صحيفة المثقف

القصة القصيرة جدا ورهان الحداثة

عمار ابراهيم عزت1- عالمياً ظهرت القصة القصيرة جدا قبل قرن وأكثر، فتراوحت بين القبول والرفض والتردد، وأقبل عليها كتاب عالميون، مثل: إدغار آلان بو، وهنري، وسافي، وناتالي ساروت، وآلان روب غرييه، وصموئيل بيكيت، وميشيل بوتور، وكلود سيمون، وغيرهم.

2- عربياً وعراقياً: بالغ بعضُ النقاد بأنْ جعل القصة العربية القصيرة جدا امتداداً للفنون السردية التراثية، بخلاف مَن اجتهد في إثبات الأصل الغربي لهذه القصة، مُنْكِراً أيَّ صلة محتملة لها بجذور القص التراثية. على حين ذهب فريق ثالثٌ إلى تبنّي موقف التوفيق بين الرأييْن المتقدمين، فأقرّ بتأثر القصة القصيرة جدا لدى العرب بنظيرتها في أوربا وأمريكا، وبالرواية الغربية الجديدة في فرنسا وغيرها، مؤكدا – من جهة أخرى – فرضية تأسُّسها على جوانب من موروثنا السردي الزاخر، ممثلاً في الخبر والنادرة وقصة المثل ونحوها.

ولعل الأرجح إن القصة بوصفها جنسا أدبيا له حدوده القارة هي من انتاج الوعي المعاصرة بالقصة، ابداعا ونقدا، وإنّ توفر بعض مقومات القصة القصيرة في الموروث الأدبي لا يكفي بأن نطلق عليها قصة. إذ يمكننا القول دون حرج إن (كليلة ودمنة) لابن المقفع، أو كتاب (البخلاء) قد امتلاكا بعض عناصر القصة: (الحكي والوصف، الراوي والمروي له، الحدث، الشخصيات)، لكن لا يمكننا الادعاء إن الكتابين المشار اليهما ينتميان الى القصة، لسبب بسيط يتلخص في (الوعي) بجنس القصة القصير و(القصدية) في انتاجها.

 يمتلك القاص المعاصر وعيا قبليا بالقصة: شروطها، حدودها، تقانتها السردية، لذا فهو يجنس عمله الإبداعي بوصفه (قصة قصيرة جدا)، أما الكاتب في تراثنا العربي فإنه يكتب عفوا وفقا لتصوراته الشخصية لحدود ما يكتب. هذا وغيره كان سببا في تباين الأساليب وطرق معالجة الموضوعات المختلفة بين كاتب وآخر، فضلا عن فردانيتها عند ابن المقفع أو الجاحظ أو ابن العميد أو الهمذاني على سبيل المثال. إذن (الوعي والقصدية) هما الفيصل الحاسم في تحديد ما إذا كان العمل الإبداعي المعاصر أو التراثي قصة أو ليس بقصة، لا مدى اقتراب العمل من القصة أو ابتعاده عنها.

لقد استقت التجارب الروائية العالمية قبل العربية بعض تقاناتها السردية والموضوعية من (ألف ليلة وليلة). الا إن ذلك لا يتيح لأي ناقد عالمي أو عربي أن يقول إن (ألف ليلة وليلة) هي رواية، وإن الرواية العالمية أو العربية قد تطورت عنها لقصدية مانعة من أن يكون كتاب (ألف ليلة وليلة) قد قصد من تأليفه انتاج رواية، خلافا للرواية بوصفها فنا معاصرا، فإن الروائي يكتب روايته وفقا لوعي سابق بجنس الرواية: حدوده وغاياتها.

إن التجارب الواضحة للقصة القصيرة جدا في العالم العربي كانت في أواخر القرن العشرين وبلغت أوجها في بداية الألفية الثالثة في دول عربية عديدة. أما انبثاق القصة القصيرة جدا في العراق تأسيسا وتجنيسا كان مع جيل السبعينات من القرن الماضي. ذلك مع حمدي مخلف الحديثي كما في:( تخطيطات)، و( قضايا)، و( قضايا ثانية)، و( قضايا ثالثة)، و(حالات برسم الربيع)، وهيثم بهنام بردى في: (حب مع وقف التنفيذ)، و( الليلة الثانية بعد الألف)، و(عزلة أنكيدو)، و(التماهي)، ومحمد سعدون السباهي في:(50 قصة قصيرة جدا)، وفرج ياسين في: (واجهات براقة) و(رماد الأقاويل)، ووارد بدر السالم في مجموعته القصصية:(المعدان)، وفؤاد ميرزا في: (مدن الدهشة)، و( النبوءة)، و(تجريد)، وإلياس الماس محمد في الكثير من قصصه القصيرة جدا، وعبد الواحد محسن في: (تقاسيم على مقام المخالف)، وعادل كامل في الكثير من قصصه القصيرة جدا، وعبد الستار البيضاني، وطلال حسن، وسعد هادي، وسمير إسماعيل، وأدهام محمد حنش، ومحسن ناصر الكتاني، وشوقي كريم حسن، وحميد المختار، ونجمان ياسين، وميسلون هادي وغيرهم.

 كما حظيت باهتمام النقد النقاد العرب والعراقيين منهم في مجموعة إصدارات منها لأحمد جاسم الحسين في كتابه:(القصة القصيرة جدا)، ويوسف حطيني في كتابه: (القصة القصيرة جدا بين النظرية والتطبيق)، وجاسم خلف إلياس في كتابه: (شعرية القصة القصيرة جدا)، وسعاد مسكين في كتابها:( القصة القصيرة جدا في المغرب: تصورات ومقاربات). وعبد العاطي الزياني في كتابه:(الماكر وتخييل في القصة القصيرة جدا بالمغرب)، وعبد الدائم السلامي في كتابه: (شعرية الواقع في القصة القصيرة جدا)، و(القصة القصيرة جدا في العراق) لهيثم بهنام بردى فضلا عن المقاربات النقدية المهمة للدكتور جميل حمداوي.

ويعد العراق كما في شعر التفعيلة صاحب البيان الأول لقصة القصيرة بعد نضوجها وازدهارها في التسعينات وهي فترة الاستواء والاكتمال، وفترة كثرة النشر والطبع، ومرحلة تأسيس الجماعات والبيانات كجماعة البصرة أواخر القرن العشرين التي تضم: قصي الخفاجي، وكاظم الحلاق، ومحمد عبد محسن، وكريم عباس زامل، ونجاح الجبيلي... وقد أصدرت الجماعة بيانا تحت عنوان: " مختبر جماعة البصرة أواخر القرن العشرين. أنساق القصة القصيرة جدا- إضاءة الرحلة- هواجس التجربة"، أكدوا فيه أن: "القصة القصيرة جدا بالذات نكتبها بنار الجسد، فهي حقيقة حسية مثلها مثل أي حمامة تنزع ريشها، وتصطفي بنار الحقيقة، وعادة يمثل لدينا النجاح الفردي خيبة وكارثة إزاء البؤر المشعة للجماعات الحضارية التي تحمل مصابيح الرؤيا الخالدة لحضارات الشعوب". يتبين لنا بأن هذا البيان هو أول بيان عربي للقصة القصيرة جدا، كما يؤكد للكاتب العراقي هيثم بهنام بردى.

فنيّا: تعرف القصة القصيرة جدا بأنها "جنس أدبي حديث يمتاز بقصر الحجم والإيحاء المكثف والنزعة القصصية الموجزة والقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلا عن خاصية التلميح والاقتضاب والتجريب والتركيب الجملي القصير الموسوم بالحركية والتوتر وتأزم المواقف والأحداث"، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار. كما يتميز هذا الخطاب الفني الجديد بالتصوير البلاغي الذي يتجاوز السرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي ضمن بلاغة الانزياح والخرق الجمالي.

أما دواعي ظهورها فتعزى الى امرين وهما:

1- داعٍ زمني لأنها بنت عصر السرعة من جهة أولى، والشك ومساءلة الأيديولوجيات واليقينيات والمعارف المنافية لإنسانية الإنسان وطبيعته. تسائلها وتخلخلها وتزرع القلق والشك فيها لتقول حقيقتها التخييلية من جهة ثانية. وهي بنت عصر التشظي وانكسار الأنساق والاكتمال والوضوح.

2- داعٍ فني يتعلق بطريقة اشتغالها ومقوماتها (القصصية والكثافة) التي عرضنا لها سابقاً.

لقد استخدمت تسميات عدة لمثل هذا النوع من الكتابة، منها القصة الومضة والقصة القصيرة جداً والأقصوصة واللوحة القصصية وكذلك المقطوعة القصصية، ولعل أشهرها، في الدراسات النقدية العربية الحديثة، هو القصة الومضة والقصة القصيرة جداً أما في الدراسات النقدية المكتوبة باللغة الإنجليزية، فإلى جانب التسميتين السابقتين نجد أيضاً مصطلح micro) fiction)، ويمكننا مقاربته عربياً بمسمى القصة المتناهية القصر أو المتناهية الدقة.

 هذا المصطلح رغم محدودية انتشاره، هو الأكثر تعبيرا عن هذا الجنس الادبي الذي يقف معه الزمن على مشهد واحد وفي لحظة زمنية تكون خاطفة وحافلة بالدلالة وبرؤية العالم المعلنة او المضمرة في دلالات النص العميقة. اذ تختزن ذاكرة القصة القصيرة التفاصيل الدقيقة جدا مقارنة بالأنواع السردية الاخرى ذات الإيقاع الزمني المتعدد والطويل ومنه الرواية على سبيل المثال.

 اشتراطات التجنيس:

من التسمية: يعد النص قصة قصيرة جدا إذا اشتمل على عاملين وهما (القص) وهو سمة أساسياً و(القصر) وهو سمتها الثانية التي لم يتفق عليها حتى اللحظة فقد تكون القصة القصيرة جملة واحدة عن البعض وقد تتعدى 5000 كلمة عند آخرين ومنهم من يشترط عدم قلب الصفحة، في الوقت الذي يعد بعضهم عدة صفحات قصة قصيرة جدا. أما اشتراط كونها تبنى من الجملة الفعلية فذلك لأن الجملة الاسمية واصفة غالبا وان القص يبنى من تنامي الحدث وتوتره واي حدث لابد ان يكون له فاعل. من هنا تكون الجملة الفعلية أكثر فاعلية في انتاج المبني الحكائي المعبر عن الحدث المشهدي في القصة القصيرة جدا. لكن هذا لا يعني اهمال الوصف فهو النصف الاخر والمكمل للوحة السردية وهذا ما نلاحظه في قصة:

(نزوح) (لمنتهى عمران العيداني)

 "في ذاكرته الكثير من اللقطات المدهشة. كم أوجعه أنه لا يملك كاميرا جاره الأعمى. التقط بعضاً من قمامة جاره الغني وحوّل اللقطة إلى لوحة."

 اعتمدت قصة (نزوح) على ترهين السرد في مشهدين وصفيين، (في ذاكرته .... كم اوجعه)، اذ ينتزع الراوي العليم معاناة شخصيته ذهنيا (الذاكرة) ونفسيا (كم اوجعني). أما التوتر القصصي فينتج من لعبة لغوية ذهنية جسدتها الجملة الفعلية (التقط بعضاً من قمامة جاره وحول اللقطة الى لوحة). اذ يتعاضد فعل الالتقاط مع اللقطات المدهشة المختزنة في الذاكرة مع الكاميرا التي لا يمتلكها مع اللوحة المتخيلة فتنتج دلالة عميقة يفجرها النسق المفارق للتشكيل السردي تفضح معاناة، هذا، شخصية الهامش (النازح). كما يشي المسكوت عنه في القصة عن إدانة مضمرة للمركز المسؤول عن مقدرات هذا الهامش وحياته.

ولا تختلف قصة (ملح البحر) ل(هبة الله الركابي) في معالجتها لراهن الاحداث فمن النزوح الى الهجرة غير الشرعية والبحث عن الوطن البديل من خلال شخصية ستتجرد من كل شيء عدا ذكرياتها العاطفية وبقايا وطن في لعبة سردية مزحت بين الوعي واللاوعي لإنجاز رسالتها المعلنة والمضمرة على حد سواء، اذ تقول :

"بعد عودته من عمله، وعلى غير عادته غفا وسط ضجيج أصوات أولاده وتذمر زوجته، سبح في بحر النوم ودفء أسرته يحيط به. سرعان ما قطع غفوته صوت قبطان ذلك الزورق المتهالك: تخلصوا من حقائبكم لكيلا نغرق جميعاً) ليجد نفسه يتخلص من كلّ شيء، سوى قلبٍ وبقايا وطن! ".

أما قصة (سلوكٌ) للقاص (أثير عبد الزهرة الغزي)، فإنها ترصد ردة الفعل دون التصريح عن الفعل الذي يدعو الى الخوف والترهيب والهرب. إنه الواقع المأزوم المنتفخ بالمفاجآت المرعبة والمهلكة التي تتكرر أمام أعيننا يومياً في مشهد مستعاد. هنا ينجز السرد (الصورة الكائنة) من خلال (الصورة الكامنة). بتعبير اخر يصور الظاهر من خلال الباطن، والفعل (الخوف والهلع) من إرهاب الواقع من خلال رد الفعل (سلوك الهرب) وهو عمل تجريبي مارسته القصة القصيرة جدا.

"كنتُ جالسًا قربَ إحدى الأشجارِ، اقرأُ الصحيفةَ بهدوءٍ فإذا مشهدٌ يهزُّ كياني. الجميعُ يسيرُ مندهشًا خائفًا إلّا أنا يا إلهي ما الأمر !! انتفضتُ من مكاني .. تعثرتُ من أولِ خطوةٍ الخطوةُ الثانية .. الثالثة ... رميْتُ صحيفتي وهربْتُ! ".

 

  عمار إبراهيم عزت

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم