صحيفة المثقف

قصيدة النثر بوصفها نصا تهجينيا مفتوحا عابرا للأجناس

عمار ابراهيم عزتنزعة التمرد في قصيدة النثر: ان الشعرية العراقية، كما هو معروف عنها، هي دائمة النزوع نحو الاكتشاف والتجريب والمغامرة والبحث عن أنماط واشكال وتجارب وتيارات شعرية جديدة. ولعل واحدا من أبرز مخاضات التجريب هو (قصيدة النثر)، وبالرغم من أن قصيدة النثر العربية عموما والعراقية تحديدا لم تكن ملتزمة بسياق النمو الشكلي والرؤيوي لمثيلاتها في الثقافتين الانكليزية والفرنسية، قدر ارتباطها بالحاجة التعبيرية والأفق المعرفي للشعر العربي في مرحلة من مراحل تطوره وتشكله. غير انها تبنت المقولات النقدية الأوربية المحددة لسمات قصيدة النثر والمتمثلة بأربعة عناصر وهي: (الإيجاز، الكثافة، اللاغرضية، اللاادعاء). الا ان واقع الحال يدل على ان التجارب الشعرية المتعاقبة كانت تدور حول مفهوم (الإنثيال لا الإيجاز)، و(السرد لا الكثافة)، ولكن من الممكن أن نزعم التزامها بضرورة اللاغرضية واللاادعائية.

ان أهم تحد واجهه شعراء قصيدة النثر هو: " كيفية تقديمها كرؤية تحويلية وشكل تثويري ينفض غبار الثبات والمراوحة ويبحث عن المتغير والمستحدث واللامألوف، فكانت تلك بداية سماتها ما بعد الحداثية التي عدت أول الأمر عقوق الأبناء على الآباء والخروج عن الصف والانسلال عن الإرث والأصل" (د. نادية هناوي: قصيدة النثر في العراق، عشبة البشارة)

فقصيدة النثر"تمثّل صورة للتمرد على هيمنة النمط الشعري التقليدي، فضلا عن كونها تعبيرا عن التفاعل مع الاشكال الأدبية المهاجرة، والتي تحوّلت الى غوايات ومؤثرات انعكست كثيرا على الوعي الثقافي، والشعري منه بشكل خاص) (علي فواز قصيدة النثر العراقية الملتقى الثالث في البصرة).

لقد اصطدمت محاولات تقعيد قصيدة النثر بوصفها جنسا أدبيا له حدوده القارة بمعوقات أهمها تماهي الحدود الفاصلة بين النثر والشعر وكثرة تعريفاتها، وربما يكون تعريف (عز الدين المناصرة) هو الأقرب لكينونتها اذ يصفها بأنها:

"نصٌّ أدبي تهجيني، مفتوحٌ على الشعر، والسرد، والنثر الفني، عابرٌ للأنواع، يفتقد إلى البنية الصوتية الكميّة المنظمة، لكنه يمتلك إيقاعاً داخلياً غير منتظم، من خلال توزيع (علامات الترقيم)، و(البنية الدلالية)، المركبة على بنية التضاد، و(جدلية العلاقات) في النص، التي تخلق الإيقاع الخفي":( عز الدين المناصرة: قصيدة النثر كما هي).

السرد وقصيدة النثر

"تقدم قصيدة النثر في العراق أمثلة ونماذج عديدة للإفادة من السرد الذي احتل موقع البؤرة النصية، أو المهيمنة سواء في فنيتها ككتابة، أو في جمالياتها، كتلقٍ واستقبال، إذ تتخلص القصيدة من غنائية الشعر التقليدي بالهروب عبر التقنيات الممكنة ومن أبرزها السرد الذي لا يتوقف عند التسميات والشخصيات والوصف ولكن ينطلق من واقعة أو حادثة ويقوم بتطويرها. وهذا يكسب قصيدة النثر العراقية سمة الحزن والألم وتنويعاتهما اغترافا من واقع مكتظ بالأحداث والوقائع الكارثية والفواجع والكوابيس التي قد لا تتطابق وافتراضات أي منطق عقلي؛ فيمتزج الخيال هنا بمفردات الواقع وتتحول البنى السردية من نويات متناثرة في الخارج إلى نصوص تتراتب وقائعها في انتظام جديد". (حاتم الصكر: قصيدة النثر في العراق: المرجعيات الفاعلة والهيمنة الموضوعية)

النقد وقصيدة النثر

مما تقدم تتجلى صعوبة مقاربة قصيدة النثر نقديا لأن شروط قراءة نص أدبي لا تختلف عن شروط كتابته التي تستدعي أدوات خاصة في الجنس المكتوب أو المقروء، وهذا الاستدعاء ناجم عما يسمى ب (عقد القراءة)، فعقد قراءة نص عمودي او قصيدة حرة يختلف عن عقد قراءة نص قصيدة نثر، فكل قراءة تستدعي مفاهيم خاصة بالجنس وأدوات خاصة تفكك شفرات النص وتكشف أساليبه ومعانيه، غاياته ومقاصده. ولأن تجربة قصيدة النثر تتعلق بفرادة كاتبها نتيجة لعدم وجود المعيار الصارم المحدد لجنس الكتابة، فأن النقد ظل عاجزا عن مواكبة التجارب الإبداعية لسعتها زمانيا ومكانيا فضلا عن تعدد اتجاهاتها واساليبها ورؤاها النظرية والتطبيقية.

غياب الحدود ومجانية التعبير والاتكاء على مقبولية القارئ وتفاعله مع النص المنشور وبالأخص في الميديا ومواقع التواصل خلق جيلا من الكتاب تراوحت كتاباتهم بين الومضة الشعرية والقصة القصيرة جدا والقصة القصيرة والخاطرة الأدبية بل ويتعداها أحيانا الى النثر اليومي، ولا تعسف إذا قلنا إن قليل مما ينشر ورقيا او ألكترونيا ينتمي لقصيدة النثر بوصفها قصيدة تحمل هم الواقع وتحديات المستقبل وأحلام الانسان المستضعف الذاتية والموضوعية.

مقاربة نصية لقصيدة النثر

يعد ديوان (تضاريس موشومة بالاغتراب)، هو الديوان الأول للشاعرة العراقية (ميادة العاني)، إضافة عددية ونوعية. عددية للشعر النسوي مقارنة للشعر الذكوري الذي يتصدر المشهد، ونوعية مقارنة بالنتاجات الإبداعية للشاعرات في مدينتها الناصرية وفي العراق. وبالرغم من صعوبة الإحاطة بسمات شاعرة بالعودة الى ديوان واحد فقط، لأن التجربة، للأسف، لن تكتمل الا بوفاة المبدع مادام المبدع يختبر شعره في بوتقة التجريب فيضيف اليها ويحذف منها، يشذب نصا من زوائده أو يطعمه بما يثريه، أو يلبسه معطفا غير معطفه. لذا ألتمس العذر مقدما لقصور قراءتي الانطباعية التي ستتخذ منحى وصفيا لا نقديا يتغلل في عمق البني التركيبية والنسقية.

محطات القراءة هي:

1- ثريا النص او عتبة العنوان (تضاريس موشومة بالاغتراب) وهو عنوان قصيدة اتخذته الشاعرة عنوانا لمجموعتها الشعرية. فالتضاريس بنية دالة على سطح الحياة وهي دلالة على نتوء الظواهر، والوشم علامة فارقة وهو صناعة بشرية لا فطرية ولا موروثة. تدل على وجود فاعل مؤثر عبث بالتضاريس وغير من طبيعتها. أما الاغتراب فهو انزياح لفظي نتج عنه بعد دلالي، فالاغتراب ناتج عن تبدل الأمكنة، وكأن الشاعرة تقول ان التضاريس التي عرفتها باتت غريبة عني بفعل قوة مارست عملية التشويه على ما الفناه من واقع.

2- اللغة: تنحى الشاعرة الى تفجير الدلالات الشعرية من خلال الإنزياحات اللفظية، والتكثيف التعبيري والابتعاد عن المباشرة في التعبير كقولها

" الوقت يشربنا

والأمكنة تفر من بوصلتها

سأمنحك نصف دزينة من الصبر".

3- الفكرة: إن قصيدة النثر هي تشييد عضوي متماسك في بنائه لا يمكن تجزئته الى مقاطع، فالدلالة تستخلص من كلية النص، وهذا ما عمدت له الشاعرة في بنائها لفكرة القصيدة، ففي قصيدة (آخر المرايا)، مثلا، تستدعي الذاكرة لتفيض بصور شتى تكون بمثابة (رسل الاشتياق). نجد هذا التنقل بين ذاكرة المكان والشخوص والافعال والحكايا فضلا عن اللقطات الجامدة مما يعبر عن اليومي في الحياة محورا مهيمنا ودالا في القصيدة.

4- (الصورة الشعرية، المشهد، السرد) عناصر أساسية في بناء النص الشعري عند ميادة العاني، وهو ما يمنح الأجزاء المتباعدة ترابطها وانثيالها ببعد تصويري يتعقب الجزئيات ويوقف زمن حركتها في مشهد ابدي.

نماذج منتخبة من ديوان (تضاريس موشومة بالاغتراب)

(أيقونة الموت)

فوق التاريخ

ودون الذاكرة

ألف إصبع

يرمقني باتهام

يفقأ الدمع

في أزاهير الفوضى

يمنح أجنحته

أسئلة سوداء

يناقض ضياعه

ليقتات على بعض وجع

أورثته سلالاته الفارغة

أو حكمة مستعصية

غير قابلة للمغفرة

الندوب !!

تفتح ألف باب

أغلقته المنون

تعدها

وتعاود العد

ندبة ..ندبة

على أوتار

الأغنيات الصامتة

ينعطف بذاكرته رويدا

ينصب فخا لسرايا

مجده الزائف

يساور زليخات ظنونه

وينهض بطنينه

يفتح حيزا واسعا

في ثقب اقل ما يقال عنه

انه ثقب !!

ليس لك العناء

ليس لك التورط

فلم نعد أكثر من

قبعة وانحناءة

ودمعة بالكاد

تذرفها الأيام

تبكي طللا ً

سقط من ضفيرةٍ

أو شرشف ٍ ابيض

افتح لموتك

أيقونة جديدة

وتنح عنها

كي لا تصاب

بدهشة الزوال

***

(دعني أرتل خرائطك)

 

لا ترم ِ بك  !!

برجك العاجي

لا سلّم له.

الهاوية ليست فجوة

والأيام لم تولد بعد

لنعمد المآذن

بقباب الوقت

ونباعد بين الخطوات

وننتظر

محطات .. آفلة

***

بين كان وأصبح

مسافة أطول

من حرف

وعكاز ترفضه الخطوة

***

تلك الأزمات

تندسُّ مرغمة

بين العين والعين

دعني أرتل خرائطك

لا تقف طويلا

جوار التاريخ

إن عليه

أن يحتفي بنسيانك

***

لا تلتقطها

حَصَى الهفواتِ

مؤلمةٌ

ولتشقَّ السماءَ

بعصا المغفرة

***

وإذا جاء الليل !!

تطاير الأرق

عصفور موت

يقرأ التفاصيل الرخوة

فيسقط الحلم

في قاع الوجع

***

لا ترتشف الحزن

لا تتصيد نثار الأمس

فلكل خبر .. جهينة

ولكل ساعة ..مزول

***

(ظهيرة جرداء)

لك في ذمتي

ظهيرة جرداء

وحزمة

آهات طرية

تشتد بها القروح

فتسحبها ببطء

نحو غابات

الخمول الآثمة

تهز وحشة الليل

وأسرّته

صفرة الموت

لها رائحة

السراديب

ينوء المستحيل

عتّالاً بثقلها

فيرتد

حاملا على كتفيه

لاءات الحالة

وأنت ..!

يا من تحدق في

الزوايا المستديرة

لا تنسى ..

إن لي مدنا

أتوق إلى إحراقها

ولن التفت إلى الوراء

ولن أعاقر

نذورك المنسية

حين أهيئ العمر

أبداً

للرحيل .

وحين يأكل الفراغ

أصابعي ..

والليل يأكله الصرير..

وتظل الجريمة تنهش

في جسد العقاب ..

تنطلق من أحشائي كركرة ..

تفتح ألف باب

من الوجع

توحي ..؟!

بأنك .. لن تكون

والشمس !!

ستظل تشكو البرد

(عطر الفضيحة)

1..

لك !

أن تتأرجح فوق القافية

ولي !

 أن أتناول قطعة فجر

الجنائن مغلقة أبوابها

والضحى !

زمن لم نعتده

عند زاوية العصر

نشرب نخب خيباتنا

نثمل حد التمرد

فتستكين أقدارنا مرغمة

يتحاشانا زمن النبوة

قابعا في قبوهِ

تبكيه قبّرةٌ خرقاء

ويلعنه

عطر الفضيحة

2..

أحاول الفرار

من زمني

فتلتصق بي

براثن موحشة

أقف مكتوفة الكبرياء

أمام إنسان

له رائحة الماء

ولون كائن مطلق

يتسلل ..

من شرك المخادعة

كما ويوقظ في فمه

أصابع الرماد

ينزلق ..

نحو خاصرة

وقت مبهم

وعند زاوية الغياب

يفترش نهارات متأرجحة

يلفظه ضجيج

حبٍ فاشل

وثورة راء يملؤها

صلف ضريحٍ

لا تاريخ له

تتدلى أغصانُ ضياعِه

هاربةً من غد

فقد عذريتَهُ 

(ورقة مسافرة)

"النهاية تنمو في رحم البداية "

                                 (أسامة أنور عكاشة)

في ذروة الحلم !!

تنفجر اللحظات،

... وتتطاير في السديم .

نكثف الوجود في الأزمنة 

ونأمل أن تطول المسافة بين النقطتين 

فتكون الرحلة !!

اقصر من ومضة .

لا استوعب،

ابتغي الفهم ..

أهيل انثيالاتي في خطوط متواترة

... لقادمٍ غارقٍ في النقيض

يتصيد نثار ماضٍ،

... تمرد عليه

يخرج من حلكة الوعي،

ويجتاز إشراقة الانقياد

يبتسم،

يبرر متناقضاته،

يتناسى حكمته،

وتحت وطأة الكارثة،

يستسلم لقسوة النهايات .

يمر بعد ألف سنة

يبحث عمن أهداه خنجرا،

واستباح فصوله .

مر بي هاجس أن اقترب منه

غصة قلب ميت،

ضاع بين طرقات أمل منسي

 كارثة تمازجت خيوطها

...في مدارات الظن

طويت الأفئدة بين تاريخ،

ضلل البداية بعبث النهاية

يوقد حقده

يحقنه بالرضوخ

ويسال :

أهو الأجدر بالمستحيل ؟!

والمسافة بين البداية والنهاية

لا تتجاوز عمر فراشة

فهل هو الأجدر بالخلود ؟!

أتساءل،

وأنا أطلق عجزي

المدجج بالحذر

أ في العمر متسع لحلم

لا يشبه الحالمين  ؟!

وأتغابى في رش أسئلة مهلهلة،

في مساحة بين

الحلم

والحلم

أمارس عليها دوري

بجدارة

أ للوقت فرصة للانعتاق

من سجون الآفلين ؟!

 

لن انتظر الجواب

كي لا اكتشف كم الغباء

لحظة التصديق .

وأعاود !

لألقن الطفولة ..

بالاستسلام

وأعلمهم ..

إن اختراق النجم..

ترهات العاجزين

وأسراب الحمام ..

دموع على خد السماء

وأعاود !

لأمارس رذيلة .. التمني

أوصد عيني

*

احكم إقفالها

فتتسرب إليها قصيدة

كتبتها من خطوب

لك وحدك

دون العالمين.

 

عمار إبراهيم عزت

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم