صحيفة المثقف

الغزل الانساني بين الحس والتأويل

يمثل حضور المرأة في القصيدة الصوفية جانباً من عملية نسيجها الفني، وآلية من آليات تواصلها، حين تبرز بوصفها رمزاً لأفتتانه بالوجود وحنينه الى أصوله في شكل حسي أغترابي، فالانثى ما هي الا انعكاس لجمال الذات الالهية . لأن الله اساس الجمال و"لولا جمال الله لما ظهر في العالم جمال، ولولا حسن المخلوق لما عُلم حسن الخالق".

ويرى بعض النقاد ان شعراء الصوفية فيما قد يبدو قد مروا بتجربة الحب الانساني قبل  ان يدخلوا في منطقة الحب الالهي،لانه لايعرف الشوق الإ من يكابده، ويويد ذلك انهم تركوا لنا تراثاً في الغزل ينم عن تجربة كاملة للحب".

وقد نسج الشعراء الصوفيون قصائدهم على منوال الشعراء العذريين، مستخدمين لغة الحب نفسها، بحيث لانستطيع التمييز بين ما يتغنى فيه الشاعر الغزلي بالحب الانساني، وما يتغنى فيه الشاعر الصوفي بالحب الالهي،"إذ تطالعنا القصيدة الصوفية منذ نعومة أظافرها على تبنيها أسلوب الغزل الانساني المأثور في الشعر العربي متخذين  منها ستاراً لغوياً واسلوبياً لمعاني الحب الالهي"، لكنهم نزهوا الحب عن ان يكون بشرياً، ووجدوا من الحري به ان يكون الهّياً، فجعلوه في منتهى النقاء، خالصاً من كل حضور مادي او جسدي فلا يبقى سوى الله مؤهلاً للتوجه اليه.

فالمرأة بوصفها المحبوبة، رمز الانوثة الخالقة، للرحم الكونية، وهي بوصفها كذلك علة الوجود، ومكان الوجود، والعاشق لكي يحضر فيها يجب ان يغيب عن نفسه، عن صفاته، يجب ان يزيل صفاته لكي يثبت ذات حبيبته. إذ إن وجوده متعلق بوجودها، وكينونته رهن لتماهيه فيها، إذ لا وجود للثنائية والتعدد في هذا المقام، يقول الششتري:

قد كساني لباس سقمٍ وذلة              حبُ غيداء بالجمال مُدله

سلبتني وغيبتني عني                  وغدا العقلُ في هواها مُوله

سفكت في الهوى دمي ثم قالت        يا طفيلي ـ عشقتني؟ أنت أبله

إن تُرد وصلنا فموتك شرطٌ           لا ينالُ الوصال من فيه فضله

لن يستأنس بنار الحبيبة المنادية، الإ كل مقتحمٍ لبحار الهلاك، ولن يقتبس من فضلها الإ سندباد الاهوال والمخاطر، فالحبيبة ـ كما الحقيقة ـ لا تعطي نفسها لكل خاطب، إذ أن شرطها هو سلب الارادة، فكل من تجرد من ثوب الارادة بعد سلوك ومقامات، فقد تمسك بكنه الارادة وجوهرها، يقول ابن العريف:

الأ قل لمن يدعي حبنا                  ويزعم إن الهوى قد علق

لو كان فيما إدعى صادقاً              لكان على الغصن بعض الورق

فأين التحول وأين الذبول              وأين الغرام، وأين القلق

وأين الخضوع وأين الدموع           وأين السهاد وأين الأرق

لنا الخائضون بحار الهلاك           إذا لمعت نارنا في الغسق

والشاعر الصوفي عمل على تكريس خطاب العشق الذكوري في الثقافة العربية، وشروطها التأريخية والبيئية، متخذ من المرأة مجلى من مجالي الجمال، ومقاماً من مقاماته التي شدت انتباه الصوفي، واستعبدت أهتمامه، فيقول محمد بن سهل:

اجلك أن أشكو الهوى منك إنني       أجلك أن تومي إليك الأصابع

وأصرف طرفي نحو غيرك صامداً على إنه بالرغم نحوك راجع

ان الشوق والحنين والتعلق والافتتان هي الروابط الرئيسة التي شدت الصوفي الى المرأة التي ترك غيابها  عن ناظره مجالاً للحلم والخيال الخلاق، وهو الخيال الذي شكل  المرأة من الحجارة المكومة في تجارب الغزل، يقول ابن العريف في إحدى مقاماته العشقية:

إن لم أمت شوقاً إليك فإنني            سأموت شوقاً أو أموت مشوقاً

ألبستني ثوب الضنا فعشقته           من ذا رأى قلبي ضنى معشوقا

لاقر قلبي في مقر جوانحي            إن لم يطر قلبي إليك خفوقا

وبرئت من عيني إذا هي لم تدع      للدمع في محرى الدموع طريقا

إنَّ بهاء الكلمات وأشراق العبارات وتوهج العواطف وسخاؤها هي المقولات الكبرى في هذا المقطع الشعري على الرغم من انه ـ أسترفد من تجارب شعرية سابقة، وأستنار من قبسها.

 

الاستاذ المساعد : ليلى مناتي محمود

كلية اللغات / جامعة بغداد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم