صحيفة المثقف

المقامة السُكَّريّة

منير لطفيفي جَلسة صفاء قلّ أن يجود بها الزمان، حدّثنا كبيرُ الأطباء قال:

لمّا أوشك النهارُ على الرحيل ومالت الشمسُ إلى المَغيب؛ ساق اسماعيلُ أغنامَه وسحب جاموسَه وراءه، سائرا بمحاذاة المصرِف الكبير وناشدا داره على قارعة الطريق. فاستقبلتْه زوجُه بالترحاب وهنّأته بسلامة الإياب، ثمّ حرّرَته من المِنجل والفأس ونابَت عنه في العلْف والحلْب، أمّا هو فقد وضع جلبابه على عاتقه وعدّ خطواته إلى مسجده. وبعد ختْم الصلاة بالتسبيح والتحميد والتكبير، صافح الجلّاسَ ذات الشمال وذات اليمين، وركع ركعتيْن خفيفتيْن قبل أن ينطلق لا يلوِي على شيء؛ إذْ بلغ منه الطّوَى حدّ المسغبة وجفّ اللسان كأرض مجدِبة. وما إن جاوز عتبة الدار؛ حتى فاحت رائحةُ محشي الباذنجان مع ما بينه وبينها من أمتار، ولمّا كان لعابه قد سال كالأنهار وانتعشَت بمرأى المحشي الأنظار؛ هجم على الحَلّة من الميمنة ولم تَسلم منه الميسرة، بل توغّل في الأعماق غير هيّاب حتى وصل إلى القعر والقاع، ولم يُطلق للحَلّة السّراح إلّا بعد أن أفرغ منها الأحشاء وكفّت أحشاؤه عن الصراخ. ثمّ تناول للماء قُلّة قرَّبتْها حرَمه المصون وسرّه المكنون، فسكبها في معدته وجشَأ جشْأته، قبل أن يستدير إلى برّاد الشاي ويزيده من السكّر أطنان، ليحتسيه في تؤدة ومهل كنحلٍ يمتص الرحيق للعسل. وما إنْ حنّ جنبُه إلى الحصير وهمّت رأسه إلى النوم بالرحيل، إذْ بالعِشاء يؤذّن وبالآذان يجلجل، فغالَب الجسدَ المُتعَب والرأسَ المثقَل والبطنَ المتخَم، واصطفّ خلف الإمام الذي قرع منه الأسماع وتلا قولَ العلّام: "وكُلوا واشربوا ولا تُسرفوا". ولمّا قفل إلى الدار؛ ألقى نظرة على العيال وأعطى قفاه لأمّ العيال وراح يداعب الأحلام، ولكنه وعلى غير المعتاد استيقظ مسرعا إلى الحمّام ليفرغ مثانةً أوشكت على الانفجار، ثمّ عاود الكرَّة مرّات في ليلة كانت ليلاء، إذْ خاصم الكرى  عينيه وانشطر الليل شطريْن: شطرا يكرْع فيه الماء، وشطرا يحجّ إلى المرحاض!

يقول الراوي: ولمّا كنتُ بين مرضاي كالطاووس، أصول كأبي فِراس وأجول، وأوزِّع الابتسامات بالملِّيجرام والملِّيمول؛ لمحتُ اسماعيلَ يتكئ على زوجه ويتعثّر في مشيه، بل بدا عليه الذبول وعينه من محجرها تَزوغ، فبادرْته بالسلام والسؤال، وإن هي إلّا دقائق معدودات، وقد وخزْته في الإبهام بقلم دقيق أنيق لا وجع له ولا أنين، ثمّ سُقته إلى الخلاء وتحصّلتُ من بوله على بضعة سنتيمترات، كانت محلا للفحص والتدقيق. وفي باحة الانتظار جلس اسماعيل يُغالب الأفكار ويفكّ الألغاز ويضرب أخماس في أسداس؛ إذ كيف لعافيته تنهار بعد أن كان كالحصان في جرّ الأحمال؟! وكيف لرأسه تدور بعد أن كانت كالبندول في ضبط الأمور؟!  وكيف للكسل يحوطه بعد أن كان أبكر مِن فجر وأيقظ مِن شمس؟! ولَم يَطل به السؤال والتخمين، حتى جئته بالجواب اليقين؛ إذْ حلّ به داءٌ عتيد، فرَد أجنحتَه كالتنِّين؛ فنشب أظفاره في أربعمائة من الملايين، ولم يَسلم من سوطه صغير أو كبير ولا غني أو فقير. اسمه من السكّر لذيذ ولكنه بالإهمال شبح مُخيف؛ إذ تهزل منه الأبدان كأشجار الخريف وتلتهب الأعصاب كنار الحريق، كما تعتلّ مِن جرّائه الأبصار ويجرّ على الكليتيْن الوبال. وإزاء هذه اللكْمة بطعم النكْبة؛ أَطرق كمَن على مفرقه الطير ووجَم كمَن فقدَ أعزّ الأحباب لديه، ثمّ أفصح وأبان؛ فابتأس وامتعض وإلى الله اشتكى والتجأ، وما زاد على أن حوْقل وإلى ربِّه استرجع، وعزم مِن المحشي الظِّهار ومِن السكَّر الطلاق، ولا زالت زوجُه تواسيه وبالعافية تمنِّيه وبالعلاج  تُوصيه وباسم الله ترقيه، حتى هدأ منه الجَنان واستقرّ للفؤاد المقام، إذْ لا يُجدي مع قلم الأقدار إلّا الرضا والاستسلام. أمّا زوجه فكادت مِن الفرحة تطير ومِن الطرب تهتزّ وتميل، بعد أن أعتقها الله من المحشي اللعين؛ فمِن اليوم لا (خسخسة) ولا (تقوير) ولا (تدويل)، ولا خلطةً بصُنعها تنوء، عصبةٌ مِن أولي العقول، فيزيائيين كانوا أو كيميائيين وبيولوجيين! وصدق فيها شِعرُ أبو الطيّب إذْ يقول:

"بذا قضتِ الأيامُ بين أهلها،،،مصائبُ قومٍ عند قومٍ فوائدُ"

***

بقلم/ د. منير لطفي

طبيب وكاتب/ مصر

 

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم