صحيفة المثقف

انزواءات

مامون احمد مصطفىتلك ايام، كانت، وكنا، في ردائها السحري نحيا، نتقلب، نمزج صوت الغدران والجداول والاودية وهي تخرخر بأنفاس السرو والصنوبر، تتلألأ، بانعكاسات متقلبة رجراجة، ترسل اشعاعات من لمعان متذبذب قصير متواصل، فتخاله انوار ماس مصقول بعناية ودفء وحذر وعشق، تنشده البلابل المتوضئة بنعومة الندى المخملية، وانهمار اللحظات الاولى من ضياء شمس يتحسس اوراق الشجر المحتضن حبات الندى ليرسل بريقها الى قلوب صغيرة مفعمة بالنشوة والحبور واقتناص الحياة بتوترات من فرح مندمج بأحلام حريرية تصنع الخيال الساحر المنتهي والمولود من دفقات اللحظات المهاجرة والمتكونة واقعا يضج بالنور والضياء والانفتاح على معجزات الندى وخرير المياه المتداخلة من هديل حمام مهاجر وقف ليشكو المسافات، او يغني لما تبقى من ابعاد يراها بمخيلة لا تضاهيها مخيلة.

وهناك على اعتاب الوجود، في تلك الايام الراجفة المرتعدة من هول ما نحشو بسويدائها من ثقل الحلم المنذور لغيب يستتر في غلالات المجهول المتعمق بالقادم، كنا، نساير الزيتون، نوشوشه، نستفيء بظله، نداعب النسمات الشاردة من قيظ متحكم بما نحس ونرى، تشفق النسمات علينا اشفاق ام رؤوم واب رؤوف، تبرد ذاتها وتأتي الينا محملة برائحة الظل وخفق برودة مستلة من حرارة لاهبة متأججة، تقتحم اجسادنا، وما ان تلامس الجلد، حتى ننتفض ونرتجف، تخترقنا لذة عارمة، احساس غريب مشبع ومثقل باللذة التي تحس ولا تفسر او توصف، تهيج اللذة وتتعاظم، تتمدد في انحاء الجسد، وتتركز عصارتها في الروح ضربات من نشوة تكاد تعصف بالحياة المسكونة بأعماقنا وتفتتها، تحولها الى نتف لا تكاد ترى من فرح مغمور ببريق البرية ونسغ الزيتون ولفح الشمس الذي يضخ النور في كل مكان.

على بعد امتار فقط، سلحفاة حزينة، متكومة على ذاتها، مرهقة متعبة، ترى المسافة بينها وبين الظل اميال طويلة، تساوي المسافة بين الشرق والغرب، تمد اطرافها من صدفتها المدرعة لجسدها، خطوط الزمن والايام تبدو بوضوح صارخ، وحين تخرج راسها، تشعر بكم الزمن المتغلغل في كل جزئ من اجزائها، تتنفس، تحس بحرارة الارض والشمس المعلقة بالأفق كتنور ضخم تتساقط فيه الاشياء لتزوده بحرارة فوق حرارة، لكنها رغم كل هذا، ورغم رؤيتها للمسافة الفاصلة بينها وبين الظل، تحلم كما نحلم، بالوصول الى نقطة البداية للتمسك بظلال لها في مثل هذا الجو جوهر من متع لا يمكن ادراكها او تخيلها الا في نواة اللحظة ذاتها.

وهناك على الجهة اليسرى، افعى طويلة، غاضبة الى حد الانفجار والتشظي، ترى الوجود بطريقة فعالة للقتل والتسميم، تدور هنا وهناك، تنضنض بلسانها بحرقة من انفعال مزدحم ومكتظ بقلة الصبر، تساند هذا اشعة من قبة متوهجة متدلية تكاد تسمع صوت لهيبها وهو يخرج من اعماق الارض وحزمات العشب المصلية حتى الانهيار، الارض والافعى يشتركان الان بالفحيح المتأصل بعمق الغضب والتأزم، وكما اوراق الشجر ترسل حفيف الاستسلام للموت والنهاية، فان الافعى ترسل حفيفا ضاريا وصاخبا وصل الى حد القعقعة واللعلعة، تماما كدوي قصف الرعد المنبثق من شحنات تفرغ بعضها ببعضها لجرح الآماد واستخراج صهيل الحياة وصداحها.

نظرت للأفعى بعين غاضبة حانقة، وللسلحفاة بعين الشفقة والحنو، وللزيتون الذي ينشر ظله فوق مساحة وجودي بالإجلال والهيبة، للزيتون بذاكرتي تفاصيل كثيرة، كبيرة، متشابهة في ظاهرها، مختلفة في جوهرها، حتى اوراقها الداكنة الخضرة، كانت تثيرني بطريقة يصل الشبق فيها اعلى مستوى، النخل ايضا يثيرني بذات الطريقة، فيهما كنت ارى التزاوج العظيم المبني على المجهول وهو يأخذني كحاكم لتلك النسوة الممتدة في الجبال والسهول، واحيانا كخادم مطيع متفان فخور بانتمائه لمفهوم خدمتهن.

الافعى يبدو انها اشتمت رائحتي المعتقة بالزيتون والجبال والشمس والظل، ادركت ان هناك فريسة، والسلحفاة ادركت وجود الافعى، المعركة بين الافعى وبيني وبين السلحفاة والظل والشمس اصبحت حتما لا يمكن تجاوزه او القفز عنه، هناك سم يتلوى، يتلولب، يكاد يشق الجسد الممتد كحقنة من موت متأصل لينثر غضبه على كل المحيط، وسلحفاة مترعة بالبطء والخوف ومحاولة الوصول الى نقطة النجاة، وانا اتمسك بالظل كتكوين ارضي منذ ملايين السنين، وفي الوقت ذاته املك نازعا وحشيا بمخالب حادة معقوفة صلدة كصخر بركاني من اجل انقاذ السلحفاة، تلوت الافعى تلويا يثير الفزع والدهشة في ذات الآن، هذه المخلوقات الرائعة الجمال والرونق والملمس، تفجر في النفوس شعور الموت والفناء، هي التناقض بمجمله وجله، بين الروعة والجمال يكمن الموت والفناء، الرحيل عن الزيتون والظل وكل مفعلات اللذة والنشوة، لكنها في نفس الوقت، تملك تقنيات عالية في فن القتل، جمال ساحر قاتل يمارس اقسى انواع الجريمة بطريقة فظة مؤلمة حاسمة، الا انها رغم كل هذا لا تملك شيئا من كرامة، او اعتزاز بذاتها وقدرتها وجمالها وفتكها، بعكس العقرب الذي لا يبعد عن طرف الظل الذي يلفني الا قليل من خطوات سريعة ليحقنني بسم غريب التركيب.

لن اتجرأ للادعاء بجمال ما هو ليس بجميل، فالعقرب رغم امتلاكه القدرة على الانتحار في لحظة حاسمة، الا انه يبقى دميما قبيحا مثيرا للتقيؤ، حتى العين لا تحب ان تراه، او تبقى على اتصال بوجوده الثقيل التكوين، لكن، في الوقت ذاته لا يمكنني رغم دمامته وقبحه ألا اجرؤ عن التنبه له ومواصلة مراقبة حركاته، فأي غفلة بسيطة تعني الدخول بدوامة الم السم الناقل للفناء الى جسد يتمتع بسحر النسمات العابرة للظل النافضة للجسد بشكل غريزي يتصل بالدماغ المكون لإحساس النشوة المكتمل التكوين.

السلحفاة تملك درعا واقيا وقويا، تستطيع ان تنسل الى جوفه مكومة نفسها على بعضها، لتصبح كحجر تمر الاشياء من حوله دون ان تدرك الحياة النابضة بأعماقه، لهذا، فهي تملك مقوما ذاتيا اليا للدفاع عن ذاتها من الافعى والعقرب، اما انا، الذي احمل هم انقاذها وتخليصها من الخطر المتربص، فلا املك أي نوع من انواع الدروع الطبيعية، فلو ادرت بصري هنا او هناك بلحظة انشداه او مفاجئة، ربما لا املك الوقت الكافي للفرار او التعامل مع المخلوق الرائع الجمال او مع المخلوق المقتحم للقبح والدمامة.

سقطت الشمس من مكانها وكأنها نيزك افلت من نظامه، اصبح الكون كله مهددا بالفناء، الظل والزيتون وانا والافعى والسلحفاة والعقرب، لكنها وبلحظة ناهضة من قوة البقاء في الكون توقفت عن السقوط، اشعتها اصبحت خيوطا من نار لاسعة متوهجة متمخضة، تصلي الارض بقوة مندفعة بطريقة لا يمكن تصورها او احتمالها، تماما كما هي في الصحراء وقت توسطها كبد السماء، تكون قاسية، ملوحة، حارقة، توقد الرمال وتؤجج الصخور، فيبدو الرمل اينما وجهت نظرك جداول وانهار وغدائر ووديان من مياه صافية كالبلور الجليدي وسط غمامة متكئة على تيار حراري صاعد، وحين تدير النظر هنا وهناك، تفقد الشرق والغرب والشمال والجنوب، تتحول الى عقرب تدور على رقعة من المجهول فوق مجهول.

فاتنة ورائعة هي الصحراء، تلمع كذهب ممتد الى ما لانهاية، تبهر النظر وتقتحم المشاعر، تؤصل لرعشات من الاعجاب الموصول بالخوف والهيبة، تمد ذاتها كلما تحركت بشكل دائري، تختفي المياه التي اقتحمت العين سابقا، وتبقى رائحة الحر والقيظ واللهيب والاشتعال، تتكوم المشاعر وتتكور، يتحرك الحُصين بقوته داخل الدماغ لانتشال الخارطة التي قادت الى هنا، لكنه يصاب بالإرباك وفقدان التوازن، تقع الصورة البصرية في روع الدماغ، ينقلها الى الحُصَين، ترتسم المسافات التي لا نهاية لها كخارطة اللحظة الحبلى بالتيه والضياع، يتأثر الدماغ، فيحرك الجسد، يسيل العرق من كل المسامات امعانا بتغذية شعور الدوران في الفراغ الناقل لوباء الفناء.

ما زالت الافعى مكانها، وما زلت في الظل، والعقرب بدا وكأنه منحوت من رمل متكدر وجاف، لكن السلحفاة، كانت قد قطعت مئات الالاف من اميالها باتجاه الظل، بقي لها بالنسبة لي خطوات قليلة، اما بالنسبة لها الاف اخرى من اميال تغلي بحرارة قائظة ناقمة، كل ما علي الان كي اكون قادرا على الاحتفاظ بالظل ان اقتل العقرب بضربة مفاجئة وصاعقة وحاسمة، لحظتئذ، يمكنني السيطرة كملك مستبد وجشع وقاتل على الظل الموسوم بروعة النسمات المداعبة لمراكز الاحساس بالدماغ.

لو كنت املك نوعا من النفط، لاخترت طريقة الانتحار للعقرب، هي طريقة قديمة، مارسناها كثيرا، مما ادخل في ذمتنا ارواح المئات من العقارب، كنا ننتشر في الجبال والوديان، نبحث وسط ظهيرة حارقة عن العقارب، نأسرها ونضعها في قوارير زجاجية كبيرة، ونعود بها الى الظل، حيث النشوة والمتعة والنعاس ولحظات النوم الرائعة، فنصنع دائرة من رمل دقيق، ونصب النفط فوق الرمل، ثم نأتي بقطع من الشجر الجاف ونضعها فوق الرمل على الدائرة، ننقعها ايضا بالنفط، يدخل احدنا وبيده قارورة العقارب، فنشعل النار بسرعة من كل اطراف الدائرة، يقفز صديقنا من فوق جدار النار الدائري بعد ان يكون قد افرغ العقارب من الزجاج، وتبدأ رحلة غامضة للعقارب، ملفعة بالخوف والتحسب والتوقع والضوضاء داخل تكوينها السري، القلق والغضب والحنق تبدأ بالظهور الواضح على حركاتها، تهرب بسرعة من هنا الى هنا، ومن هناك الى هناك، ومن هنا الى هناك، تصطدم ببعضها، تنكفئ، لكنها وبقوة غريزة البقاء تنهض وتستمر في البحث عن مخرج، هو الغيظ المعبأ بالعجز، ذلك الذي يحرك العقارب بحمى قاتلة للبحث عن مخرج يقودها الى مكان لا تموت فيه حرقا، غيظ متقد لو تمكن من قطيع ثيران لكفى نقاط منه لمحو القطيع عن الوجود، دوران صاخب متداخل متشابك غير محدد يغلي كمرجل بركان متقلب، وحين يصل الامر الى الانهاك، الاقتراب من لحظة الاستسلام والخور والخضوع، تنفجر كرامة وعزة العقارب، من مكمن مجهول بتكوينها رافعة ذيلها مركزة سمها، وبنظرة اخيرة للظل، للطل، للندى، للاخضرار المفعم بأوراق الزيتون، تودع الدنيا بضربة قاتلة من سمها الى ذاتها.

الافعى لا تملك مثل هذه الكرامة، او حتى ظلا من ظلالها، صحيح انها تقتحم النار بسرعة هائلة للفرار من الموت، لكنها ان رات توسعا بالدائرة فإنها تبقى متكومة في الوسط دون حراك بانتظار انتهاء الحريق، هي حكمة، لكنها زائفة، لان حرارة النار المشتعلة تقترب من جلدها، تسلخه، او تقضمه كقضمات الصقيع، تتلوى قليلا هنا وهناك، تبحث عن مخرج، لكنها لا تقتحم النار الا اذا رات النار تقتحمها بشكل حاسم وفاصل، وحين تمر من النار واللهب يحترق جزء كبير من جسدها، يجعلها بطيئة وثقيلة الحركة، غير قادرة على الانسلال والتخفي بشكل كاف، والاهم انها تستدعي جيوش النمل من بعيد ليقتحمها مستعمرا عزتها وكرامتها وقوتها وسطوتها.

ما زلت بين هذا كله، اتمسك بالظل ووسن النوم يغالبني محاولا ادخالي في لحظات الاستغراق بالموت المؤقت، لكن العقرب والافعى يتخللان انهمار الوسن وغيومه المثقلة بالحلم المخبأ في لذة الموت المؤقت، تنهار الاحاسيس المقتربة والمداعبة للرموش والجفون، تنهض قوة غامضة لتكتسح الوسن من اعمق اعماق جذوره، تبرز حالة التنبه الممزوجة بالخوف والتربص والتيقظ، من اعماقي المفتوحة على المدى المتسع في العيون، يخرج الطفل الذي تلقفته ام هاشم في غرفة صغيرة في المخيم، صارخا، رافضا، متمردا، يبكي بكاء من نزع من المأمن ليوضع في اتون الشك والتوتر والغليان، داهمته الدنيا مرة واحدة، بضوضائها وحرها وقيظها وقسوتها، لمس ذلك بسرعة لا يمكن ادراكها او الاحساس بها، وصل صوته الى الساحة المعفرة بالتراب والاوحال، لكن الدنيا كانت قد احكمت ارساء انيابها وكلاباتها به فور سقوطه من الرحم، لم يكن بالإمكان العودة الى ذلك الرحم المشبع بالاتساع والآماد والرحابة والانفتاح، لا يمكن الهروب من ضيق الدنيا وصغر مساحتها التي لا تتسع لإصبع الطفل الساقط الان من عوالم السعة المترعة بالسعة الى عالم الضيق المترع بالضيق.

لو كانت الافعى يومها هناك، لو كانت العقرب ايضا، لكان الطفل قد اطلق نداء استغاثة بأحدهما او كليهما، ليفرغا سمهما في دمائه التي لم تعتد بعد التعلق بالبقاء والحياة والوجود، لكن لم تكن هذه او تلك، فكان على الطفل ان يقدم شهادة للوجود الذي انزل فيه منذ لحظات، شهادة قاسية مجللة بالتناقض والتزاوج والتنافر والالتحام، الشهادة كتبت بالدماء، الدماء التي غابت عنها الافعى والعقرب، مرة واحدة اندفعت الدماء غزيرة مدرارة فوارة، فلت رباط السرة، كانت النهاية تقترب، وترك الوجود يتحقق، رغبة في العودة الى ملاذ اكثر اتساعا ورحابة من الدنيا وما يتوالى من اكوان وعوالم في الفضاء واعماقها واعماق المحيطات، ابتسم الطفل ابتسامة عريضة تكاد تجمع الاكوان بين حديها، وفي لحظة، لم تكن ضمن حسابات الابتسامة والفرحة، انقطع الامل وسيطرت الدهشة والحزن، ام هاشم، سمعت صراخ امي حين رأت الدماء تنساب من جسدي كجدول صغير ناعم طري، بركت على الارض بلباسها الابيض، امسكت السرة وعقدتها من جديد، توقف الجدول عن الجريان، وتوقف امل العودة الى العوالم التي كانت تظللها نسمات الرحم وخفقات القلب ووجيب الروح.

ما زال الزيتون يحتفظ بخضرته الضاجة، رغم وقوف الزمن كفاصل بين المكان الذي انا فيه الان، وبين المكان الذي فلت فوقه رباط السرة، وكأن الازمان الماضية التي تنقضي بكل ما فيها من احاسيس ومشاعر، لا تمت بصلة الى الازمان التي تليها، هناك شيء ضائع بين ما كان دائما، وما هو كائن، وما سيكون، فرق لا يمكن ادراكه او ملامسة تكوينه وصيرورته، لكنه منتصب كمارد جبار وقادر على اذهال العقول والاحاسيس بما يصل لحظات بلحظات، وبما يفصل ازمان عن ازمان، فصلا يكاد ان يطيح بالعلائق والوشائج التي تربط الاشياء والمكونات ببعضها.

لماذا نختار الماضي كي نمجده دوما؟! لست انا من يدعي ذلك فقط؟! اقرأ تراث العالم او ما تيسر منه، قراءة متأمل واع مدقق، وابحث عن الالم المخبأ بجوف الامنيات والتطلعات، ما ذا ستجد؟! الحنين والاشتياق والنزوع الى الماضي؟! اليس هذا عجبا؟! ربما هو عجب العجاب؟! وربما هو الهروب من الحاضر الى جوف الماضي؟! وربما هو الخوف من المستقبل المتدرع بصدفة سلحافتية تحجب عنا رؤية ما نتمنى ونخاف ونتحسب ونتوقع؟! لكن الاكيد الذي يكاد يصل الى درجة المطلق الدنيوي، اننا نرتد الى الماضي لكونه مضى وانتهى؟! اصبح معلوما وواضحا ومكشوفا؟! لا يحمل أي رهبة او توقع مجلل بالتحسب والتوقع المكلل بالمجهول الذي يربك اعماقنا وذواتنا؟! والاهم، لأنه اصبح مستحيلا ان يعاد او يستعطف من اجل السكن بأعماقه والتلفع بإهابه؟!

آيات العذاب تترى، تتدفق، تنسل بأعماقنا الملوعة اللائبة المصهورة المتمخضة كأفعى غريبة التكوين والملمس والسم والانياب، تفتك بكل مقومانتا الشعورية فتكا يكاد يمحق الوجود وينهي الاكوان، لكن اعماقنا تتأبى على الاندثار والتحلل، فترسل جيوشا وارتالا من مشاعر متدفقة كشلالات نهمة وجائعة لتكوين مشاعر واحاسيس جديدة، تتناسل الافعى وتضع ملايين الملايين من الفراخ التي تكبر وهي تقتات على ما انتجت اعماقنا من مولودات حديثة، ونحن كوجود مثقل بالضعف والاستسلام والضياع وقلة الحيلة، نرقب بعيون منكسرة وبصيرة مثبطة معركة الالم والعذاب المحتدمة بين الانفعالات والمشاعر والاحاسيس وبين الافاعي الناهضة بعزم الفناء لتفتيت احلامنا وجسور امالنا وطموحاتنا التي اسكناها يوما من الايام الماضية قلوب النجوم والشموس والاقمار؟!

والعمر قصير قصير، والوقت كالسيف المهند الدمشقي المشحوذ، يَقْطَعنا ويُقَطعنا، ينحر ايامنا من وريدها الى وريدها، نرسم الخطى من ذهول متوالي، تقتحمه دهشة مكتظة، تتناوش طبائعنا وجهودنا في الركض نحو الماضي الذي نلجأ اليه هروبا من واقع متقيح منتفخ، ومن مستقبل يفور صديده ويمور كبحار مسجرة، هو الانكسار الحتمي امام ما نضيع فيه اوقاتنا بين الهروب الى الهروب، والايام تمضي، الواقع يتحول الى ماضي نحن اليه، والمستقبل يتضاءل ويصبح عمره محدودا.

نتقاسم الحياة مع الموت، فنحن حتى في لحظات الموت الدنيوي، نستنهض الرؤى والاحلام في اشتباك عظيم مع الحياة، كانت الرؤيا واضحة لامعة ناصعة، قاطعة وحاسمة، قوتها في ممارسة الفعل لا تصدق، وطاقتها في تحقيق ما تعجز الحياة عن تحقيقه عارمة.

رأيت نفسي اخرج من ذاتي ذات يوم، كالأفعى المتحسفه، المبدلة جلدها بجلد جديد، فهي رغم الالم والعذاب الذي يرافق تحسفها،  تبقى تبحث عن النتوءات والالتواءات من اجل اتمام العملية والفوز بطاقة وجود تتناسب مع معطيات حجمها الجديد، يومها كنت في احد الوديان المهجورة الموصوفة بالرعب والخوف وبعث الاشباح والشياطين والمردة، موزعا بين الواقع والمستقبل، ممزق ومحطم، وفي اعلى قمة للجبل الذي يطوق الوادي شاهدت قبسا من نار هادئة، تتلوى بفعل الريح الخفيفة الموزعة بتناغم سحري بين الهدوء والضجيج، بين السكون والحركة، بين السكينة والرعب والخوف، لم تكن الدهشة تقترب من تكويني، وكأني املك علاقة بين المكان الذي وجدت نفسي فيه، وبين الازمان الثلاثة، كنت كمن وقع بكمين مخدر يتسلل الى الجسد ويأخذ دوره في سرنمته، وفيما انا الحظ القبس المتمايل، دخلت حالة الانسلاخ عن الذات الحاضرة، رأيت نفسي وهي تخرج من اعماقي وتسير نحو حاجز شديد الشفافية، ادركت بطريقة غريبة انه فاصل زمني رقيق يفصل الماضي عن الحاضر والمستقبل فصلا تاما، سرت قشعريرة الفرحة وتمددت كموج رائق بكل كياني، انزلقت نفسي بطريقة يافعة الى الماضي.

انزلقت ذواتي وكياناتي كلها معها مرة واحدة، كصخرة عملاقة سقطت من فوق رأس مدبب متعال وشاهق، انتظمت انفاسي وارواحي وذواتي كلها، فرأيتني ذاك الطفل الجذل الممرغ بالغبطة والمتلفع بالبهجة والضاج بالسرور، بدأت التنقل بالماضي الذي كنت سابقا اتمنى العودة اليه، قابلت طفولتي وشبابي وفتوتي، التقيت آثامي واوزاري وحسناتي وشهقاتي، اندمجت مع كل ممارسة يخجل الخجل منها واخجل حتى من تذكرها او مرورها على خاطري، وتفاهمت مع كل لحظة فخر واعتزاز اردت ان اراها كتكوين ملازم، ووقفت امام ما كان علي ان اختار، ذات الوقفة التي وقفتها سابقا، وسكنت الى الاغصان والازهار والورود والتويجات التي سكنت اليها يوم كانت احلامي بحجم قبضة يدي، وانتقلت بين المدارس وزملاء الصفوف والمدرسين، حتى لحظات الزفاف والجنائز التي شاركت فيها كلها جاءت تناديني وتغريني بالتعمق بها من جديد، رأيت كل الماضي، بما فيه اغرب ما رأيت، انني شاهدت نفسي وانا اسقط من الرحم الى الارض، القابلة ام هاشم، القماط الناصع البياض، وانتقلت بين اروقة الايام ودياجير اللحظات رواقا رواقا وديجورا خلف ديجور، حتى انني شاهدت نفسي وانا اغط بنوم الايام التي انقضت من عمري كلها، ومرت امامي كل احلام النوم واحلام اليقظة السابقة، لم يبق شيء من الماضي باقل جزئية من جزئياته، او ذرة من ذراته الا وكان معي بأعماقي وذواتي وارواحي كما كان سابقا.

لم اشعر بالاستهجان! او الخضة او الدهشة! لم اشعر بفرح او جذل او حبور! كل ما شعرت به انني وسط شيء لا يمكن الفرح فيه او تمني الاقامة بظلاله، بل لم ارى من بين تلك الرؤى كلها سوى الجمود في مرحلة غضة طرية لم تسعفها الايام بقليل من الحكمة او التقدير، وكما كان الزمن سيفا دمشقيا ينحر الاوردة في الزمن الحاضر الذي انزلقت منه الى الماضي الذي اتمنى، كان الوقت هنا مجموعة من السيوف والرماح التي تقطع الاوداج وتثقب الارواح، وما هي الا لحظات حتى كنت قد ارتفعت من سريري كسهم خارق وانا اصيح برعب غير مسبوق.

تدافع اولادي من النوم نحو البراد، وحين اسقطت المياه بحلقي، شعرت بانطفاء البحار المسجرة بأعماقي، نظرت حولي بعيون تسيل رعبا حامضا ممضا، وجدت الاشياء على حالها، تهالكت على السرير كضحية خرجت بعد عناء من انياب التمساح.

لأيام طويلة ظللت اسبر اللحظات التي انتقلت فيها الى الماضي، حتى شعرت بالتجمد المطلق امام انتفاء الحاضر والمستقبل، لحظات عصيبة مغرقة بالعرق الملتهب، وايام شديدة ملتهبة متقدة تتخللها سحابات من دخان معتم اسود وعملاق، ودماغ لا يقوى على شيء غير الكساح والهزيمة، كل هذا نابع من قوة الانزياح عن واقع الوجود المتصل عبر الازمان المتلاحقة التي تمد بعضها بالتسلسل والتوالد والطاقة والتجدد من اجل اكتمال بناء اللحظات الراهنة المولودة من لحظات الماضي لتشكيل لحظات المستقبل.

الماضي كان جميلا رائعا رقراقا قبل الانزلاق فيه، قبل العيش فيه مرة ثانية بعد ان عشته بطبيعته وعفويته وتكونه، اما الانتقال من الحاضر الى الماضي، فانه يكشف لك عن انياب لم تكن بسبب العيش المتراكم في نواة اللحظات السابقة قادر على اكتشافه، صحيح ان الانياب انغرست كلها في اعماقي بكل ثقلها بالماضي، لكنها لم تكن بذات القسوة والضغط وعدم الرحمة التي انغرست بها يوم انتقالي من حاضر ارفضه ومستقبل اخشاه.

هي كذبة كبرى تتساوى مع الاساطير والخرافات والاشباح مقولة ان الماضي الذي ذهب سيكون اكثر روعة وجمالا لو عاد لنعيش فيه، كذبة تكاد ترتقي الى ما فوق الاساطير والخرافات، لتشق عن ذاتها وجودا هلاميا لا يمكن امساكه او الوثوق والتوثق منه، حتى لو مضغناه بين اسناننا، سيبقى الهلام الذي لا يملك من الطعم سوى الاحساس بهلاميته المقززة المنفرة.

التجمد والانغلاق على زمن واحد امنية تراود الكبير والصغير، العالم والجاهل، المؤمن والفاسق، لكنها تشترك كلها بضعفنا كبشر، وكانسان عاجز عن الوثوق بما يمكن ان يصنع او ما يمكن ان يصنع المستقبل به.

وهذا هو الاساس لما يدفعنا الى تصور الماضي على انه اجمل ما مر بنا، وهو ما يدفعنا الى انكار الحاضر والمستقبل لنلوذ بحمى الايام المنقضية التي نعرف ونثق تمام الثقة بانها لن تعود، ولو ادركنا للحظة واحدة انه يمكن لتلك الايام العودة، لبدأنا بتجميل الحاضر، او الاصح بترتيل اناشيد عن كل يوم يخفيه المستقبل، وكلما مر يوم وتحول المستقبل الى حاضر، امعنا اكثر في ترتيل الاناشيد لليوم الذي ينتظر ان يتحول الى مستقبل.

لحظات طويلة تلك التي مرت وانا بين الماضي والحاضر، حتى انني تساءلت بيني وبين نفسي: كيف تحولت اللحظات التي كنت مستغرقا بالتفكير بها بالأزمان الى حاضر وماضي بهذه السرعة،؟ كيف تحرك الزمن والاشياء والامكنة والاكوان كلها من حولي وانا ثابت في مكاني تحت الظل ارقب المخلوقات الثلاثة؟ احسست بضآلتي الى حد التلاشي، فهناك وهناك، وهنا وفي الاتجاه هذا والاتجاه ذاك، وبين النجوم والكواكب والاقمار والشموس، وبين زلزال يحدث هنا وبركان يحدث هناك، تتغير معالم الوجود، منها ما ينطمس ويندثر ويختفي، ومنها ما يظهر لأول مرة فوق الارض وتحت ضياء الشمس، حتى الموت والتلاشي والدخول في العدم، يحدث بين اطياف الاكوان فتتبدل الجغرافيا وتختلف الظلمات والانوار، كل هذا حدث قبل الانتهاء من هذه الفقرة وسيستمر في الحدوث في اللحظات التي تليها، وانا، الانسان، ما زلت تحت الظل ارقب مخلوقات لم تكن قبل ايام واعوام الا في جيب الغيب، فأصبحت وجودا بيد الحاضر والمستقبل، وستكون عدما يوما ما، الى ان يشاء الله جل في علاه فيبعث من يشاء وقت شاء.

الافعى ما زالت ترقبني بعينين ضاريتين متجمرتين، لكنها بحاسة الشم المساندة للرؤيا ادركت حجمي، فاستشاطت غضبا فوق غضب لأنها لم تجد في الفريسة التي يممكن ابتلاعها، اما السلحفاة فإنها وبحاسة ملتهبة ادركت انها يجب ان تشق طريقها نحو الظل بسرعة تكاد تسابق سرعة الضوء، لكنها ولأنها مذ ولدت تسير على نهج البطء فإنها تظن بانها حين تدفع نفسها للأمام بانها قد قطعت مسافات لا يمكن لمخلوق اخر ان يقطعها بنفس سرعتها، اما العقرب، فقد اشتدت دمامته واحتشد قبحه، وكانت الشمس المنصبة من الافق كشلال بركان منصهر تلوح الجميع وتستفز قدراتهم وتطلعاتهم دون ان يكون لها أي هم من هموم المستقبل.

اسهل خطوة ضربة خاطفة بحجر الصوان على العقرب، فأكون قد انتهيت من اول خطر محدق، الخطوة الثانية حمل صخرة من الصوان وانزالها على جسد الافعى لتطحن جسدها وتصبح غير قادرة على الحركة بشكل سريع، ومن ثم التلذذ بطحن راسها الحاوي لأنياب الموت الزعاف، وربما اتركها اسيرة جراحها كي يتقدم النمل باندفاع الجيوش المقاتلة المغيرة، لينتشر فوقها ويفتتها الى قطع لا ترى بعين مجردة، ليكون عجز التلوي والتلولب والالتواء اظهر صفاتها واوضح صور قهرها واندفاعها نحو غيظ لا يمكن التخلص منه، الا بإنهاء النمل الصغير لمهمته في الشره والشبع والتخمة، وبعد الانتهاء حمل السلحفاة الى الظل، فأكون قد وفرت عليها جهد سنوات ضوئية.

كل هذا يدور بخاطري، دوران الثقة والحزم والامعان في التقيد بالخطوة القادمة التي لا مفر منها، بل هو الواجب الذي علي التحرك من اجل تنفيذه بالحاسة التي لا تبحث عن سبب او تأويل، لأنها حاسة الفصل بين الموت والحياة، فانا الوذ هنا بالظل هربا من فحيح شمس تكاد تقتلع الاحساس بالحياة ولذتها، اخضع لوسن يداعب اعضائي الى حد الكسل والخمول، واكثر من مرة سقطت الجفون فوق العينين فأغلقتهما وكادت ترسلني الى قبو النوم، لأكون فريسة سهلة لزعاف من هنا وزعاف من هناك، لحظتئذ كنت انتفض وافرك وجهي بقوة، وارسل طاقة بصري كلها تجاه الموت المحيق من هنا وهناك، عندها كنت اشعر بصدام متفجر بين رغبتي للنهوض وتنفيذ القتل لمصدر الموت، ووسني الذي يغريني يرقرقات الظل بأعماقي واعضائي، حتى ظننت لوهلة بان الخيار لم يعد ضمن جسدي وعقلي.

حدقت بالعقرب من جديد، كانت قد وصلت الى النقطة الحاسمة التي تفصل الظل عن لهيب الشمس، لكنها وقفت تتحسس انفاسي وخطوات انفعالاتي، وكأنها تود قبل حسم امرها اليقين من مكان اللسعة التي ستغرزها بجسدي، وربما لم تكن تفكر بذلك ابدا، بل جل ما تفكر به اقتحام الظل والنوم الى جانبي لتدخل حالة الوسن والنوم، لكن، من اين يمكنني الثقة بكائن لا ثقة فيه، الافعى تحركت، حركتها تنبؤ بوضوح عدم احتمالها للحرارة المنصبة على جسدها، وانها من اجل الحصول على الظل، يمكنها خوض معركة المصير حتى لو كان النمل وجيوشه المندفعة نهايتها.

طرفة عين فقط، فصلت بيني وبين الموت، لو لم اشعر بنمنمة في رجلي، لكانت العقرب قد افرغت كل زعافها بدمي، استغلت لحظة انشغالي بالأفعى، فاندفعت الى عمق الظل حيث قدمي الخارجة من الحذاء، إنتفضتْ وانتفضتُ، فكانت نهايتها اسرع مما تَصورتُ وتَصَورتْ، الانتفاضة جمعت بين الرؤيا والحاسة الخفية الدفينة التي تنبثق من مكان مجهول في النفس لتشارك بإنهاض الوعي ودفع البدهية لتمارس دورها في ردة الفعل الصادة للخطر الذي يوشك ان يحدق بالإنسان.

رجفة ولهاث وحالة من الوعي الممعن في السهوم استقرت بأعماقي وانا اغوص بدوامات ردة فعل توزع المشاعر وتخبطها وتنثرها كهالات من فراغ حول ذاتي المستفزة. نظرت للأفعى بقوة زرقاء اليمامة، ايقنت بان المعركة في مراحلها النهائية حين وجدت مكانها فارغا،علي ان اجدها قبل ان تجدني، ربما تكون هربت بعيدا، ولكن من الممكن ايضا انها انزلقت بالتواءاتها الى مكان قريب من الظل، تتربص اللحظة الحاسمة لتنقض بوحشية سريعة وخاطفة كالبرق او اسرع، لتكون نهاية وجودي ونهاية الاحساس بالظل، ونهاية علاقتي بالزيتون الذي اودعت في حلقات عمره سنين طويلة من عمري. وفوق كل هذا، ستكون السلحفاة المسكينة المهيضة القوة والكفاح والقتال عرضة لنهم قد لا يبتعلها، لكنه يمكن ان يحقنها بزعاف الموت والنهاية.

درت في الظل، بعينين ثاقبتين كعيني عقاب وصقر ونسر، اصغيت بقوة التقاط الافعى ذاتها لخطوات وحركات الفريسة، كنت مشنفا الى اقصى درجات الحساسية والاستشعار، وبأعماقي لوم غريب على تفويت فرصة تفتيتها قبل اختفائها، حالة الحذر والتيقظ والخوف شاركت جميعها بتأنيب تسويفي للحظة الحسم التي كانت اقرب الي من حدقة العين، لم استطع لملمة ذاتي وزجها في اطار واحد يوحد القدرة على البحث من اجل الانتهاء من التمزق والتوزع الذي اعيشه، بت على يقين بانها تقف على مسافة خطأ ارتكبه، وهي على مسافة خطأ سترتكبه، لكن الانسان قياسا بالأفاعي لا يملك شيئا من صبر او تأني، فهي ترقد بقوة صمت وصبر في انتظار غير المتوقع من اجل الحصول على لحظة انقضاض لم تكن ضمن مساحات احساسها او رؤيتها او شمها، اما انا فما زالت الرجفة والخوف واللوم والشمس والظل والسلحفاة اضافة الى التحسب وانتظار اللحظة التي تتفوق بها علي، ما زال كل هذا يذهب تيقظي ويكتسح صبري، لذا قررت وبلحظة حاسمة ان امنحها حركة تدفعها للهجوم فأتبين مكمنها الذي تتربصني منه.

حركتي كانت محدودة بطريقة التحسب والتوقع والحذر والانتباه، دائرية بسرعة تكاد تشبه حالة الدخول بالإغماء، تناهى الى سمعي هسيس خفيف، نقلت قدمي بتؤدة ولكن بثقل ضغط شديد على الارض، فارتفع صوت تحطم الاغصان الجافة، وما ان ثبت قدمي، حتى رايتها ترتفع بجسدها عن الارض لنصبح في حالة الوجه للوجه، تسمرت مكاني، وهي كذلك، فكما ادركت انا خطورة الحركة القادمة بما تحمل من موت وفناء ونهاية واندثار، ادركت هي ذلك، اصبحت المعركة معركة بقاء، اكون او لا اكون، فإما ان ينهش الدود جثتي بعد ساعات، او ينهش النمل والدود جثتها بعد ساعات، لكنها بحنكة التجربة والقتل اسرع مني، فهي تملك من الخبرة ما يفوق خبرتي في مواجهتها، لم يكن بيدي أي اداة لمواجهتها، وهي تملك انيابها وسرعتها وزعافها وتلويها، واي محاولة للانحناء من اجل الحصول على حجر او غصن ستكون سرعتها حاسمة في الانقضاض والانتهاء من هذا التوتر الذي تغلي الشمس مكوناته بحرارة تتميز غيظا وقهرا، كيف استطعت تفادي انقضاضتها السريعة؟ لا اعلم.

لحظة التفادي اوصلتني لالتقاط جذع زيتون، وقبل ان تفيق من حالة فشلها كنت قد انهلت عليها بضربات حقد ممزوج برعب، تلوت مكانها، لم تكن سريعة كما كانت فأحسست بطاقة فياضة للمواجهة الحاسمة، تحركت بسرعة نحوي، كان الجذع يطيح بها مرة خلف مرة، سكنت عزيمتها، لكن لولبيتها والتواءها زاد الى حد انه تبدى عجز ممض ينهش من ذاتها الصاخبة بالرعب والهلع، ظللنا نراوح بين فر وكر الى ان سحق الجذع عظامها في اكثر من موقع، عندها توجهت نحو صخرة كبيرة، رفعتها من مكانها وجررت الافعى نحو صخرة بها قليل من الاستواء، رفعت الصخرة وانزلتها على راسها مرة واحدة، وحين وصل الى مسامعي صوت تحطم العظم، شعرت براحة مهتزة غير ثابتة، عدت نحو الظل وانا امسح جداول العرق المنبثقة من مساماتي، وجلست مستجديا نسمة طرية تنفض جلدي وتساعد في تجفيف العرق.

نسمات رقيقة طرية ناعمة داهمت جسدي، اصطدمت بالحرارة، تفاعل التضاد، انتفض جلدي انتفاضة طالما احببتها وعشقتها، تذكرت السلحفاة المسكينة، وما ان هممت بالنهوض لإحضارها الى منطقة الظل، حتى كان النسر قد احكم مخالبه عليها ليرتفع بسرعة لا تصدق في الفضاء حيث لا يمكن لي ان اعرف او اعلم.

 

مأمون احمد مصطفى

28- 11-2012 

 

   

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم