صحيفة المثقف

الواجبات الدراسية المنزلية

محمد العباسيمنذ العهود الأولى من التجارب المدرسية ونحن نأخذ معنا إلى المدرسة كل صباح أثقال من الكتب والدفاتر والكراسات.. ثم نعود بعد نهار ممل من الحصص الدراسية الجامدة إلى بيوتنا مثقلين بما نتعارف عليه بمصطلح الواجبات المدرسية/ المنزلية (Homework).. وهكذا دأبنا نعمل بكلل وملل.. يوماً بعد يوم وسنة تلو سنة.. ونحن كل يوم نعيش ردحاً من الترقب وربما الخوف من العواقب الناجمة عن التقصير أو الإخفاق في إنجاز المهام الموكلة إلينا والواجبات المفروضة علينا.. فبعض العواقب فيما مضى كانت تتمثل في أشكالٍ متفاوتة من العقاب البدني أو الإذلال النفسي أمام الأقران.. ونتذكر جيداً أولئك المدرسين الغلاظ القلوب ممن إنعدموا الرحمة فكانوا يتفننون في معاقبة الطلبة المقصرين بالضرب بالعصي و"المساطر" وببعض الأساليب العنيفة "المبدعة" من العقاب البدني.. الأشبه بالتعذيب في المعاقل والسجون!

السؤال الذي يطرح نفسه هنا وفي ظل كل ما طرأ من جديد في عالم التعليم ومع التطور الهائل في أساليب التعليم الحديثة، هل الواجبات المنزلية الكثيفة جزءٌ من العملية التعليمية؟ أهي ضرورية مثلاً وهل نتائجها حقاً فيها تلك المصلحة التعليمية؟ أم هي مجرد أمر موروث من الأجيال السابقة ومن أساليب التعليم البائدة؟ بل ربما تكون هذه الواجبات نوع من الإعتراف الضمني من المدرسين بفشلهم في إتمام مهامهم في المدرسة وفشلهم في إيصال المعلومات بشكل صحيح ومتكامل.. أو ربما يعتقدون بأن الساعات الدراسية ليست كافية وأن حجم المناهج المفروضة يحتاج لمزيد من العمل الإضافي على حساب حقوق الأطفال الصغار بالذات بالتمتع بطفولتهم والراحة بعد ساعات من الضخ المتواصل للمعلومات التي تستعصي على أذهانهم اليافعة!

وقد تداول البعض مؤخراً موضوع التجربة "الفنلندية" من زاوية أنهم إستغنوا عن الواجبات المنزلية بشكل كامل.. وأن التجربة أدت إلى نقلة نوعية في تحصيل الطلبة الصغار وتفوقهم الملحوظ على أقرانهم في الدول المتقدمة.. وجل الفكرة هي أن المدارس في "فنلندا" وضعت نصب أعينها مصلحة الطفل وحقه في ممارسة طفولته في المقام الأول.. وفي هذا الشأن كتب "د. سعيد بن سليمان الظفري" (صحيفة الحدث الإلكترونية) شارحاً أن من أبرز عناصر قوة نظام التعليم الفنلندي هو إتباع منهج التعلم المتمركز حول الطالب، وهو مبدأ تربوي نفسي مهم جدا؛ بحيث يصبح الطالب هو العنصر الأساسي الذي يحرك العملية التعليمية التعلمية.. وهذا المبدأ ليس محصورا بطريقة التدريس التي يتبعها المعلم في داخل الفصل الدراسي فقط، بل يتجاوزه إلى كل ما يحيط بهذا الطفل، من مثل أن يكون حراً في ممارسة مختلف ألعابه ونشاطاته الحركية التي تناسب مرحلته العمرية.. ومنها أن يتم التخطيط لمكان لعبه ويستشار في ذلك من قبل المهندسين لمراعاة حاجاته وحركاته، وتصوراته، وطموحاته، وهذا بحد ذاته يزرع الثقة في نفوس الصغار مبكراً في مراحل دراستهم.. بالإضافة إلى جعل الطالب جزء مهما من عملية التدريس التي يمارسها المعلم، وهي ما نتعارف عليه بالتعلم باللعب أو التعلم بالفعل.

ويضيف الدكتور "الظفري" إلى ذلك أن ما جاء من عناصر نجاح النظام الفنلندي هو النظرة الشاملة لشخصية الطالب، وقد ظهر ذلك في إجابة معلم الرياضيات عندما قال: "نريد أن نعلمهم ليكونوا سعداء".. وكذلك قول معلمة الفصل: "يجب أن تكون المدرسة هي المكان الذي تجد فيه سعادتك ومكاناً لإستكشاف الأشياء التي تسعدك".. في حين علق معلم الرياضيات أنه معلم للرياضيات ولكن هدفه الأول هو سعادة الطالب.. ومثل هذه الإجابة تنم عن مبادئ أخرى تربوية ونفسية ترعى بالشخصية المتكاملة للمتعلم، بحيث يجب مراعاة مختلف الجوانب النفسية، والجسمية، والعقلية، والإجتماعية، والعاطفية، وغيرها من جوانب شخصية المتعلم، وعدم حصر إهتمام المعلم بجانب معين دون آخر.. ونعلم من خلال البحوث الحديثة كيف أن الذكاء العاطفي مثلاً، كأحد مظاهر النمو أو سمات الشخصية، يلعب دوراً كبيراً جدا في نمو شخصية الطالب، ونجاحه، وتفوقه، وقدرته على إكتساب المعارف والمهارات المختلفة. كما أن هذه الملاحظة التي أبداها معلم الرياضيات تدل على مبدأ مهم من مبادئ التربية وهو الربط بين خبرات الطالب والمادة التعليمية.. فالمعلوم أن الرياضيات تعد من أصعب المواد على الطلاب في مختلف الثقافات، فإذا ما إعتنى المعلم بهذه المادة بحيث تصبح جزء من حياة هذا الطالب، وصِلتها واضحة بحياته اليومية والربط بين موضوعاتها وحياة الطالب يكون ربطاً هادفاً يحمل معنى، ويعطي قيمة لهذه المادة؛ عندئذ يدرك الطالب أهمية هذه المادة.. ونظريات علم النفس، كنظرية القيمة، والتوقعات وغيرها من نظريات الدافعية تؤكد على هذا المبدأ، لذلك عندما يعتني معلم الرياضيات بالسعادة فإنه يعتني بكيف تكون هذه المادة سبباً في تحقيق سعادة هذا الطالب، وأن يكون الطالب سعيدا عندما ينشغل بحل المشكلات الرياضية، وكل ذلك حري أن يدفع بالطالب إلى الإندماج مع المادة والإستمتاع بها، والتفوق فيها.

بل لست أبالغ هنا إن قلت بأن أغلب هذه الواجبات المنزلية في أنظمتنا التعليمية إنما هي بمثابة عذاب وفيه الكثير من الضغط على أولياء الأمور، بالذات على الأمهات.. فهن اللاتي يقع عليهن العمل على إنهاء تلك الوظائف لأبنائهن في البيت لعدة ساعات كل يوم.. وكم سمعنا منهن الصراخ والعويل والتهديد.. وربما القسوة على الأطفال الصغار تحت طائل الرغبة في إنجاز ما يمكن من واجبات ثقيلة.. وفي أغلب الأحيان قد لا تكون الأم ذاتها مؤهلة لهذا الدور ولا هي ملمة بحيثيات المادة العلمية ولا متطلباتها.. وتكون جهودها في غير مكانها وربما غير مجدية، هذا إذا لم نقل بأنها ضارة وعكسية على االتحصيل المرجو من هذه العملية! وربما سيوافقني البعض بأن في أحيان كثيرة هن الأمهات من تقمن بحل الواجبات كاملة كسباً للوقت وتوفيراً للجهد الضائع!!

وهكذا نجد أن الكثيرين من الطلبة يعتمدون على الغير منذ الصغر.. وحين يكبرون ويدخلون الجامعات ويغيب عندها دور الأم وكفاحها، فنجدهم يلجئون لشراء الواجبات والبحوث الجاهزة لأنهم في الأساس غير مهيئين للقيام بواجباتهم من تلقاء أنفسهم.. وما أكثر المكتبات والمطبعات ودور الترجمة في أوطاننا التي تبيع البحوث الجاهزة.. وإعلاناتهم كثيرة دون أي حياء وفي غياب تام للرقابة على مثل هذه الممارسات الخاطئة.. ولا من حسيب ولا رقيب.. وهكذا ينشأ بيننا خريجون جامعيون تكون بحوثهم العلمية كلها عبر هذه الممارسات.. بحوثهم "مسروقة" و"منسوخة" و"مشتراة" من "سوق تجارة البحوث الجاهزة".. وحينها تكون درجاتهم الدراسية غير واقعية ولا تعكس جهودهم الذاتية ويكون تحصيلهم التعليمي منقوصاً وخبراتهم ليست ذات جدوى وغير نافعة.

و تقول الأستاذة "فاطمة البلوشي" (جريدة الأيام الإلكترونية) أنه بالرغم من أن الحصول على المعلومات وإجراء البحوث العلمية بات أكثر بكثير من السابق في ظل التطور التكنولوجي، إلا أن العديد من الطلبة أصبحوا يلجئون لنقل ونسخ المعلومات، أو شراء البحوث الجاهزة سواء من المكتبات أو عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي، وفي كثير من الأحيان يتم استغلالهم ماديا بهدف الربح المادي. بل وتتعدد الأسباب لدى الطلبة حيث قد "يلجأ الطالب لشراء البحوث الجاهزة بسبب ضيق الوقت وكثرة الاختبارات والامتحانات، فضلاً عن كثرة طلبات المشاريع والبحوث، وبالتالي يشعر الطالب أنه تحت ضغط كبير فيلجأ لشراء البحوث الجاهزة.. فضلا عن عدم ثقة الطالب بقدراته، وخوفه من أنه لن يتمكن من إجراء البحث بنفسه، وتوقع أعضاء الهيئات الأكاديمية بأن مستوى البحث الذي سيقدمه الطالب احترافي".. وكذلك يكون الوضع ناتجاً عن "عدم الإلمام بمحتوى المقرر، أو عدم تنظيم الوقت من قبل الطالب علاوة على أن الطالب لا يشعر بأن البحث الذي سيجريه سينعكس عليه بالفائدة ولا يشعر بأهمية إجرائها".. وقد يتعذر البعض "بعدم إلمامهم بالمادة البحثية المطلوبة، وقد لا يجد الطالب الوقت الكافي لعمل البحوث بمفرده فيقوم بشرائها".. وتضيف الأستاذة "فاطمة" مؤكدة أن عزوف المجتمع بشكل عام والطلبة بشكل خاص عن القراءة والاطلاع أدى إلى نفورهم من عمل البحوث.. وأضيف بدوري هنا أنه ربما تكون من أهم الأسباب التي تؤدي لكل هذه العمليات هي عدم تعود الطلبة في مجتمعاتنا على الاعتماد على الذات منذ الصغر، كما أسلفت في بدايات هذا المقال.. فما يتم بناءه على باطل منذ النشأة الأولى تترسب في عقليات طلبتنا الصغار حتى الكبر.. وتنمو معهم كل السلبيات المنبثقة عن تجاربهم الأولى طوال حياتهم المستقبلية! فجل البحث عند البعض هو البحث عن بحوث جاهزة لنسخها بالقطع واللصق!!

 

د. محمد العباسي - أكاديمي بحريني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم