صحيفة المثقف

أوجـه الإعـجاز الـمـصري في حـرب أكـتـوبـر

حسن زايدلو أن حرب أكتوبر كانت بين جيشين متكافئين، لما كان هناك حديث عن أي إعجاز، وكان الأمر سيقتصر فقط علي مجرد الحديث عن هزيمة أحد الجيشين، وانتصار الآخر. والكلام عن الإعجاز المصري في حرب أكتوبر، مرده إلي وقائع ومواقف جرت علي نحو معجز، أي : وقعت بصورة بخلاف ما تقتضيه طبائع الأمور، لو تم مد الخيط علي استقامته، أفضت إلي انتصار الجيش انتصاراً مظفراً.

الإعجاز هنا لم يكن في جانب واحد، دون بقية الجوانب، وإنما كان إعجازاً شاملاً لكافة الجوانب، تكشف بعضها، ولم يتكشف بعضها الآخر. ومن الجوانب التي تكشف فيها الإعجاز :

جانب الجندي المصري : وقد كانت المعجزة في هذا الجانب الإنساني تتمثل في أن غالبيته ـ وفقاً للنظام الهرمي لتركيبة الجيش المصري ـ من الجنود. وغالبية هؤلاء الجنود من الريف المصري، ممثلاً في القري والعزب والكفور والنجوع، أي أنهم في معظمهم جنود أميون، لا يجيدون القراءة والكتابة. والأمية هنا تعد حائلاً دون استيعاب تكنولوجيا الأسلحة الحديثة. فلو مددنا الخط علي استقامته لوصلنا إلي نقطة العجز عن التعامل مع هذه الأسلحة، تدريباً، فضلاً عن استخدامها في التدريب والمعركة.

هؤلاء الجنود تعرضوا لما حدث معهم ولهم أثناء حرب 1967م. حيث تعرضوا لضغوط نفسية وعصبية نتيجة الهجوم المفاجيء بالطيران والقوات البرية، وعدم وجود خطة للدفاع أو الهجوم المضاد، أو حتي خطة للإنسحاب وفقاً للقواعد العلمية العسكرية. وعدم وجود غطاء جوي من الطيران المصري يغطي عملياتهم، ويحيد سلاح الجو الإسرائيلي، ويحول دون مطاردتهم كما حدث، وترك أسلحتهم ملقاة علي الأرض في محاولة للتخفف منها، في ظل الإنسحاب العشوائي الذي صدرت الأوامر به من القيادة العسكرية. وقد تعرضوا بذلك للهزيمة النفسية، وضغوط نفسية وعصبية، تحول بينهم وبين الإستمرار في الخدمة، فضلاً عن عدم القدرة علي التجاوب مع أي برامج تدريبية لإعادة بناء وتجهيز القوات المسلحة.

وقد تبدت المعجزة في الجانب الإنساني للجندي المصري في تجاوزه للحالة النفسية والعصبية، وتجاوز أميته، واستمراره في الخدمة، وعدم تسريحه أو نهو خدمته طوال الفترة البينية ما بين الحربين. كما أنه تجاوز الفجوة المعرفية باستيعابه لتكنولوجيا العصر العسكرية، والتعامل معها، وتطويعها.

جانب التسليح المصري : حيث كان العالم في حينه منقسماً إلي معسكرين : المعسكر الشرقي وعلي قمته الإتحاد السوفيتي، قبل انهياره. والمعسكر الغربي وعلي قمته الولايات المتحدة الأمريكية. والدول ـ ومن بينها مصر ـ لم يكن أمامها مصدراً للتسليح سوي أحد المعسكرين. وقد كانت مصر تستورد أسلحتها من المعسكر الشرقي. وقد فقدت مصر معظم أسلحتها، بما في ذلك الطيران، أثناء حرب يونية 1967م. وقد كان المطلوب تعويض الأسلحة المفقودة، وإحلال وتجديد الأسلحة القديمة، وشراء أسلحة جديدة.

والإتحاد السوفيتي ـ شأنه شأن بقية دول العالم ـ يضع مصلحته في بيع السلاح في يد، ويضع مصلحته مع الجانب الآخر في اليد الأخري. وأنه لن يبيع إسرائيل بالكلية لمصلحة العرب، مهما بلغت صداقته معهم، وأنه لن يلعب في ملعب إفناء إسرائيل وإنهاء وجودها، كما كان معلناً كهدف استراتيجي عربي، وأنه لن يدخل معركة مع أمريكا خدمة للصديق العربي. تلك معايير إختيار السلاح الروسي المسموح ببيعه لمصر عدداً وجودة ومدي نيراني. ولذا كان معظم السلاح من مخلفات الحرب العالمية الثانية أو أحدث قليلاً، وهي في معظمها أسلحة دفاعية، وليست هجومية. وهي بذلك تراعي إبقاء مصر خلف إسرائيل بعدة خطوات، بل بخطوات واسعة في بعض الإسلحة.

وجانب الإعجاز من ناحية التسليح يتمثل في تجاوز الفجوة التسليحية ما بين الطرفين، وضمان التفوق أثناء المعركة، بطول جبهة القتال وعرضها وعمقها. وبالقطع يتجاوز ذلك عنصر التسليح إلي رفع كفاءة المسلح، واستخدام السلاح ليس علي نحو تقليدي، وإنما بأفكار من خارج الصندوق، وبعيداً عن الأفكار المعلبة. من مثل سد فتحات النابالم في قاع القناة بمعرفة سلاح المهندسبن العسكريين، وإحداث فتحات في خط بارليف بخراطيم المياه بدلاً من القنابل الذرية.

جانب العوائق : ويتمثل ذلك في عائقين، الأول عائق مائي يحول دون عبور المعدات والأفراد وهو قناة السويس. الثاني خط بارليف وهو الساتر الترابي الذي يتراوح ارتفاعه من 20 إلي 22 متر، بعمق 12 كم داخل سيناء بزاوية 45 درجة علي الشاطيء الشرقي للقناة. مزود بـ : 20 نقطة حصينة، علي مسافات تتراوح من 10 إلي 12 كم. كل نقطة بها 15 جندي، كل مهمتهم الإبلاغ عن أي تحركات مصرية، وتوجيه المدفعية ناحيتها. كما أنه مزود بمصاطب دبابات ثابته، وكذا فإنه كان مزوداً في قاعدته بأنابيب النابالم التي تضخ النابالم كي يشتعل سطح القناة في حالة أي محاولة للعبور من الجانب المصري.

ووجه الإعجاز في التغلب علي هذين العائقين بتدريب وتجهيز الجندي المصري للقيام بذلك، وفقاً لخطة التدريب المعتمدة. فكان يتعين التدريب علي عملية العبور بالقوارب المطاطية. وتخطي عقبة خط بارليف بصعود الجنود علي ساتر ترابي هار، مائل بزاوية 45 درجة، بارتفاع من 20 إلي 22 م، وهو يحمل فوق ظهره شنطة تحوي كل أسباب معيشته، وفي يده سلاحاً. وجري التغلب علي ذلك باستخدام القوارب المطاطية، وسلالم الحبال، وهي اختراع مصري مائة بالمائة.

وتخطي عائق القناة للأسلحة الثقيلة وسيارات القتال تمثل في التدريب علي تركيب الكباري العائمة، وتجهيز فتحات لها في خط بارليف عن طريق مضخات المياه، فضلاً عن سد فتحات النابالم في قاع القناة.

سبق كل ذلك العبقرية في إعداد خطة التموية الإستراتيجي، وتنفيذ عناصرها بكل دقة، سواء علي جبهة القتال، أو في الجبهة الداخلية، وخطة التمهيد النيراني التي أحالت الجبهة إلي جحيم سواء علي مستوي المدفعية أو راجمات الصواريخ، أو طلعات الطيران المتعاقبة. كل ذلك لمنح فرصة للقوات لتنفيذ العبور تحت ساتر من النيران غير مسبوق.

ولذلك كانت حرب أكتوبر بمثابة الزلزال الذي أصاب إسرائيل. ولا زالت أوجه إعجازها تتجلي في الأفاق.

حسـن زايــد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم