صحيفة المثقف

"ورا الشاشة": ملحمة العبور إلى صوت الجرح

خالد جودة احمدتتضافر مجموعة النصوص الموازية في ديوان "ورا الشاشة" للشاعر "أيمن عبدة"، لتحقيق تواصل القراء مع الكتاب الإبداعي، إضافة للعنوان الرئيس، حيث الغلاف الممثل للحائط الآيل للسقوط، دال الواقع المكسور، يقبع خلف شاشة لا تبين يكتنفها الغموض وعدم وضوح رؤية، أو تعبير عن حال مستخدم ورا الشاشة محجوب عنه رؤية منصفة فكان التشويش الذي ظهر للقراء كعتبة تعبيرية صادقة.

وجاء المتن الإبداعي مؤيدًا لعتباته الأولي، فالإهداء يحمل ثيمات "المستقبل" ومحنة الجيل الشاب في مواجهة الجيل الكسول الذي أستساغ الهزيمة وسوغها، (وبتكلمني عن بكرة)، وعن حضور فكرة الإبداع ذاته وحضوره بنية إبداعية، والوسائط الحديثة (وعن ألغاز "ورا الشاشة" / وبتحملها في (فلاشة))، ثم يدفع تمامًا بالقصدية، حيث الوطن وقت محنته ينادي مستغيثًا، فيجيب الإبداع بالكتاب الشعري. (وبتكلمني عن صوتها / في وقت الشدة بتنادي / ما بين الشط والتاني / بقول لبيك يا بلادي)

كانت الرحلة عبر العنوان وأصدقائه من عتبات موازية، تشكل التأطير للمنجز الشعري، حيث السخاء بالصورة الشعرية المركبة، وممكنات التأويل بين السطور، فجاءت عدد من قصائد الديوان أوعية فلسفية، تطرح فكرًا مضفرًا بالمجاز الشعري.

ويصدح صوت الجرح بتداول مفردة "السكات" وتنويعاتها بالمتن الشعري، بحيث لا تكاد تخلو قصيدة منها، (والحق حابسينه ف تابوت / والقاضي يحكم بالسكات) ص 123، (اتفضل اشرب قهوتك / واحكم عليها بالسكات) ص 99، (مولود علي قيد الممات / مستني دورك في الحياة / بتصحي روحك بالسكات) ص 100، ويأتي أحيانًا بمعني الغياب والإختباء: (لجل ما نشوفش الشعاع المستخبي) ص 9، أو محنة التعبير والقول المذبوح: (وآه من آه متتقالشي) ص 71، (وتبلع صوتك المكتوم علي غمك) ص 53، (بيلفوا حبل المشنقة / حوالين مشاعرك) ص 100، (مش كل الوجع مسموع) ص 49، ويصل الأمر إلى حد الموت: (وتلبس نعشك المفرود علي جرحك / وتدفن روحك المصدومة في حكاية / وتقرا الفاتحة علي فرحك) ص 29

ويأتي صوت الجرح صاخبًا من معطي طمس الهوية، ونحر الأمل، وتفعيل القسر، وتجريف صوت الحلم، وتأسيس القولبة: (تشبه الدنيا اللي ليهم / يطمسوا فينا الملامح) ص 10، (.. كانوا بيسدوا الشوارع والأماكن والحارات / لجل ما نشوفش الشعاع المستخبي / لجل ما نعلقش توبنا في شمس بكرة)، (سمعونا حلم صوته أرضه بايرة من زامان) ص 10، حيث الحجب صورة من سكات الحقائق، فلائحة الممنوع منوعة منها: (أو نشوف الضي طارح جوه دقات الساعات) ص 9، وتبين الذات الشاعرة في قصيدة (حر لكن) عن تلك الحرية الموهومة، حيث أنها مشروطة بالعيش الذليل في جلباب جيل الهزيمة: (لبسونا توب زمانهم لجل ما يعيش الكيان) ص 10.

ويحضر بالقاموس الشعري مفردات وسائط الحداثة، ومعطي التكنولوجيا المغيبة للوعي، حيث زيف التواصل الإنساني الفقير، وحيث سكات وردة الجرح عبر حياة افتراضية مسكرة بالوهم، وجاءت قصيدة العنوان "ورا الشاشة" محورية لمنح هذا المعني: (ورا الشاشة / و (بوست) عريض / وكام نعبير وكام يشعر / بنتداري في وسط العالم المكبوت) ص 21، والمفردات كثيفة (شاشات الفضاء / فلاشة / بوست / إنبوكس / سيلفي / إنستجرام / مسدج / إيموشن)، ليعلن عن الهوية الالية الضبابية، والوردة البلاستيكية بلا رائحة: (ورا الشاشة بتتأفلم كتير أفلام / ورا الشاشة بتتفاجئ علي الأوهام / ورا الشاشة تعيش الدور ومش دورك) ص 22

كان صوت الجرح نابهًا عندما انتدب الشعر ليصرخ بصوته، ويعبر عن كيانه، فكانت فكرة التعبير، وحضور التشكيل الإبداعي صورة ومتنًا في رحاب الديوان، بمعني أن معلقات خاصة بالكتب الإبداعية لم تصبح فقط معينة لفهم المتن الإبداعي وتفسيره والتواصل مع مكنونه، بل تصبح هي ذاتها المتن، أي جعل العتبات المساعدة شخصيات رئيسة في الكتاب الشعري: (ف الطبيعي إن المشاعر / تبقي خايفة م البداية ... والطبيعي وعادي جدًا / نقرأ الإهداء نهاية) ص 9 "بتصرف"، وفي نص (آخر صفحة في كتابك) تشرح الذات الشاعرة أزمة القراءة والتفسير في عاطفة الحبيب: (وأنا الشوق اللي بات مشتاق لإحساسك / أنا النبض اللي كان بيدق أنفاسك / بقيت آخر رقم ليكي / في آخر صفحة في كتابك!!! / دا أنا اللي كتبت العنوان علي صدري / وأول قايمة الإهداء / وأول بيت / في أول صفحة كنتي إنتي / ف ليه بتقريني بالمقلوب!؟) ص 12 و 13.

ورغم سجن صوت الجرح تسعي الذات الشاعرة لتحريره وبثه موجة ثورية من خلال فعل وإرادة تغيير، فنجد إدانة الخوف المستدام: (.. فتخاف تحب وتنجرح / وتخاف من الشمس الدفا) ص 26، (وانت اللي رافض رغم صوتك في المدا / إنك تعيش) ص 27، ونجد الممكن الشعري في قصيدة البوح (فضفضة) حيث النفس (محتاجة زخات المطر) ص 35، وحيث حديث الشعر للتحفيز للفعل: (تاخد بإيدها للبراح / يمكن تطمن قلبها / علي حرف ضايع منها جوه الحواري المرعبة / واطلع بحلمك فوق جبال الممكنات) ص 36، (ويحضن جرحه ويعافر) ص 45، وحيث الطب بالفن: (ومشاعر في نص الليل / في الواقع ريحيتها تفوح) ص 50، وحيث وقت القرار المنتظر: (وقت القرار المنتظر / هتعيد غناوي سمعتها / وتلف روحك بالنهار) ص 88

ويعتمر الديوان الشعري بعدد كبير من القصائد (46 قصيدة)، ويبدو أن الشاعر أراد أن يقدم جوانب كثيفة من تجاربه الشعرية فأتت بعض القصائد من أزمنة تدوين مختلفة، ولم نعثر علي تواريخ التأليف بحيث تعين كمؤشر نقدي، لذلك نجد القصيدة الرومانسية الذاتية، أو محاولات التجريب، ففي قصيدة طريفة موسومة (قلب الشارع) نجد كاميرا طوافة تقدم مشهدًا يمارس تحذيرًا من فقدان عذرية المشاعر، حيث الجميع يحيا في جزر منعزلة، ويحدو النص في تقديم جغرافيا المشاعر المعزولة تناصًا يختبئ في الغناء "بافكر في اللي ناسيني / وأنسي اللي فاكرني"، حيث أربعة شخصيات يحب كل منها آخر لا يحبه ويحب آخر وهكذا (الواد الساكن قلب الشارع / البت الساكنة السابع / البنت الساكنة الرابع / الواد الواقف دايما في البلكونة).

ويظهر أمر التنويع والتباين بين القصائد أيضًا من خلال ترتيب القصائد، فقصيدة (بطلت اكتب) كان مكانها الطبيعي للمبني الذي يوافق المعني ويؤازره أن تكون القصيدة الأخيرة لتعبر عن دوال الديوان الكلية المنتجة في إهاب "السكات " ومرارته، والقصيدة طريفة قائمة علي تشظي التعبير ذاته، تم عبر مسرحة القصيدة عبر حوار يدفع بحدث درامي مثير عبر النزاع بين الحرف والكلمة، بين وحدة التكوين "الحرف" ووعاء التعبير "الكلمة": (يقول الحرف للكلمة / أنا نبضك / انا الدم اللي في عروقك / أنا كلك) ص 105، فتثور الكلمة: (ترد الكلمة وتقوله / نسيت نفسك / دا انا الأرض اللي في مرايتي / تشوف رسمك .. يا حرف دا انت من غيري / تعيش وحدك) ص 106 "بتصرف"، ويتواصل الحجاج: (يقول الحرف يا كلمة / دا انا دراعك / بطبب جرحك الساكن / في أوجاعك .. دا يا كلمة زراعك وصناعك) ص 106 و 107 "بتصرف"، وترد الكلمة: (دا النبع اللي كان يدي / سنين قحطك / أنا يا حرف فسرتك / ووضحتك) ص 107، وتختنك القصيدة بأفق مفتوح كنت أرجو أن يكون خاتمة للديوان بطرح مجموعة من الأسئلة حول معاناة الذات الشاعرة: (لمين الفضل يا أهل الله / على التاني؟ / ومين عايش عشان غيره / ومين جاني؟ / وليه أكتب / ما دام الحرف بيعاني / وليه الكلمة وسط اللحن وجعاني؟) ص 108.

 

خالد جودة أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم