صحيفة المثقف

التعليم في العراق.. بعض من اسباب انهياره

محمد حسين النجمفي عام 1975 - 1976 بدأ البعث مشروعه لتدمير التعليم الذي كان العراق يتربع به على راس القائمة في الجودة في العالم . نعرف جميعا ان الذين قاموا بالانقلاب في عام 1968 كانوا من البسطاء يقودهم عسكريون، واذا كانت المهنة شرف وليست عيبا، فإنها لابد ان تتناسب مع المسؤولية، وكلنا يعرف مستوى قادة الانقلاب اذا ما عرفنا ان منهم عامل الدرج، وعامل الثلج الذين لم يكن لهم ان يتبوؤوا سدة المسؤولية لو كان فيهم من هو افضل مستوى . اذن فالبعث بحاجة الى كوادر يعتمدها تخلصا من النظرة العامة للمجتمع، ولابد ان نذكر بانه على الرغم من المشوار الطويل الذي قطعه البعث في تهيئة كوادره، الا ان المجتمع كان يصف عزة الدوري، مثلا، ابو الثلج الى يوم سقوط النظام .

كانت البادرة الاولى التي بداها البعث هي تأسيس (قلعة البعث) كلية التربية التي اراد بها ان تقتصر على منتسبيه، وقد تم اعتماد القبول الخاص بها بعيدا عن سياقات القبول المركزي الذي يتحدد القبول به على وفق التنافس بين المتقدمين وهكذا شهد هذا العام قبولا مخزيا شمل من تدنى معدله عن الخمسين ممن كان في الاتحاد الوطني لطلبة العراق، وهو المنظمة الطلابية التي انشاها النظام لاستدراج الطلبة الى الحزب موهما اياهم بانها محض منظمة طلابية لا علافة لها بالتنظيم الحزبي . هذه البادرة سرعان ما تم وأدها من خلال اليونسكو التي هددت بسحب الاعتراف بالشهادة العراقية، مما دفع النظام لإدخال كلية التربية ضمن القبول المركزي، واللجوء الى اساليب بديلة .

حرص حزب البعث على تطوير كوادره من خلال الابتعاث والزمالات الدراسية (وبالاخص مع الدول العربية) مستغلا الصدى العالي للشهادة العراقية من جهة ومن جهة اخرى في مسعى لنشر منتسبيه في البلدان التي يدرسون فيها لغرض نشر افكاره، بالإضافة الى استثمار الطلبة العرب الدارسين في العراق للكسب الحزبي، وهكذا صار الانتساب للحزب شرطا للحصول على مقعد في بعثة او زمالة .

ان الشهادة العراقية تستند الى ماضي من التأسيس امده نصف قرن من الزمان قبل البعث، ومن المغالطة ان يحاول البعض ان يعزو قوة التعليم الى ذاك النظام، بل لابد ان نعرف بان البذرة للهبوط بالتعليم وما وصلته الان يعود بشكل اساس الى نظام البعث الذي كان اول من جعل التعليم تحت سطوة الايديولوجية، بل كان النظام يشدد طيلة وجوده على جعل التعليم بعثيا مغلقا مستبعدا منه من لا ينتسب اليه، بل ان الجدل حول الولاء او الكفاءة كان احد المفردات التي كثر الحديث عنها في اوساط الطبقة المثقفة، بما فيهم البعض من البعثيين الذين عادوا من بعثاتهم بعد ان عايشوا اجواء تختلف عن جو الهيمنة السياسية التي يسعى البعث لفرضها على التعليم، وربما كان لهم الدور في قبول الكثير من غير المنتمين الى الحزب بشكل حقيقي، من خلال الهبوط باشتراط القبول ان يكون المتقدم (مؤيدا) وهو ادنى درجات سلم الترقي الحزبي .

ان نظام البعث لم يرث قاعا صفصفا، بل هيمن على بلد يمتلك ثروة هائلة من الكفاءات، استطاع بعضها استقراء المستقبل اعتمادا على تجربة سابقة مخزية للبعث عام 1963 التي لم تعمر طويلا، الا انها تركت اثارا غائرة في نفوس العراقيين الذين عايشوا تلك الفترة التي كشف فيها البعث عن اخلاقيته الهمجية مما دفعهم الى اختيار المنفى، في حين تعرض من بقي الى جملة من اساليب الامتهان، من خلال تسليط اعضاء الحزب عليهم، وتعريضهم الى الضغوط والتهديد التي دفعت الكثيرين للاستسلام والانتماء .

ان تسليط القيادات الجامعية الهزيلة التي لا تملك الا كفاءة مسح الاكتاف والتزلف للنظام والحزب كانت ابتكارا بعثيا بامتياز، لم يفعل لاحقوهم الا السير على خطاهم يساندهم شعب استمرأ هذه السياسة، وقد وصل التعليم اثناء الفترة الثانية التي شهدت تسنم صدام حسين السلطة انحدارا لم يشهده التعليم في تاريخه، وقد ساهمت مغامراته الحربية بالجزء الاكبر من هذه، فصار تسرب الطلبة من المدارس مشكلة كبرى ازدادت تفاقما بعد المغامرة الثانية باحتلال الكويت حين شملت معلمي ومدرسي المدارس بل وحتى اساتذة الجامعات، حين دفع ضيق ذات اليد بهم الى اللجوء الى السعي لتحصيل لقمة العيش من خلال البسطات التي ملئت ارجاء الوطن، وصارت هما بديلا عن هم رعاية الطلبة والاهتمام بهم، بل وانعكست على مستوى الاداء العلمي لهؤلاء حتى شاع القول (ادرّس على كد راتبي) اشارة الى الرواتب الممنوحة لهم والتي لا تتجاوز بضعة دولارات في احسن احوالها، وهو ما دفع الكثير من ضعاف النفوس الى امتهان الرشوة التي صارت مسلكا طبيعيا في المجتمع، لم يزد اللاحقون الا استثمارها .

لقد اوغل النظام في تعسفه وامتهانه للتعليم وسدنته وطلابه، بل وصل به الحال الى تسليط الجهلة والاميين من ضباط صف الجيش عليهم واذلالهم من خلال ما اسماه معسكرات تدريب الاساتذة والطلبة، فكثرما تعرض الاساتذة والطلبة الى الاساءة بأقذع الالفاظ من قبل ضباط الصف اولئك بالإضافة الى تعريضهم لأقذر العقوبات بحجة خطأهم في ممارسة تدريبية او فعالية استعراضية . كانت معسكرات التدريب فرصة ذهبية للفاشلين والموتورين سواء منهم ضباط الصف او الضباط الذين لم يُقبلوا الا بحكم انتمائهم للبعث، فقد كانت الكليات العسكرية مغلقة لا يمكن قبول غير المنتمين للحزب فيها .

ان الحديث عن التعليم ذو شجون، وان انحداره المتسارع لم يكن ليحدث بين عشية وضحاها لولا ما سبق ان قام به النظام السابق، والذي لم يكن الكثير من اللاحقين الا جزءا منه، اعتادوا مسح الاكتاف والتملق لتسلق المواقع الفاعلة مما جعلهم يحملون جراثيم ذاك العهد وينشروها في جسد الوطن .

ان الفساد المستشري في اوصال الدولة، بالتعليم او بغيره، لم يكن ليحدث لولا سياسة النظام السابق الذي اوصل الشعب الى استمراء الرذائل، مما جعلهم ناشطين في افساد كل شيء، دون ان ننزه الكثير من القادمين، بل ان نظرة استذكارية يمكن ان يقوم بها الكثيرون يمكنها ان تذكرهم بالدور الذي قام به الفاعلون الداخليون في رسم اساليب الفساد لمسؤوليهم واستدراجهم الى مواطن الفساد التي وجدت صدى لدى الكثيرين يعينهم في ذلك نظام سياسي لم يضع مصلحة الوطن مرتكزا له، بل مصالح مكونات تم اختزالها سريعا الى مصلحة قادة الكتل والاحزاب التي تدعي تمثيل تلك المكونات . ان الانحدار بالمصلحة العامة التي تمثل الوطن، الى مصالح الفئات المكونة له كانت اساس تجيير تلك المصالح للقادة وتابعيهم، كل حسب مستوى مسئوليته، فالنظام الذي ينبني على المصلحة الخاصة لابد ان تنتهي هذه المصلحة الخاصة الى اصغر مكوناتها وهي مصلحة قادة الاحزاب والكتل .

ان قراءة وطنية لأسباب التدهور والانحدار التي اصابت الوطن، تستلزم نظرة تتجافى عن المصالح الفئوية والدوافع السياسية والتعامل العاطفي النابع من ولاءات مصطنعة وُضعت بديلا عن الولاء للوطن، مثلما تستوجب البعد عن التحامل نتيجة خسران السلطة، سواء لمن ينتمي الى النظام السابق او الحالي، فالوطن خيمة تسع مواطنيه، وتشظية هذه الخيمة تجعلنا جميعا بالعراء .

 

د. محمد حسين النجم

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم