صحيفة المثقف

حول: مستقبل قصيدة النثر

سهام جبارإجابةً على سؤال يفترض أن قصيدة النثر المكتوبة الآن ما زالت محافظة على أصالتها، وأن الفوضى لم تنتشر بعد وأن التخوّف قائم من مستقبل قصيدة النثر وحده، أجبتُ بأن الفوضى منتشرة حالياً في اطار كتابة قصيدة النثر وأنّ ما يُكتب باسمها لم تتم مراجعته على وفق ضوابط الابداع واشتراطاته، ولم يُدركُ جيداً نوع هذه القصيدة وامكاناتها التي يُمكن أن تتعدد الى ما لا نهاية في ضوء قدراتها الشكلية والدلالية والتركيبية المتعددة.

لقد كتبتُ سابقاً عبر مقالٍ نقدي بضرورة حدوث هذه المراجعة بتمرّس أدبي ونقدي لا بعشوائية، يتم خلاله فرز ما تحقّق ابداعياً وتحديده في ضوء تنوّع بيئات قصيدة النثر ومراحلها التاريخية المتعدّدة في العالم العربي. إن النتائج الدراسية التي يمكن أن تُستحصل من هكذا مراجعة قد تضيء في الأقل طرائق كتابة هذه القصيدة في العالم العربي (فنماذج قصيدة النثر مختلفة: الماغوط غير فاضل العزاوي مثلاً، سركون بولص غير أنسي الحاج، القصيدة لدى الثمانينيين تختلف عنها لدى أجيال ما بعد 2003).. الخ.

لو تأمّلنا المكتوب حالياً باسم هذه القصيدة لوجدنا تجاوزاً على شرط الحرية في كتابتها مثلاً، هذا الشرط الذي لا يعني التفريط بالمستوى اللائق للكتابة، فلا يظنّ العاجزون عن الكتابة على نحو صحيح أن الأمر متاح لهم لتصديق (الخواطر والنكات والترهات والتفوهات اليومية الدارجة وما الى ذلك) على أنه قصيدة نثر بداعي الحرية والتخلّص من الضوابط. كما لا يظنّ هؤلاء أن مجرد ادّعاء جرأة باقحام مفردات أو موضوعات لتبدو جريئة أنهم بذلك حققوا شرط الحرية هذا، انما هو أصحاب قوالب جاهزة لكن بألوانٍ برّاقة وسهلة للظهور.

لقد حدث أن شرط الحرية هذا جعل بعض مستغلّي هذه القصيدة، لدواعي الموضوع، يقومون بقتل القصيدة ومسخ كيانها بما يضاهي القتل الشائع في الحياة المعاصرة، فجاء القتل الشرهُ هذا بالادعاء والتسطيح والغاء اللغة بجعل القصيدة مثلاً أداءً حركياً فقط لا كتابة، أو اقحام مفردات القتل ومظاهره باستعراضية محاكية القتل على مستوى لا يسمح بتمثّلات معانٍ أو آفاق فهم أخرى ممكنة أو فتح مجال تأويلي وشعري واسع..

يمكن في بعض حالات هذا النوع من "الكتابة" (اذا ما سمحنا لأنفسنا بتسميتها كتابة أو انشاءً كتابياً محدّداً) أن ينجح في ضوء الوعي الممكن بالواقع بالمفهوم الغولدماني لكن المشكلة في الذهاب بالشطط الى أقصاه من تدمير وسادية ورجم الذات والحطّ منها على نحوٍ قصدي متعمّد ومسبق في ضوء المعاناة بالبلد، مما أتى بما هو بشع أو مؤذٍ ومحطّم لما هو انساني في موازاةٍ لضراوة الايذاء في البيئة المحيطة.

ان خصوصية قصيدة النثر تتضمّن الهدم بحدود متغيّرة أو نسبية لكن ينبغي أن يحدث هذا الهدم بوعي وتمكّن من الأدوات، لكن الذي أراه فيما يُكتب من نماذج تدّعي أنها قصائد نثر للأسف انما هو مماثل لما شاع في مراحل العصور المتأخرة بعد سقوط الدولة العباسية وانتشار الفوضى والتفرّق والتشرذم بانغلاق التجارب الشعرية على التجريب بما هو غير منتج شعرياً بل عقيم في ضوء تكراره على الحدود نفسها واعادة ممارسة فعل القتل في القصيدة أو استعمال أغراض وأشياء تدفع بخطابية القصيدة الى منتهاها في مسرحة مجرّدة قصيدة النثر من كتابيتها الى ما هو شفاهي منبري صارخ، بما يشابه النماذج المستهلكة للقصيدة كما لو انها وعاء للاستعمال في مثل هذا التأثيث أو الرسم أو فرش الدرب للشاعر لاظهار منبريته الاجتماعية التزويقية النائحة لتكون ملمحاً لمرحلة ما بعد سقوط الديكتاتوريات في العصر الحالي ونهوض سواها من أنواع مختلفة أو أخرى.

أضيف الى ما ذكرت عن الفوضى في كتابة قصيدة النثر الآن ومستقبلاً أثر التعامل مع وسائل التواصل الألكترونية وسطوة الانترنيت وانتشار السرعة والتهافت في النشر وضعف الصلات مع الكتاب والترويج السطحي الذي غيّب القيمة الفعلية للكتابة، مما دفع الى مزيد من التشتت وفقدان التركيز في ادراك الماهيات والقيم ولا سيما قيم الابداع.

أما، من ناحيةٍ أخرى، الذين يكتبون قصيدة النثر بالوعي نفسه الذي تُكتبُ به القصيدة العمودية فهم بالحقيقة يلغون الداعي لكتابة قصيدة النثر اذ لا يتحقق فيما يكتبون داعي الاختلاف الذي سعت اليه هذه القصيدة متجدّدة بذلك في كل أشكالها وفي كل طرائق التنويع فيها، هم يريدون جني ثمار الرواج لقصيدة النثر لصالح أنفسهم لا غير، فالعرض استجاب للطلب في ساحة الانتشار السهل الرائج الآن في  منافذ النشر ومواقعه.

ان مستقبل قصيدة النثر، بالضرورة، سيتجه الى عكس الوعي القائم في البيئات العربية وسيترجم مديات تمثّل بشر هذه البيئات لنمط الحياة الذي يعيشون فيه، فالأمران مترابطان، نمط الوعي بالحياة وطرائق تجسيد ذلك في قصيدة النثر!

 

د. سهام جبار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم