسانة الرمادية البلهاء لا تطيق لها تحريكاً ولا ترغب ببقائها فهي تجثم على صدرها فتسحقه، لذا قررت العودة الى الشارع .. الى البلدة .. والى الناس متحدية النظرات التي ستنصب عليها مثل شلال نار، غير إن الخطوة الأًولى هي ما يصعب تنفيذها .

تذكرت تلك النظرة الغريبة التي أطلقتها نحوها شابة أُبتليت مثلها تلك النظرة التي احتشد فيها الفزع والغربة والعطش النفسي، كانت الشابة تخفي نفسها متقوقعة داخل الكرسي المدولب في ظل امرأة تقوده في بوابة المشفى غير إن في عينيها فضول العالم كله لتتشرب الضوء والناس والأشياء راغبة مع كل هذا أن لا يلاحظها بشر فلما رأت النظرة الموجهة نحوها انسحبت على الفور وخبأت نفسها ووجهها تواً في حضنها آبقة من عيون التطفل، كما لو كانت سلحفاة شامت خطراً ما . هي لا تريد أن تصل لهذه المرحلة لذا قررت كسر ذلك الحاجز اللا مرئي .

نظرت للشارع الذي تسكنه فما كادت تتعرف اليه فكأنها هي في بلد آخر أو مدينة غير مدينتها التي حفظتها عن ظهر غيب كقصيدة أحبتها فهي تترنم بها كل حين أو كما حروف اسمها الذي ربما عاد أيضاً مما يحسن أن يتحاشاه الناس، قدمت قدماً لتسحبها ثانية مرتعدة مشغولة الذهن بما سيواجهها، عادت ثانية بعد أن نزفت إصراراً على المضي فيما أزمعت وأخيراً انطلقت لتسبح في ضوء الله الأبلج غير مبالية بمن يحدق فتنغرس عيناه في سحنتها أو من يبدي عطفه صادقاً أو مرائياً، أو من يستوقفها ليحقق معها أو يسأل بفضول ثرٍّ تفوح رائحته السمجة يسأل عن السبب فيما حدث لها .

 

سمية العبيدي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم