صحيفة المثقف

نبوءة العمّ سعد

قصي الشيخ عسكربعد بضعة أيّام تحققت نبوءة العمّ سعد النّمر إذ انفجر عبد بوجه الدّاهية التي لم تكن مستعدّة من قبل لمثل هذا التمرّد، لأنّه جاء من أقرب النّاس إليها:عبد السّهل الواضح، والدّاهية طول عهدها لم تصطدم بأيّ شيء واضح، فحتّى وقت قريب ارتمت أمامها العقبات المبهمة، فألفت الظلام، وعاشرت الغيوم، وأدركت عيناها العتمة، ولاعبت السّحر وكيد السّاحر، ولو سألوا عنها الليل لعرفها بسواده، وبرده، وضبابه، وكيف فهمته، وألفته. الماضي، والضباب، وماذا عن الأيّام التي قضتها وحيدة بعد وفاة أبيها الوليّ، ولعلّ قاع النّهر وجذور الأشجار المخفيّة آنس إليها. كانت تجهل الأشياء وجهلها بها يجعلها قريبة منها، فتدرك مغزاها كالحرب التي عاصرتها وهي طفلة، والباشا الذي فهمته وهي بعيدة عنه!ثمّ تجهل القريب إليها ولا تفهم بضعة منها، فكيف صعب عليها وجه الماء، وانبلاج الصّبح، وأوّل علامات إقرارها بالضعف تمرّد فلذة كبدها عليها. سوف يفوتها الوقت مالم تلتفت إلى نفسها. كانت تلفّ حيثما يجري الزّمن، وتدور مع الأحداث والوقائع، فجأة يطلع عبد، فتعجز عن أن تصدّه، والأسلم لها، بعد انعام فكر، وتأمّل، إن أرادت أن تتقي ماتكرهه، هو أن تلين لوحيدها، ولو إلى حين، فتجاريه، وتعده، حتّى وإن كان ذلك ينال منها هي بالذّات، لاشكّ سوف تنتشر إشاعات، وتقوّلات، يالشماتة الأعداء، وهم يتشفّون منها بعزيزها عبد فيقولون إنّه ركلها حالما شبّ عن الطّوق، ويالخجلها من أمّ مصعب، حقّا إنّها لم تعلن الخطبة، لكنّ القاصي والدّاني يعرف بالأمر. لقد حسبت، وهي تستعدّ لأيّ احتمال أنّ السّحر أحاطها من كلّ جانب، فلا تنفي التهمة عن زوجة النّمر وبناته، كذلك إصبع الاتهام يشير إلى سعي النّمر العمّ في قلب عقل الفتى. منذ سنوات وهو يبحث عن شيء أضاعه، ظلّ يسطع في ذاكرته، ويحنّ إليه. في نهر جاسم التقته، وفي المكتب عنده بالعشار، وقرأت أفكاره. ربّما كان يراهن على صعود نجم الباشا في بغداد، فتشمله امتيازات لاتتحقّق لغيره، ومن المحتمل أنّه ظلّ يراهن على موت الباشا ليعود إليه كلّ شيء عندئذ يربح نهر جاسم كلّها. إنّه الثأر القديم، والحلم الكامن بعيون آل النّمر صغيرهم وكبيرهم تلك الرّغبة قرأتها في عينيه يوم حدّثها عن بيروت والسّفر. لقاء غير غريب الملامح عليها، ولاتستبعد أن تكون لعبد فيه يد دون أن يجرؤ على ذكر الحقيقة أمامها. مادامت لهم أموال في بيروت، فلا بدّ من السّفر، فما أشدّ شوقه ليكشف أرارا وخبايا ماكانت لتُعرف. كلّ ذلك ليس جديدا عن الدّاهية، إنّما تلك الرّغبة التي تخبو فترة، ثمّ لايجرؤ النّمر على كتمانها فتلوح بين عينيه لحظة أو تخطر كالخيال. مسحة على ثنيّات جبينه المسافرة مع السّنين. عودة النّمر إلى آل النّمر، فهنيئا لك ياحاجّة رقية اعتكافك في عالمك العُلويّ حيث لاترين، ولاتسمعين، ولتسمع أيّها الباشا الغالي، وأنت تحت التّراب، أنّ أخاك، وأهلك الذين حاربتهم، وخرجت عنهم، رؤوك عائدا اليهم نادما وطالبا الصّفح والغفران، لكن ورأسك الغالي، سأمد اليهم يدا وأقطع عنهم يدا، فالدّاهية وحيدة، وحدها، وبيد أل النّمر سلاح لاتقدر أن تكسره. رأت أسرار البيت تُنقل إلى العشّار، وخفايا الأمور يقلّبها سعد بين يديه، وسواء قبلت أم رفضت، سوف يسافر عاجلا أم آجلا الاثنان معا إلى بيروت، فيطّلع العمّ على المخفيّ والمستور، وفيما يُشبه الحلم تذكّرت أنّها أحيانا تتطرف، فقد وقفت مع عبد الأخ العاشق، وقست على عبد الابن. دعت في الضّريح، وسمعت أباها ينصحها ألا تدعو بالخير، والشرّ معا، بل بالخير وحده، فأنساها الغضب، لتجد بعدئذ أنّ أيّة دعوى لابدّ أن يشملها عقابها، وكثيرا ماكانت تحمد اللّه وتقنع بالخسائر، فكلّ مصيبة بالمال تهون.

هكذا تلجلجت أفكارها…

المهمّ أن يعود إليها الغالي لكي تجد نفسها وقد رجعت إلى الوليّ، والأخ، والنّمر الزّوج!

عبد كلّ هؤلاء.

وفي مثل هذه الحال ماعليها إلاّ أن تطرق باب العشّار مرّة أخرى، فينبسط أمامها الدّاكير بشكل غريب. العينان تغيبان عن رؤية المألوف. في هذا المكان تشعر بالأمان، ومن حقّ الجنّ والملائكة أن تهجر البشر المتلوّن المتبدّل، وتسكن قبور الموتى، وكنت أيّتها الدّاهية تدركين خراب الأحياء، فقضيت العمر معظمه مع الضريح، لكن علامة استفهام ارتسمت على ملامحها، قبل أكثر من عام يوم جاءت لتجديد العهد رأت كلّ شيء كما ألفته أوّل مرّة. كلّ شيء انقلب رأسا على عقب. كيف يتغيّر شارع السّحر الذي تأوي إليه الأرواح والجنّ، حتّى كادت العينان تشكّان في المحلات، والذاكرة تهرب من البياض سمة الدكاكين الأولى ومنصّات الكتب المصفرّة، والغبار إلى دكاكين تبيع طحينا، وحلويّات، ولحما، وقرطاسيّة. هل تسأل أحد المارّة، أم أحد الباعة. الحانوت الذي اعتادت على زيارته مغلق، وبعدما تردّدت، صعدت الدكات الثّلاث، ثمّ طرقت الباب المجاور. مرّت لحظات، وإذا بالشيخ ذي اللّحية البيضاء، يطلّ بهيئته الوقور، وطلعته البهيّة، عرفته على الرّغم من تغيّر وجهه، كأنّه كبر خلال عام واحد عشر سنوات، فنطق بصوت منخفض، ولهجة جافّة، تنبيء عن ضجر شديد، وتنكر أيّ شيء:

ـ نعم هل من شيء؟

هول المفاجأة يجرفها. صدمة. وتسأل ماذا حلّ بالرّجل:

ـ ألا تذكرني؟

ظلّ مصرا على جملته السّابقة، وأضاف:

ـ يمكن أن تكوني قد أخطأت في العنوان. !

نسي أم تناسى، ولم كلّ هذا التغيير. زمان عجيب يرينا في كلّ يوم بدعة جديدة:

ـ الخطر يحيطني، والغالي مخدوع، وأعدائي يقاتلونني بالسّحر ليكون ابني في صفّهم.

ـ وما يخصّني أنا؟

ـ انقذني.

ـ يبدو أنّ الكلام لاينفع معك.

وصفق الباب خلفه تاركا إيّاها للحيرة والتساؤل. ماذا حدث ياترى؟ كيف انقلب العالم ولم تشعر به. كلّ معالم العشّار حالما وطئت قدماها ضفة شطّ العرب بدأت لعينيها بوجهها المألوف: السياج المقابل للمعبر. تمثال السّيّاب . دائرة التمور. أسد بابل. جسر العشّار…ماعدا ذلك الشّارع. منذ أن فتحت الدّنيا عينيها، كان السّحر يجري بوجهه القديم أسرع من الحصان والطّائرة، وأقوى من القنابل. الدّنيا حوله تجري كالماء، فما الذي حدث؟ وبينما هي في خضمّ أفكارها، وهواجسها المضطربة، وإذا بعينين عرض الشّارع تلتقيان عينيها، وصوت هاديء ناعم يهتف مصليا على النّبيّ:

ـ أمّ عبد الدّاهية!!!

كانت أمّ مصعب . الحظّ وحده ألقاها في طريقها، عندئذ اصفرّ وجه الدّاهية، وخامرتها أفكار سوداء في البداية دفعة واحدة. ماذا لو عرف أهل نهر جاسم، وانتشر الخبر، وأيّة صفة تحرج ابنة الوليّ صاحب الكرامات ذات العقل الرّاجح، والإيمان من أن تعرض عن ضريح أبيها وتلج باب السّحر، كما تسمعه من ازدراء لبنت المسعود التي شاع أمرها، وصارت أمثولة للسّخرية والطّعن في سلامة العقل…صامتة مذهولة…الصفرة تطبع وجهها، ولاتحسّ برجليها وهما تقودانها بجوار أمّ مصعب إلى حيث الأمان في المقام ملاذ أهل العشّارفي الضيق، وحالما جلستا والتقطت الدّاهية أنفاسها، سارعت صاحبتها إلى الكلام:

ـ أتدرين لقد منعوهم من ممارسة مهنتهم.

وهي تغالب حيرتها:

ـ الشّارع كلّه تغيّر.

ـ منذ متى زرت المكان آخر مرّة؟

ويبدو أنّ ارتباك الدّاهية تلاشى حيث أمِنت إلى محدّثتها:

ـ حرصي على عبد هو الذي يدفعني أن أجرع السّمّ!

ـ وأنا ياداهية، واللّه يشهد، حرصي على أبي مصعب، خشية من أن يلتفت إلى زوجته، وأولاده في الدّعيجي، فيسجّل كلّ ما يملك في الدّعيجي، وأبي الخصيب باسمهمّ، واللّه يعلم كم تعبت حتى حصلت على قطعة الملك والبستان في نهر جاسم…

وعادت الدّاهية إلى مابدأت به أمّ مصعب:

ـ لكن لم تقولي لمَ منعوهم؟

فوضعت أمّ مصعب يدها على ركبة جليستها تستعين بها على الهمس، وكأنّها بدت قادمة من طريق بعيد ملتفة بعينيها إلى زائرات المقام المشغولات بالحديث:

ـ مادمت ستحفظين سرّي كما أحفظ سرّك، فها أنا أقول الحقيقة أمامك: لقد منعوهم لأنّ الحكومة أحسّت أنّ أهالي المسجونين السّياسيين، والمخطوفين من الأمن والمخابرات(وأخذ صوتها يميل إلى الهمس، فكادت يدها تنطق عنها بدلا من شفتيها) يتهافتون على السّحرة، ليكشفوا بسحرهم عن أماكن أبنائهم، كنت سمعت بهذا قبل أيّام، لكنّي لم أتصوّر أن يغيّروا الشّارع كله، وهؤلاء الباعة وأصحاب الدّكاكين أظنّهم من المخابرات(وأكدت)هناك بعض السّحرة والسّاحر الذي أعرفه يستطيع أن يريك عدوّك، وأين هو محبّك الغائب عن عينيك المجهول لك، وقد وفى بوعده لي، وأراني أيّام المحنة أبا مصعب في إحدى الزّنزانات، فاطمأنّ قلبي إلى أنّه حيّ يُرزق.

بريق الأمل يشع من جديد في عينيها. القلق يكاد يتلاشى. ربّ مصادفة خير من ألف ميعاد، ولم تعد تفكّر الآن بالفضيحة:

ـ ياليت، فأنت تدركين مدى حزني وغمّي. الولد مسحور!

ـ بالتأكيد!

ـ إنّها امرأة عمّه لاسامحها اللّه، وليس بمقدوري أن ألجأ إلى أبي، فالشرّ لايطرده إلا الشرّ، ونفس أبي طويل، وأنا أريد أن أرتاح اليوم قبل الغد.

ـ وإذا وعدتك بكلّ خير؟

ـ سوف أكون ممتنة لك ماحييت.

ـ إسمعي. لن أدع الخيط يفلت من يدي. أنا أختك أمّ مصعب. سوف يرسل لي الرّجل قريبته، ابنة أخته كي تساعدنا في فكّ السحروحالما تصل إليّ أبعث لك بالخبر!

ارتياح ما. وعلاقة تقوى كلّ يوم، أمّ مصعب لايأتي منها إلا الخير دائما. كأنّما شقيقتان لاتفترقان، وكان أهل نهر جاسم في عجب شديد من أمر ذلك التّقارب إذ المعقول أن يسود النّفور والكره بينهما لانصراف عبد عن جميلة. ربّما عادت التّقوّلات من جديد على لسان القدامى من جيل ماقبل الدّاهية في أنّ الحقّ عاد إلى نصابه برجوع النّمر الصّغير إلى الأصل، كما تفترضه سنّة الحياة، وما وقوف النّمر مع أخواله، وتركه أهله إلا حالة شاذة قد لاتتكرّر مرّة أُخرى، وسوف يصفّي نجله أملاكه في نهر جاسم ويرحل إلى أهل أبيه، عندئذ تتجلّى شماتة آل النّمر بالدّاهية، فيعدّونها، وهي بينهم أشبه بالخادمة، أو أن تقبل الأمر على مضض، وتفترق عن عبد مكتفية بالمكبس المكتوب باسمها، وتلازم ضريح أبيها الوليّ.

كان ذلك أشبه بحقيقة لايختلف عليها اثنان.

وكانت الداهية تسمع من هنا وهناك، فتلوذ بالصمت والصبر وصدرها يغلي…

وقد مضت بضعة أيّام على لقاء العشّار، حين جاءت أمّ   مصعب لتذكّر أنّ صاحبها أرسل قريبته تتصل بهما، وعندما وقع بصر الدّاهية على امرأة في الخمسين من عمرها لها ملامح الرّجل ذي اللّحية البيضاء، والهيئة الرّزنة، لاأحد يشكّ قطّ في أنّها قريبته . تلك اللّحظات وجدت نفسها تعود إلى لعبة الأسماء. الدّاهية ابنة من؟وعبد مااسم أمّه؟منذ فتحت عينيها على الحياة سمعت الشّيخ يدعوها ابنتي، ثمّ سمّوها الدّاهية. الشّيخ أبوها وأمّها، وعبد أخوها، وابنها، فما الذي تعنيه الأسماء بعدئذ لها. في هذا الزمن يجب أن تكون هناك أسماء، وحين سجّل المرحوم المكبس لها كتب اسمها كما هو، أو مثلما يلفظه النّاس. الدّاهية بنت جاسم، ومن قبل، وهي تحاول، أن تطلب ثأرها من قاتل أخيها لم يسألها أحد عن اسم أمها. في ذلك الوقت كانت الدّنيا تشيخ ولا يشيخ السّاحر، وتعيا الحياة بأسماء النساء، والسّحرة يجدون البديل لكلّ من لم تعرف أمّها. كلّ سنة تزور صاحبها فتجده كما هو لاينال منه الزّمن، وفي آخر زيارة أنكرها، فوقع بصرها على شيخ متعب ذي سحنة جليلة ووجه مصفرّ كالشّمس الجانحة للمغيب. فلتكن الأسماء إذن مادام كلّ شيء قد تغيّر هذه الأيّام، وهناك أمّ ليس بمقدورها أن تنكر أحدا:

ـ الدّاهية اسمي، وأبي الولي السّيد جاسم صاحب الضريح وأمّي حوّاء!

ـ داهية بنت حواء إنوي ولا تتردّدي!!

- ها قد نويت

- وقبل ذهابها لخطبة ناهدة بليلة واحدة فقط ، وفيما هي مرهقة بشتّى الأفكار، وهي تستلقي في سريرها، وإذا بها تبصر النّمر نفسه يضع يده بيد عبد أخيها، ورقيّة على مقربة منهما. كانت ترضع عبد الصّغير. الزّمان عاد إلى سيرته الأولى، فتساوت الدّقائق، لم يعد للأسماء من سبب. اسم الدّاهية واسم أمّها، في الحلم السّحر والصحو على حدّ سواء، وفي لحظة آتية لاريب فيها أبصرت حبلا يلتفّ من الأعلى على عنقها، ولاأحد من الأحبّة يخطو فينجدها. راحت تجاهد برقبتها وعيناها تضمّان عبد إلى صدرها. بعد جهد أفلتت من الحبل، وصحت على أنفاسها المتهجّدة، كأنّما انتزعت نفسها من الموت، فنهضت من مكانها وعيناها تتصفّحان الوجوه ليطمأن قلبها:الحاجّة. عبد. ملكة الليل. جميعهم يغطّون بنوم عميق، والسّكينة ترفرف على أنفاسهم، فحمدت اللّه، وفهمت أنّ حلمها لم يكن عبثا، فازدادت يقينا بأنّ عبد سوف يعود إليها، وإن مضت في مشروع الخطبة. لقد ضمّته في عالم الرّؤيا إلى صدرها، الأموات والأحياء شهدوا ببراءتها من أيّة جريمة. النّمر غفر لها انتقامها لأجل أن تظلّ مع عبد، وهي بعد ذلك، والسّحر في جيبها لاتخشى من أيّ شيء، مادامت أبصرت زوجها وأخاها، أمّا الوليّ فهو الأقرب إليها، وسف يسمعها وإن لم تقع عيناها عليه.

صباح ذلك اليوم غادرت إلى العشار.

وكاد بيت سعد النّمر لايفتر عن التّرحاب. الأمّ والبنات بكامل زينتهنّ، وهندامهنّ مما لاعين رأت ولاأذن سمعت، كأنّهنّ يتحدّين الدّاهية من خلال التّرحاب والمبالغة، والحاج سعد النّمرمغتبط لايملّ من الثّناء على الدّاهية، وأصلها الشّريف. كانت تحسّ، من خلال كلمات الإطراء، مواضع الوجع في روحها. قدرها أنّها كالجمل يظلّ الحقد يغلي بعروقها إلى أن تحقّق ثأرها، فيا لغباء عبد حيث غرّته المدينة، وسحرها، فخرج عن خطأ أبيه، ولو يدري أنّ أمّه وخاله وجدّه لم يفرّوا إلى موضع آخر غير نهر جاسم. وحين ولّت الوساوس لحظة، واندثر الماضي، التفتت إلى النّمر وزوجته، فنطقت:

ـ لو كنتم عائلة غريبة، لقلت لكم إنّي بحثت عن الأصل والسّمعة، والشّرف، وأنت ياحاج بمثابة أب لعبد، وابنتك مثل ابنتي، لكنّنا يمكن أن نكتب كتاب الإثنين، ونؤجّل الزّواج بعض الوقت، لعلّ الحاجّة تشفى، وحتّى يتمكّن عبد من السّفر إلى بيروت، فيتابع أعماله ومصالحه.

وعندما ختمت عبارتها لاذت بذكرياتها من جديد، وواجهت كلّ طلبات أمّ العروس من غيرما نقاش ولااعتراض. بيت في العشّار. سيّارة. مهر مؤجّل…قابلت كلّ ذلك بابتسامة فاضت عين الرّضا خشية من أن يعدّ آل النّمر اعتراضها عجزا ونقصا فيها، وفجأة، وخلال لحظات بعد إعلان الخطبة، اكتشفت أنّها لم تكن غاضبة على عبد من كلّ قلبها. كانت مجبرة على الفرح والحزن في خطبة الغالي. لابدّ من الفرح، والحزن لأنّ الأيّام اختارت غير التي تتفق مع هواها، وماتعرفه الدّاهية اليوم، وإن عظم، وفق هواجسها التي لاتخيب، أفضل ممّا لاتعرفه غدا، وإن كان ضرره أقلّ، لكنّها تأكدت تماما الآن، أنّ رغبة عبد في ناهدة لم تكن إلاّ نزوة تمرّ، وهذا ما أثلج صدرها، وأكدته في حديثها لأمّ مصعب أيضا.

وبدا أنّ الثّلاثة، على الرّغم من كلّ شيء،   يسابقون الزّمن، ويتعجّلون السّفر، من كان يراهن نفسه، ويظنّ مجرّد احتمال، والزّمن على غدره، أنّ بيروت توشك أن تلتهب، في وقت بلغ فيه عبد النّضج، وخرج من وصاية الدّاهية، وقت سبقت الأجواء القاتمة هواجس الدّاهية، وانطوى كلّ يوم يحمل خبرا جديدا. أهي المصادفة وحدها أمّ سوء الحظّ؟أم تراه سرّ لايفهم أحد لغزه، فما أن انتهت حرب الشّمال، وتنفّس النّاس الصّعداء، وفرح عبد بالإعفاء حتّى لاحت في الأفق البعيد نذر جديدة لخراب العالم، وسط تلك الأجواء، وخلال الأسبوع الذي نوى فيه عبد السّفر مع عمّه سعد النّمر، مباشرة، كشفت، هذه المرّة بيروت عن وجهها الآخر.

فاضت أجواؤها بالخوف. . .

العالم كلّه سمع صوتها. . .

وانفجرت، وكادت الدّنيا تحترق معها…

وقد تلقّى الثلاثة الصّدمة بذهول. سعد النّمر تغيّرت ملامحه، وعبد يكاد يفهم ولايفهم أيّة خسارة تنتظره، أمّا الداهية، فقد راقبت بعينها وقلبها وحدها فعلى مقربة منها ترقد الحاجّة رقيّة شبه مشلولة تهذي بخرافاتها، وحكايات أيّام زمان، وعاد الفرح هذه المرّة لكن مع الشّماتة والحزن. رقيّة إنّي أرى مالاترين. شوارع تحترق. ناسا تموت. رصاصا. قنصا. بنوكا تذوب وسط النّيران. عصابات. مدافع. قذائف. سعد النمر سوف لن يفرح بخطبة ابنته، أمّا النيران فقد التهمت كلّ شيء، فما هناك من أسرار بعد تلوح لعينيه، ولاخصوصيّات تربّص لها سنين ليدركها. إنها الحرب التي تمنع الباشا أن يسافر العام القادم. الماء الزلال. الرّياض…الحدائق. العالم كلّه يشمّ رائحتها عن بعد. في السّنة القادمة سوف أصحبك ياداهية أنت، وعبد، والحاجّة إلى بيروت. تريان المصايف ونسيم الجنّة، ولمن ياحبّة عيني نترك البيت إذا سافرنا كلّنا؟أبيد العبيد والخدم، والحاجّة التي اقترحت أن تبقى هي ترعى البيت، تجهل أخبار بيروت بالمرّة، ونهر جاسم تقول بأسف:كلّ ذلك يحدث بسبب الفسق والفجور، عقاب من الله للبنان التي صدّرت كلّ المحرّمات إلى العرب وقالت راوية الشؤم إنّ المدينة لن تصحو من سكرة الحياة إلا إذا صارت قاعا صفصفا يخيّل لمن يراها أنّ عاليها سافلها والأسف على الشباب لاعلى المال والمتاع. المصير ذاته سوف تعثر عليه نهر جاسم وقرى ومدن أخرى غير أنّ بيروت بكّرت في قضم نفسها قبل كلّ البقاع، والباشا لايعلم الغيب حين مدّ يده إلى عواصم كثيرة، فاحتضنت ذراعاه بيروت وحدها، فوثق بها من دون البقاع، ليودع في بنوكها حصّة كبيرة من أمواله، وهاهي بيروت تكشف عن وجهها الآخر، فتخون الأموات قبل الأحياء، غدّارة:

ـ الفساد. الفساد

ـ الفسق والفجور.

ـ المغنيات يأتين من هناك. الرّاقصات. العري، والعياذ باللّه.

الدّاهية تسمع بالموت ولاتراه بل تحسّه في قلبها، ةتتطلّع بوجه عبد، فلا تجده يندى بالهمّ. كان غارقا إلى أعلى هامته بالحبّ. لايرى إلا ناهدة، ولايسمع سوى صوتها. بالضبط كخاله أو واحد من هؤلاء الذين يقاتلون في بيروت ولايرون ماحولهم وليس فيهم رجل كأبيها الوليّ، أمّا هي فرأت الأحداث تجري أسرع منها فلا تدركها إلاّ بعد حين. هكذا فاجأها عبد بخطبته ناهدة، وهكذا احترقت بيروت بين عشيّة وضحاها، فأين أنت ياداهية، كأنّ رجليك على الأرض ورأسك في السّماء!، ومع كلّ ماحدث فلم تشكّ لحظة واحدة أنّ كلّ دعوة من دعواتها الغاضبة تُستجاب، فتجلب خسارة فادحة، وكلمة أبيها ترن في أذنها:

ـ لاتدعي بالشّرّ ياداهية، فهاهو كلّ شيء يحترق، والنّار تسعى إلى الأذن ولاتراها العين.

وبغضّ النّظر عمّا حصل، ففي اليوم الذي بدأت النّار تأكل بيروت، فتسمع أنّاتها نهر جاسم، لم تعلن النّبوءة عن نهاية العالم بعد. أخرجت الدّاهية ورقة السّحر من جيبها، ووضعتها في إحدى الزّوايا، ثمّ ذهبت إلى ضريح والدها. كان يهمّها عبد، أمّا النّقود فتذهب وتجيء، وحين سألتها الغالية أمّ مصعب عن مضمون النّذر، أجابت أنّها رأت في منامها عبد راجعا اليها من سفر بعيد، وأيّ سفر كان، ربّما لم تفهم قصدها أيّ من النسوة، إلاّ أمّ مصعب وحدها، وعندما سألتها إحدى زائرات الضريح:

ـ هل الحرب القائمة في بيروت بداية نهاية العالم؟

أجابت بعد صمت:

ـ أبدا لا، فالنّبوءة لم تشر إلى نهاية العالم.

وهمّت أن تضيف أنّ الطّريق لم يعبّد لحدّ الآن ثمّ أعرضت عن ذلك.

 

د. قصي الشيخ عسكر

...................

حلقة من رواية: نهر جاسم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم