صحيفة المثقف

الداهية..

عبد الرزاق اسطيطولمادخلت حمام النساء لمحطة الحافلات في غفلة مني، وجدتها تضع بعض المساحيق على وجهها، وتصفف شعرها الأشقرالطويل بمشط صغير... بدت جميلة للغاية، فتاة في مقتبل العمر، مكتنزة، وطويلة القامة. زادها جمالا بياض بشرتها، واستدارة وجهها، ولمعان عينيها المشع من الكحل كنور الصباح... كان الحمام فارغا من المسافرين، ونظيفا تفوح منه رائحة الصابون قضيت حاجتي وانصرفت ...صعدت إلى الحافلة ثم شرعت في قراءة الجريدة، وتصفح مواقع الأخبارعبرالهاتف في انتظارموعد السفر، كانت أصوات الباعة، والمارة والمسافرين، والمتسولين، وهديرالمحركات تفسد علي متعة القراءة... لم أعرف متى جلست ولم أشعر بذلك ! فقد كنت منشغلا بمتابعة خلاف من خلف زجاج النافذة نشب بين شرطي المحطة وسائق الحافلة .. لما التفت وجدتها هي بلحمها وشحمها، فيمازاد صوتها، وهي تعرض علي بأدب قنينة مائها من تأكيد ظني، نفس الملامح... نفس العيون ... ونفس الصوت ! إذن هي تلك المرأة المعتوهة التي كانت تجوب المحطة متوسلة المسافرين والمارة من أجل مساعدتها على شراء تذكرة للسفر إلى مدينة أكادير، فعادت بي الصورة إلى أيام خلت فتذكرتها من جديد إنها نفس المرأة التي كانت تبكي، وتنتحب عند باب المسجد الكبيرليلة القدر، وهي تطلب مساعدة الناس لها لعلاج أمها من السرطان ..يا للعجب ! كيف تستطيع هذه الفتاة أن تتقن كل هذه الأدوار كممثلة بارعة أوأكثر... تركتها على عواهنها، وهي تقدم لي قنينة الماء أوقطع الحلوى أو وهي تقتسم معي الأكل...بدت كريمة للغاية، وأثر النعمة والرفاهية عليها باد للعيان، مضمخة بعطر باريزي، وساعة أنيقة تزين معصمها، وهاتف نقال تداعبه بحنو، وتتبادل من خلاله رسائل الحب مع أكثر من عاشق صوتا وصورة...

.في الطريق حدثتني عن نفسها قائلة بأنها تشتغل بإحدى الشركات التجارية، وتكسب من عملها هذا دخلا مريحا، مكنها من شراء شقة، وسيارة، وتوفير رصيد بنكي لا بأس به، وأنها تسافرمن مدينة إلى أخرى من أجل عرض منتوج الشركات على المحلات، وعقد صفقات البيع، وأنها لا مانع عندها إذا ما أردت زيارتها ذات يوم بشقتها.... لما وصلنا إلى مدينة العرائش وجب علينا تغييرالحافلة بأخرى لإكمال بقية الرحلة حملت حقيبتها الجلدية الصغيرة السوداءاللون، وودعتني بحرارة كما لوأنني على معرفة بها منذ زمن طويل بعد أن تركت لي رقم هاتفها، وعلبة شكولاطة... وغابت بين زحام المسافرين والمارة كما تغيب الشمس.. بدا اسمها على البطاقة الصغيرةالملونةالتي منحتني بارزا، ومدونا بخط أنيق ولامع "الداهية"... فتحت الجريدة بعد أن ركبت حافلة أخرى بنفس المحطة، وشرعت في قراءة إحدى المقالات فسمعت من جديد صوت بكاء وعويل، ولم يكن غير صوتها كانت ترتدي جلبابا بلون أخضر، وتخفي وجهها بفولار متسخ وممزق من جوانبه، وتطلب من الراكبين مساعدتها من أجل اقتناء الدواء لأمها المريضة..لما اقتربت من مقعدي وهي تجمع المال من الراكبين أعدت لها علبة الشكولاطة، ورقم هاتفها متمنيا لها سفرا سعيدا .

 

عبد الرزاق اسطيطو

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم