صحيفة المثقف

هستيريا مجتمعية

رشيدة الركيكيعيش كل إنسان على أمل "إن مع العسر يسرا"، معنى استقاه الإنسان من قيمه المجتمعية المشتركة، ليتعلم بعد ذلك كيف يضمد جراحه ويعافيها فتتقوى مناعته عند كل معاناة.

هكذا، تعلمنا فيما مضى من مجتمعنا "ما ضاقت إلا وفرجت"،وأن الشدائد تصنع رجالا، مثلما يجعل الألم اللسان فصيحا، والأكثر كلما ازداد ألمه ازدادت فصاحته. تعلمنا أن نواجه مصاعب الحياة بحزم انطلاقا من القيم والتمثلات المجتمعية السائدة اقتداء بمن سبقونا حين نصفهم بالشموخ والقدرة على التعالي وقهر الآلام، خصوصا وأننا نؤمن بأن الله لا يكلف نفسا إلا وسعها وأنه على قدر القدر يبتلى البشر.

تعلمنا و تعلمنا...لكننا اليوم تعالت صرخات الإنسان أينما حل بنبرة سخط على الأوضاع وكأنه لم يعد ما يبهج مع حرب المعيشة.

هو النقد اللاذع المميت والقاتل لكل الإرادات الإنسانية، بعد الجراح المجتمعية. وإن كان النقد دليلا على الرقي لكن رسالته تكتمل بالنقد البناء لا الهدام المدمر لكل القيم الإنسانية السامية.

هكذا يغوص الإنسان في البحر الميت دون قدرة على النجاة ويرجو الحياة من جديد بعد إعلان مراسيم الجنازة.

يسجن الإنسان في بحر الآهات وتنتقل كالنار على الهشيم لتشتعل وتتأجج من حيث لا ندري، بغضب فاضح قاتل لكل المبادرات.

هو الغضب ما يفسر حالات الرعب و الهلع المجتمعي والتخوف من المجهول بالتنبؤ بمستقبل معدوم، فترى الناس سكارى وما هم بسكارى في شكل هستيريا مجتمعية تتخذ من التيه المجتمعي أشكالا مفضوحة.

دعر وترقب تعكسه مواقع التواصل الاجتماعي تحكي وتعكس الفساد وتصور الشوارع وما يحدث فيها من سرقة، وضرب، وجرح، وقتل وانتحار، وانحلال  قيمي أخلاقي علائقي. هي حالة من الغليان لن تنطفئ إلا بانطفاء النار التي تحتها بروح جماعية.

هكذا لا تزال الحياة الاجتماعية تعيش نوعا من السخط والإحساس بالقهر والظلم المبرر،يجعلها تتمرد على كل القيم السامية والنظم الاجتماعية والقانونية والأخلاقية.

هي حالة قد يستعصي على من يعيشها أن يتأملها دون أن يصاب بعدوى اليأس المجتمعي بلغته المجسدة في كلمات أو سلوكيات تفضح إنسانا طالما تبجح بامتلاكه للعقل وقدرته على تنظيم حياته الاجتماعية،بوضع ضوابط لكل سلوك وسن دساتير تضع قوانين زجرية تعاقب من خالفها وأحل الفوضى بدل النظام، والجور بدل الظلم،ويبقى الاحتجاج حقا مشروعا ولكن له ضوابطه المتفق عليها عالميا وما ضاع حق من ورائه طالب .

هو العيش بشكل تعاقدي بين الأفراد داخل نظام واحد ومصير أوحد يجمعنا تحت شعار حريتي تنتهي عند بداية حرية الآخر، وأن الحق والعدل والإنصاف سيد المواقف في إطار القوانين الوضعية المتفق عليها باسم قانون الأغلبية.

العيش بشكل تعاقدي ما جعلنا نحل النظام محل الفوضى لتسفر عنه القيم الإنسانية النبيلة،هو ما خاطب في الإنسان إنسانيته فتحول إلى كائن ذكي بتحريك قدراته العقلية بدعوى من المجتمع الذي أصبح يِؤمن بأن زمن القوة والبقاء للأقوى عهد ولى وانقضى، خصوصا عندما تأكد الشخص أنه سينقرض في لحظة تفكيره بهذا المنطق،لا لشيء إلا لأن كل قوي هناك من هو أقوى منه،ثم أن التنظيم المجتمعي صار أعمقا عندما استحال العيش بعيدا عن المجتمع الدولي.

إنه قانون الغاب من يجعل البشر يحمل السلاح في وجه بعضهم، لا للدفاع عن النفس  مثلما تستعمل باقي الكائنات مخالبها ،و لكن الحقد والكراهية  من يحركها، لذلك لن تنطفئ ناره إلا بالقتل والتعذيب بأبشع الطرق،في صور لا إنسانية صادرة عن أوضاع إنسانية متراكمة بالغة التعقيد.

لقد اختلط الأمر على الإنسان ثارة يحمل السلاح الأبيض ليرقص تعبيرا عن الفرحة بنشوة حمل السلاح و الإحساس بالقوة التي لن تعكس إلا مخاوف ودعر حقيقي. ويبقى السؤال: هل المجتمع من فرض هذا النوع من السلوك،أم أن المسألة أخذت تنمو من زمن في الأوساط الاجتماعية بشكل تدريجي ولم نعر لها اهتماما؟

هل العنف دائما له ما يبرره؟ أم أننا جميعا كمجتمع يجب أن نناضل من أجل حياة أفضل

بالتربية بالحب بالإحساس بالأمان...؟

في زمن قريب كنا نعتقد أن حمل السلاح مرتبط بظاهرة المخدرات فقط، لكن على ما يبدو أن ثقافة حمل السلاح الأبيض بدأت تتجدر في مجتمعنا، حتى بدعوى حماية النفس من هجوم قد يباغتها: فمتى يعطي لإنسان الحق في إنهاء حياة إنسان آخر؟ متى يعطي الإنسان لنفسه الحق في تشويه الآخر؟

وسائل التواصل اليوم تعكس حقائق وتكشف بسخاء كبير سواء حقائق أو مغالطات محدثة ضجة عارمة تعكس صورا من الفساد، لكنها تفضح الناس وأسرارهم وتكشف عوراتهم بشكل ضارب لكل المعايير الإنسانية.

وسائل التواصل اليوم ساهمت بشكل كبير في نشر عدوى اليأس المجتمعي، وتقدم السخط والغضب لن تغدي العقول إلا بالإيمان بالعنف المضاد كرد فعل على كل أشكال العنف المجتمعي.

فمتى تحمل كل  أشكال الاتصال والتواصل على محمل الجد التحليل والنقاش للقضايا المجتمعية بشكل راق يخلو من الانفعال، وصرخات تكثر من صخب الحياة وضوضائها؟

متى سنتعلم تقديم المشاكل مع اقتراح الحلول؟ إلى متى سيظل المجتمع يقتات من دمه ويجد ضالته في الكثير من الفيديوهات الصادمة لكل تواجد اجتماعي إيجابي؟

كل المجتمعات تعيش أزمات، ومن الأزمات كما يقول التاريخ تبنى الأمم، بصمودها أمام الأمواج الهائجة. إلى متى سيظل العبث بالهوية المجتمعية والدينية كلما غضبنا؟

 ألم يحن الوقت لعودة الإنسان إلى طبيعته الخيرة المعطاء لكل الكائنات؟.

توالت الأحداث من يقتل بسبب العشق الممنوع، أو بدعوى البطالة والفقر، بينما الآخر يتعدى على حقوق الغير الذي يكافح في سبيل لقمة العيش ليغتصب حق الناس المشروع في الإحساس بالأمان في بيته وعمله وفي الشارع ليل نهار...

كل منا يعبر عن نفسه ضاربا عرض الحائط تواجد الآخرين و حقوقهم، تعالت صيحات من أجل الحقوق دون الحديث عن الواجبات، فأحس كل من يلتزم بالواجبات بنوع من القلق الوجودي.

ربما على الصيدليات أن تقفل في زمن لم يعد للأدوية مكانا ولم تعد تشفي أحدا، لأن الدواء لا يعالج الداء، وداء المجتمع هو أنيميا القيم الأخلاقية التي من شأنها تجعل الأفراد تستحي من الخطأ في حق الغير.

 أكيد أن القيم الأخلاقية هي من ستحارب الغش في المدرسة والفوضى في الشوارع واحترام خصوصية الغير والتحرش والسرقة و...

كلنا عيوب وعيبنا الأكبر أن نرى إلا عيوب غيرنا فقط، وكأنها آلية دفاعية نشعر من خلالها حالة من النقاء والصفاء الروحي. متى يصبح كل واحد منا يقوم بعمله على أحسن وجه بدون رقابة سوى الرقيب الداخلي؟

ما الذي يجعل بعض الدول تجعل بعض المحلات على الطرقات بدون مراقب والناس تشتري وتدفع الثمن في شكل تعاقد إنساني ساري المفعول، يدخل في منظومة القيم و في التركيبة السيكولوجية للأفراد ليعيش نوعا من التوازن الداخلي و الأمان المجتمعي.

 وإن كان حلما يراودنا بين الحين والآخر يبقى دائما حلما مشروعا.

 هكذا يحتاج كلنا لغذاء روحي قيمي داخل المجتمع سواء كحكومة أو كأفراد،بحيث لا أحد يرمي بالكرة لغيره،فالداء واحد والدواء أوحد،و لاشك أن الهستيريا المجتمعية أصابت الجميع بمظاهر مختلفة.

لم يعد يهمنا من بعضنا من يقيم شعائره الدينية فتلك علاقته بخالقه، بقدر ما يهمنا علاقته بالناس وتواجده الاجتماعي الإيجابي. فحتى الشعائر الدينية وجدت لضمان حقوق الناس وإحلال السلام بينهم، لا لتتحول العبادة إلى عادة خالية من عمقها كرسالة إنسانية سامية.

ربما وصلنا لمرحلة نريد فيها إنسان لا يؤدي أخيه الإنسان أو يحرمه من حقه في الحياة بأمان، ومن حقوقه المشروعة، فلن نختلف في كون جوهر الدين في الأخلاق:" إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق" فالدين معاملة،والعمل عبادة،فلسنا نعرف أي الأعمال ستدخلنا الجنة...

عموما كنا نحتاج لهذه المرحلة لوقفة بعد هذه الحالة الهسترية المكشوفة، لنغير نظرتنا المجتمعية للكثير من الأحداث والمفاهيم وندركها في عمقها،فلا ننتظر من أفراد اشتروا أصواتا من الذين باعوا ضميرهم أن يخدموهم،فالأمر سيان، فلا ننتظر شيئا لأن لا أحد يقدم المال لتقديم خدمة...

كلنا نشترك في الفساد ولا حل إلا بالعودة إلى القيم والدعوة لها في شكل تعاقدي وبرفع أصوات العقل بدل الغضب والسخط والتنكر لأرض نأكل من ثمارها،ونستنشق هواءها ونصطاف على بحارها، ونسقى من غيومها ونرفع أيدينا في اتجاه سمائها تضرعا لخالق الكون كلما قست علينا الحياة في لحظات هستيريا مجتمعية لن تزول إلا بالمقاربات التشاركية...

 

بقلم  رشيدية الركيك     

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم