صحيفة المثقف

أسئلة الشابندر.. بين البثّ الدّلالي والغموض المشعّ!

153 فلاح الشابندرقراءة نقديَّة في مجموعة (في زنزانة السُّؤال)

مما لا شك فيه أنَّ الفعل الجماليّ والإبداعيّ ينطلق أساسا من ذلك التوهج والاشتعال الذي يثيره السُّؤال أو مجموعة الأسئلة التي تعتمل في ذهن الشّاعرالذي يعيش وإياها حالة من الصراع الدائم بحثاً عن الإجابة، وفي كثير من الأحيان يصل إلى اللاجدوى، وما بين البحث عن الإجابة واحتدام الصراع يجد الشَّاعر نفسه مُحتجزا ً في فلك تلك الأسئلة .

و(في زنزانة السُّؤال) (1) وهي مجموعة شعريَّة جديدة للشاعر فلاح الشّابندر وامتداد لمجاميعه السَّابقة من حيث الأسلوب الذي اعتمده الشَّاعر بإسباغ سمة الرمزيَّة على نصوصه المنطلقة من رؤية فلسفيَّة بإزاء الحياة ومن إيمانه بديمومة الرَّمز وقدرته على تأصيل المعنى وتوهجه، فقصائد الرَّمز لا تنأى فيها المعاني ولا تموت بمجرد وصولها إلى المتلقي بل هي متجدِّدة في خلق التَّوتّر الأوَّل الذي تَولَّد لدى الشَّاعر وأوصله إلى المتلقي وبدرجات متفاوتة، وإنْ لم يكن الشَّاعر قاصداً ذلك المستوى من التوصيل حسبما يقول " رتشاردز": (فإنَّك لو سألته عمّا يفعل فأغلب الظنّ أنَّه سيجيبك قائلا: إنَّ التوصيل في نظره مسألة لا شأن له بها . أو على أحسن الافتراضات فإنَّه يقول: إنَّها مسألة ثانويَّة بحتة، وإنَّ كلّ ما يفعله هو أنَّه يصنع شيئاً جميلاً في ذاته أو شيئا يبعث على الرِّضا في نفسه أو شيئا ذاتيّا يُعبّرعلى نحو غامض عن مشاعره ونفسه). (2)، غير أنَّ فلاح في مجموعته هذه يسعى إلى خلق مستوىً من التوصيل للمتلقي بتعليقه مفاتيح النصوص في مكان ما منها متحدِّيا ذائقة المتلقي ومراوغا أحيانا وصولاً إلى المعنى وبالتالي إلى لذَّة الاكتشاف التي تميّز الرحلة مع القصيدة الحديثة عن القصيدة المباشرة التي لا تذهب إلى أعمق من سطح المعنى التي تجاوزها فنُّ الشِّعر ومازال بعضهم متمسكاً بها، أو الرَّسائل الوعظيَّة التي قال فيها الشّاعر الأنكليزي (جون كيتس): (إنَّنا نمقتُ الشعر ذا الهدف البيّن لأننا نحس بغريزتنا أنَّ وظيفة الشِّعر الحقيقي ليست الوعظ).(3)

وقد ذهب عبد القاهر الجرجاني إلى معنى مقارب حينما قال (... ومن المركوز في الطبع أنَّ الشيء إذا نِيل بعد الطلب له والاشتياق إليه ومعاناة الحنين نحوه كان نيله أحلى وبالمزية أَولى، فكان موقعه من النفس أجلّ وألطف وكانت به أضنّ وأشغف). (4)

إنَّ نصوص هذه المجموعة تقودنا إلى موضوع الغموض في قصيدة النَّثر بكل تأكيد والذي تصدى له عديد من النقاد العرب والعراقيين     والغربيين ولكني وجدت نفسي أميَل إلى رؤية الناقد فاضل ثامر وتأكيده: (إن الغموض، كما نفهمه لايعني إغلاق النَّصّ أو تعتيمه أمام القاريء، بل يشير إلى الطاقة الإيحائيَّة الكامنة القادرة على تقديم بثّ دلاليّ وسيميائيّ متعدد الأوجه والتأويلات والاحتمالات، وفي الوقت ذاته فإنَّ هذا النوع من الغموض لايضع جداراً "صينياً" بين القاريء والنَّصّ ولا يخلّ بوظيفة الشَّاعرالاجتماعيَّة ومسؤولياته الإنسانيّة والثقافيَّة المتعددة، ولذا فنحن مع الغموض المشعّ الذي يكشف دخائل النَّصّ ويحفّز نداءاته تجاه القاريء ويدفع إلى لذَّة جماليَّة متّصلة، وهي لذَّة معرفيَّة وروحيَّة معاً...). (5)

على هذا الأساس جاءت قصائد المجموعة ممانعة في منح نفسها للمتلقي للوهلة الأولى ولكنّ ذلك لايمنع من سحب المتلقّي إلى فلك جُمل شعريَّة قد تبدو للوهلة الأولى غريبةً ومشوّشةً وعسيرةً على الفهم وغير مترابطةٍ ظاهريّاً بالقياس بالمألوف، لكنَّه ليس غموضاً عشوائيّاً يرمي إلى الخلط وتشتيت المعاني وإنَّما لزيادةِ شحنةِ التَّأويلِ وتحقيقِ التَّراسل بين النَّصّ والمتلقي .

وبقدر خطورة اللعبة في أنْ ينزلق النَّصّ إلى التَّعمية على الشَّاعر أنْ يتمسك بجوهر قيمة هذا التراسل بينه وبين القاريء. وهنا نتساءل: ما الذي يريده الشَّاعر؟؟ وهذا التساؤل بحدِّ ذاته هو الذي يقودنا إلى معرفة الهدف الحقيقي للقصيدة وصولاً إلى نشوة الاكتشاف، اكتشاف الفكرة التي يقول عنها جان فاري جويو (من أضاف فكرة إلى تراث العقل الإنساني كان في إمكانه أنْ يبقى بهذه الفكرة ما بقيت الإنسانيَّة ...).(6) والفكرة ربَّما تكون إجابة محتجزة " في زنزانة السُّؤال ".

وإذا ما دخلنا المجموعة عبر الغلاف فإنَّنا سنُفاجأ بالعتمة السَّائدة مجسَّدَة بعتمة اللون الدالّ على ظلاميَّة المشهد وعدم وضوحه تُطلُّ منها صورة وجه الشَّاعر وقد أثخنته تضاريس الحَيرة وخطوط البحث عن الإجابة بعينَين ذابلتين منهكَتين وقد وضع يده على فمه كمنْ يكتم سرّاً لايريد له أنْ ينطلق أو كارثة لايريد لها أنْ تعمَّ ..ولذا فهو مُحتجزٌ حقّاً خلف قضبان أسئلته كتما وإجابة ولكلٍّ منهما فصول من الحزن المُعَبَّر عنها في نصوص المجموعة، فيما جاء الإهداء متعالقا مع الغلاف ليطرح سؤالاً كبيراً مشحونا بالحزن والأسى ليتقدم أسئلة المجموعة، طارحا سؤال الفقد الذي انزاح من الجسد المادّي إلى معنى آخر يتمثل بالحرّيَّة:

(الشَّمس ...

التي أفتقد ...

أهي نائمة؟) (7)

لتتوالى بعد ذلك عشراتُ الأسئلة عبر نصوص المجموعة التي تتراوح بين القصير جدا والطويل والتي تعكس تجربة الشَّاعر الحياتيَّة ورؤيته الفلسفيَّة بإزاء ما يواجهه في هذا الكون، فعمق النَّصّ يتجلّى في عمق السُّؤال الذي يطرحُه الشَّاعر.

* الدخول إلى الزنزانة:

ما إنْ ندخل إلى زنزانة أسئلة الشَّاعر حتى نُفاجأ بسَيلٍ من علامات السُّؤال التي تصطخب وتضجُّ رافعةً يافطات الرَّفضِ تارة والاستغرابِ ثانيةً والدَّهشةِ ثالثةً في فضائَي الزّمان والمكان .

وبقراءة إحصائيَّة في نصوص المجموعة وجدتُ أنَّ الشَّاعر قد اعتمد مفردة (السُّؤال) أربع عشرة مرَّةً، فيما بلغت الجمل الاستفهاميَّة اثنتين وثلاثين جملةً أي أنَّ الشَّاعر قد طرح على المتلقِّي ستاً وثلاثين سؤالا تضمنت تساؤلاتِه الكونيَّة ومخاوفَه ورفضَه وحَيرتَه بإزاء ما يشهده بوصفه إنساناً محاصراً بالموت والحرب والحبِّ والفناء والمحو.

وهكذا نجد أنَّ (الأسئلة) التي أصبحت ظِلَّ الشَّاعر المنطلق من وعيه لما حوله وسرّه المعرفيّ للكون المُعبَّر عنه عبر آلاف الأسئلة التي لا نهاية لها والتي تواصل الطَرق وبإلحاحٍ بحثاً عن إجاباتٍ تشفي غليل الشَّاعر قبل أنْ يتحجَّر السُّؤال مثلَ مسمار في باب قديم :

(نعم، سيدي السُّؤال؟

يُغمغِم ويغادر ..ألفاظ الطَرْق ثانية ً

مسمار في بابي.. السُّؤال،

في اللحظة ذاتها لو أستعيرُ اسما

أو أستبدلُ لونَ شعريَ الأبيض ..؟

قال: هاهو مُستل ٌ من جمع وجع ...خذوه!

تحت لساني – وصيّة أمي – حفنة ملح)(8)

* زهرة المفتتح ... وسؤال الحرب:

تترك الحرب آثارها على الشَّاعرعبر قصائد المجموعة وتتَّخذ أشكالاً مختلفة فمنها الحرب التي وقودها الناس والحجارة ومنها حربه مع نفسه ومنها حربه مع الآخر..

وهاهو يصرخ ألماً وحُزناً بوجه الحرب التي سلبتهُ السَّلام والحبيبةَ والجَمال والبراءة التي رسمها عبر الذاتِ الشَّاعرةِ المثقلةِ بالأسى وبلغةٍ بدأها مُتهكِّما لينتهي بها مفجوعا عبر مفارقة الموت والحياة:

(إلى الحرب:

مع التحيّات

ماتت...

ماتت زهرة البراري !)(9)

وتنعكس الحرب بظلالها ثانيةً بمآسيها في (لون الوضوح) مُتَّخذةً شكل نحيب الشمس الممزوج بنعيق الغراب وهي استعارات دالَّةٌ على ظلاميَّة الحرب وقساوتها التي تثقلُ نور الشَّمس بالحزن وترسمُ صورتها بتقانات الرؤية واللُّغة السينمائيَّة:

(بيضاءُ ... ثريَّة ٌ

الشَّمسُ المائلة،

على نحيبها

الزنجي، غراب).(10)

وهو إذ يتصدى للحرب فإنَّه يغور بتفاصيلها الكارثيَّة الأخرى من قتلٍ ونزوحٍ وفقدٍ وتشريد، إذ يجد الإنسان نفسه وقد فقد كلَّ شيء بسبب أهوالها ... بعد أن فقد الدفءَ الأوَّل ليستحيل إلى مجرَّد حطب والحياة إلى رماد لا تورثنا إلا الثَّلج، إذ تتضاعف جرعة الفقد وتتعاظم المأساة:

(على هذا القدر من القرب،

دفء...

وعلى قدرٍ من البعد،

رماد...

والحطب جوفُ الثلج

لكن قلبي يتجرأ على مضمون آخر للفقد

بعد أن كان لايجرؤ على ذلك إلا سرَّا). (11)

ويعود الشَّاعر صارخاً بوجه الحرب في قصيدة ( أنا النّاجي من الحرب)، الحرب التي أثقلت لحظاتِ عمرنا وعقاربَ ساعات العمر بالخوف والقلق المُمِضّ خشية الفقد وما بعده من نسيان مُميت !!!

(تنالُ منك فقاعةٌ على الصَّدأ

تنحلُّ كالدمع من غصنِ الخريفِ

باذخٌ هو الفراق ...

أنا النّاجي من الحربِ

أفرغني النسيان !) (12)

لكنَّهُ وبمشهد ساخر من الحرب ومآلاتِها ومن تجّارها الذين أشعلوها رغبةً بدخول التاريخِ وصنعِ مَجدٍ بطوليٍّ زائفٍ لهم، يقف الشَّاعر مُغتنِماً فرصةَ هزيمةِ زعماءِ القتلِ والموتِ والدَّمار ليُعلنَ نفسه زعيماً منتصراً بإرادة الحياة وهزيمة إرادة الموت في تبادلٍ للأدوار يرسمه الشَّاعر لنفسه:

(... الصدفةُ،

ترتّبُ الأدوار

زعيم أنا .

أرباب ٌ الآن،

يقشرون البصلة،

البصلةَ المكتومةَ بالدَّمعِ

في دروبِ المدينةِ،

حشرجة ُعربةِ ضَحكٍ

زنّارُها علبُ صفيحٍ فارغةٌ

الحوذيّ مضى بلا عربة .).(13)

وهكذا تنهار الصّروح الفارغة ويتردَّد صداها صدى علبِ صفيحٍ فارغة ويتجرَّد منها أقرب الناس لاعناً اللحظة التي ركب فيها تلك العربة التي جرَّت معها الخيول المتصبِّبة عرقاً إلى الهاوية .

* أسئلة الحُبّ ... وهاجسُ الأبديَّة:

في أسئلة الحبّ نجد أنَّ الشَّاعر عاشقٌ يسعى إلى إثبات كينونته ويسعى باحثاً عن هذا السرّ الكامن في جوف الصَّخرة، أو تلك التي لو "سألها موعداً لأنتشرعطر الغواية متوجِّها لها بسؤال السُّؤال:

(هل بيننا سؤال

لانعرفه ..؟

لمسَتُكِ !!) (14)

وهل لمَسُ الحبيبة يوصله إلى يقينيَّة الجواب بأنه حيّ مثلا؟ أم سيظلُّ حالما بالأبديَّة ملاذاً وفتكَّاً بالمسلَّمات؟ :

(تعالَي اللحظةَ،

الأبديَّة ُ: ليلٌ في وشاح أبيض)(15)

وفي قصيدته التي عنونها "إلى الحياة " يستدعي شاعرنا الأبديَّة خياراً للهروب من زيف الحياة التي فقدت عريَّها الأوَّل وتأخذ الأبديَّة شكل الحبيبة:

(تبدو الأبديَّة ُمكاناً مألوفاً

حبَّة ضوء

قطرة ندى

بدائيَّة العُري الأوَّل:

غسقٌ، وبحرٌ،

نارٌ ومرايا

وليلٌ في "ساتان" أبيض ...

تبدو الأبديَّة مكانا مألوفاً

ضميني، ضميني أيتها الأبديَّة ..). (16)

وهكذا فالأبديَّة تعني له السَّلام الروحي والنقاء والسّكون وهو تارة يصفها "ليلٌ في وشاح أبيض" وتارة " ليلٌ في ساتان أبيض" والوصفان المتقاربان من الممكن أنْ ينزاحا نحو المرأة التي تربض في لاوعي الشَّاعر .

ولا تخلو صور الحبّ عنده من تلك "الآيروسيَّة" العذبة ففي " تكوين"

يقول:

(منسوجة من غنج النعاس اللذيذ

تتثاءب،

ونباهة النّهد،

لئلا ينزلقُ القميص متأوهّا بإهمال).(17)

* أسئلة المَحو .. أسئلة الغربة

تكتنف المجموعة أسئلة أخرى فضلاً عن أسئلة الحياة والموت والحرب ولعلَّها أمضّ وأكثر وجعاً منها ..ألا وهي أسئلة المحو والفناء والغربة والإقصاء التي باتت تضاعف مخاوف الشَّاعر وهواجسه في وعيه ولا وعيه وهي تنسلُّ بين نصوص قصائده لتَطلَّ برأسها عبر نصوص المجموعة، مرّة تلميحاً وإشارةً ومرّة تصريحاً وجهرا:

(من الشَّعر

ممنوع اللمسِ .

تفاحة ٌ..

مرحُ السُّمِ، لم يعد سرّاً

فما كلّ هذا اللغو بالشبهات؟

ربما تأخذك سِنةٌ من النوم،

وينسدلُ السِّتار !..). (18)

هنا يتجلى بوضوح الخوف من المحو ..الذي يعني محو الحضور والجسد والتأثير، ولذا فإنَّ الشَّاعر عبّر عن الخوف بانسدال السِّتار ونهاية فصل الحياة بالنوم الأبديّ مُوردا مفردة السُّم الذي يمحو الحياة، وتتسع مفردة انسدال السِّتار لتشمل محو حضارة وأمم وحقب تأريخيَّة بأكملها وهذا ما يزرع الرّعب في قلب الشَّاعر .

ويشكّل الإحساس بالغربة هاجساً مضافاً لذلك فهو يتشبث بالحبيبة ليتحرَّر من هذا الهاجس القاتل:

(لا تتركيني أموت من دونك

كم أحبُّك

تدنو ...

تدنو...

إلى هوة تدركها

أيَّتها الهوة..يا كلَّ انفاسي ..لو أتحرَّر) (19)

وكثيراً ما يركن الشَّاعر في نصوصه وبعبثيَّة واضحة إلى عدم جدوى الحياة، وهذا ناجم بكلِّ تأكيد من الحجم الهائل من الإحباطات التي عاشها التي ملأت صورة الحياة عنده بالضَّباب والكسوف والدّخان، ومن قساوة الحياة وتهميشها لإنسانيَّة الإنسان ...وصولاً إلى اللاجدوى:

(أيُّ كسوف؟

أيُّ همس

في غيوم ودخان؟

أيَّةُ عوامة، أيُّ غرق؟

كيف للحياة أنْ ترميك خارجها؟

تُرى ما يعوّل عليه الحتميّ؟

أيتبنى كلَّ هذا الهراء؟

إقامةٌ بانتظارٍ... لايصل). (20)

* هيمنة التكرارات

تُهيمن التكرارات على أغلب نصوص المجموعة بشكل ملفت وتأخذ أشكالاً متعدّدة منها ما هو تكرار للحرف ومنها ماهو للمفردة ومنها ما هو للعبارة أو الجملة .

والتكرارإذا لم يؤدِ وظيفته في ترصين النَّصّ والإشارة إلى فكرة ٍ ما أو يفصح عن مكنون أراد له المُنشئ أنْ يظهر فلا معنى له ويُحدث وجودُه إضراراً بالنَّصّ وإضعافاً له، والتكرار موجود في كلام العرب وفي الأدب الحديث للإبلاغ عن شيء مُعتنى به، وله وظائفه التي تأخذ في كثير من الأحيان بعداً نفسيَّا ودراميَّا .

ولعلَّ (أهم أشكال التكرار التي تقوم بوظيفة السَّبك النَّصّيّ الذي يتحقق بتوارد زوج من الوحدات المعجميَّة بالفعل أو القوة لارتباطهما بعلاقة دَّلاليَّة معينة قد تكون تضادّا حادّا أو عكسيَّا أو اتجاهيَّا، وربَّما يتحدَّد بفضل علاقة التنافر المُؤسَّس على الرَّتبة أو النَّفي أو الزَّمن).(21)

تقول نازك الملائكة: (إنَّ الشُّعراء المعاصرين يلجأون إلى هذا النوع، لأن اللُّغة قاصرة عن البوح بكلِّ المكنونات النفسيَّة وبالتالي فإنَّ تكرارالكلمة يمنح القصيدة نغماً وايقاعاً موسيقيَّاً يُترك في ذهن السَّامع، ويمنح النَّصّ قوة وصلابة لأن اللَّفظة المكررة تؤدي دوراً خاصَّاً ضمن سياق النَّصّ العام) (22)

لقد تمدَّدت وأتسعت مساحة التكرارات في المجموعة لتشمل أربعينَ موضعاً، خمسةٌ وعشرون موضعا منها في متون النَّصوص وخمسة عشر تكرارا في عناوينها .

وتأخذ هذه التكرارات أبعاداً مختلفة إلا أنَّ ما يهيمن عليها هو البعد "السايكولوجي" الذي أراد الشَّابندر أن يوصله إلينا عبر التركيز على مفردة معيَّنة بذاتها:

(أين يهدي الصُّوت هذا؟

لئلا يُمحى ..فينا صوت .. صوت فينا ..صوت فينا

... صوت فينا ..فينا صوت ..فينا صوت .. مغارةٌ

هو الصُّوت ...). (23)

ففي هذا المقطع الصغير يكررعبارة (فينا صوت) ثم يَقلبها إلى (صوت فينا) ليطلقها بشكل درامي وهستيري وهو يتشبّث بصوته مخافة أن يفقده، عاكسا جوّاً نفسيّاً مضطرباً يصل إلى حَدِّ الجنون في التعبير عن حساسيتة بإزاء ما يرى ويشهد، والصَّوت هو المعادل الموضوعيّ له إنساناً وكياناً ووجوداً، وفقده الصُّوت يعني فقده لكلِّ شيء، والإحساس بالفقد هنا قد يشمل الجميع وليس الشَّاعر فحسب بدليل اعتماده مفردة (فينا) فهو بذلك يخشى من موت واقصاء جماعيّ للمجتمع وتحوّله إلى مجتمع خالٍ من التأثير والإرادة .

ومثلُ ذلك قصيدة "زهرة المفتتح" إذ تتكرر مفردة (ماتت) مرّتين وهو يرثي زهرة البراري تعبيراً عن لوعة الفقد والموت وتأكيداً لفعل الموت .

ويأخذ التكرار في قصيدة (ضربة فرشاة) ومثلُها في قصيدة (زنزانة السُّؤال) بُعداً صوتيَّا ً وزمنيَّا:

(ذاكرة منظورة، أسمعها .. قلق صفري ٌساعةُ الحائط:

تك

تك

تك) (24)

ليعود إلى تكرارها في المقطع اللاحق للقصيدة نفسها معبّراً بها عن مرارة الانتظار وثقل خطوات الزَّمن الذي نعيشه بعد أنْ اختلَّت فيه الحقائق وساد التزييف ليختفيَ المعنى الحقيقي للحياة والإنسان:

(لا أدري ما تصرّح به، وبلا شك أنَّها بريئة ...ننتظر

وبينما ننتظر:

تك

تك

تك

تاريخٌ، غيّر مؤرخك ..ذلك معناك !) (25)

وظهرت التكرارات في أربعة عشر عنواناً في ضمن المجموعة جاءت على الصيغ الآتية (إلى صديقتي مُبصرا، إلى صديقتي مُتذوِّقا، إلى صديقتي عطراً، إلى صديقتي كُلَّاً، إلى صديقتي بإصرار، إلى صديقتي روحاً، إلى صديقتي معزولاً، إلى صديقتي فتكَّاً بالمسلَّمات، إلى صديقتي إصراراً، إلى صديقتي بوحاً، إلى صديقتي لامساً، إلى صديقتي ضامَّاً، إلى صديقتي سرَّاً)(26)

وهنا يريد الشَّاعر بهذه التكرارات تأكيد مفهوم الصَّداقة بمعناه الأبعد والأشمل لينزاح إلى الرُّوح والفتك بالمألوف والإصرار على البوح بمكنونات القلب وصولا إلى التوحد والتماهي والرُّؤية عبر الرُّوح .

وفي قصيدة (زهايمر) يأخذ التكرار وظيفة رسم الصُّورة صورة نزول قطرة الماء:

(كلّنا في مرجل بخاريّ

والصَّفوة:

قطرة

قطرة) (27)

غير أنَّ تكراراً مقطعيّاً لم يكنْ من المناسب تكراره في المجموعة وقد ورد في قصيدة زنزانة السُّؤال:

( ....

القضيَّة

أيَّة قضيَّة؟

بِلا). (28)

والتكرارغير المناسب هنا ليس فيما رمي إليه الشَّاعر في ضمن السِّياق العام لقصيدة "زنزانة السُّؤال"، بل بتكرار المقطع بصيغة متشابهة تقريبا في ضمن المقطع الثالث لقصيدة أخرى هي "مسرَّات ":

(- أمسيتُ قضيَّة

- أيَّة قضيَّة

- بلا) (29)

وكان الأولى به أنْ يكتفي باعتماده لمرَّة واحدة وأن لايعيد ما اعتمده في قصيدة مرَّة ثانية وبطريقة مماثلة .

عدا ذلك استطاع الشَّاعر أنْ يمنح تكراراته الأخرى بعداً دلاليّا وفكريّا عَكَسَ قدرته على جذب انتباه القاريء نحو حرف دالّ أو مفردة ساخنة أو جملة تملكته وأصبحت لازمة تدور في فلك القصيدة بعد أنْ كانت تدور في ذهنه .

* ذروة السَّرد في الزنزانة

من المعروف أنَّ السَّرد بتقنياتة حاضر في أغلب التجارب الإبداعيَّة لقصيدة النَّثر التي استندتْ في بنيتها إلى الحكي والحوار والمفارقة بهدف خلق عنصر تأثير آخر على المتلقي وذلك بعد أنْ تخلت عن الإيقاع الخارجيّ.

وتتعدد مظاهر الحضور السَّردي في قصيدة النَّثر التي استعارت طرائق السَّرد وتقنياته، ومن هنا فتحت قصيدة النَّثر باباً لهذا التداخل بحيث تبدو القصيدة أقرب إلى السَّرد القصصيّ، رغم أنها تنأى عنه نأيًا واضحًا.

وفي هذه المجموعة نجد أنَّ السَّرد واضح في أكثر من موضع لكنَّه بلغ

ذروته التي تفوّقت فيه تقنيات السَّرد الحكائي في قصيدة (مول أعرابي):

(أردت أنْ أبتاع قميصا، فأهتديت إلى محل للألبسة

المزدحم بفوضى الألوان، والاحجام

رست حيرتي عند نصيحة طفل:

( يسرني أن لا قياس لك في متجرنا) ويشير إلى محل

آخر: إلتفتُّ إلى الواجهة المنتشرة ( بوستر) ..لا

يمكن تلافيه لمعاناً، الناطح للفراغ في مهب الريح،

الآيل للسقوط من ملل..

في الجزء الأسفل يقف الرجل ( رجل إعلان)

القزم برأسه الضخم ..الخارج من عمق البياض ... البعيد بسُحنته البنيَّة،

واللحية الكثة، والشارب المقوس بقسوة ..وإذا ما ضحك يتسع،

ثقب معطوب .

واقف هو يعتمر عقالا، ونظارة ً سوداء، مرتديا

دشداشة يُعبّئ بها الرِّيح ....... الخ) (30)

من الواضح أنَّ الشَّاعر في هذا النَّصّ قد استعار تقنيات السَّرد لتمرير فكرته وهي البحث عن كينونته في فوضى الألوان وزحمة المهرِّجين ورجال الإعلان معتمدا على توصيف المشهد بلغة التقطيع السينمائيّ ليعطي للسرد قوة الثبات والتأثير في ذاكرة المتلقي، ((في الجزء الأسفل/ يقف الرجل / رجل إعلان / القزم برأسه الضخم / الخارج من عمق البياض/ ... البعيد بسحنته البنيَّة / واللحية الكثة / والشارب المقوس بقسوة/ ..وإذا ما ضحك/ يتسع ثقب معطوب /واقف هو/ يعتمر عقالاً / ونظارة ً سوداء / مرتديا دشداشة/ يُعبّئ بها الريح/) وكأنَّه يرسم مشهداً أوَّليَّا قبل الدخول إلى قلب الحدث .

إنَّ مجموعة (في زنزانة السُّؤال) بقدر ماهي حافلة بالأسئلة التي أطلقها الشَّاعر ليعبّر من خلالها عن رفضه الموت والحروب والغربة والمحو والإقصاء، بقدر ماهي حافلة بفنون الإبداع الواجب توافرها في قصيدة النَّثر ..ليؤكد لنا من جديد بعد "فحم وطباشير" و"سطر الشارع" أنَّه شاعر يثري نصوصه بما اكتنزه من رؤى وأفكار وثقافة تتعدى حدود السطح لتغور عميقاً في جوهر الفكرة النافرة من "ظلِّ الوردة إلى دهشة السُّؤال " .

 

د. سعد ياسين يوسف

................

(1) فلاح الشابندر، في زنزانة السُّؤال، دار سطور، بغداد- 2018

(2) ا.آ. ريتشاردز، مبادئ النقد الأدبي، ترجمة: الدكتور مصطفى بدوي، مراجعة د. لويس عوض، القاهرة – 1963، ص65

(3) اليزابيث درو، الشِّعر كيف نفهمه ونتذوقه، ترجمة محمد إبراهيم

الشوش، مكتبة منيمنة بيروت 1961-، ص34.

(4) ينظر د. محمود لطفي اليوسفي، الشِّعر والشِّعريّة: الفلاسفة

والمفكرون العرب – ما أنجزوه وما هفوا إليه، الدار العربية للكتاب،

تونس - 1992، ص358.

(5) فاضل ثامر، شعر الحداثة من بنية التماسك إلى فضاء التشظي، دار

المدى سوريا دمشق – 2012ط1، ص388

(6) جان فاري جويو، مسائل فلسفة الفنّ المعاصر، ترجمة وتقديم الدكتور سامي الدروبي، ط 2، دمشق - 1965ص69

(7) فلاح الشابندر، في زنزانة السؤال، المصدر السابق ص5

(8) المصدر السابق ص68

(9) المصدر السابق، ص7-8

(10) المصدر السابق، ص10

(11) المصدر نفسه، ص12

(12) المصدر نفسه، ص76

(13) المصدرنفسه، ص 74

(14) المصدرنفسه، ص 47

(15) المصدرنفسه، ص54

(16) المصدرنفسه، ص79

(17) المصدرنفسه، ص 61

(18) المصدرنفسه، ص85

(19) المصدرنفسة، ص 83

(20) المصدرنفسه، ص 41

(21) يُنظر نعمان بوقرة، مدخل إلى التحليل اللساني للخطاب الشعريّ، عالم الكتب الحديث، الأردن – 2008، ص38

(22) نازك الملائكة، قضايا الشعر المعاصر، دار العلم للملايين،

بيروت، لبنان، ط1، 1981 ص264

(23) فلاح الشابندر، المصدر السابق، ص83

(24) المصدر نفسه، ص23

(25) المصدر نفسه، ص24

(26) لمصدر نفسه، ص46- 59

(27) المصدر نفسه، ص88

(28) المصدر نفسه، ص26

(29) المصدر نفسه، ص 40

(30) نفسه ص 66

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم