صحيفة المثقف

"أشجار لاهثة في العراء" للشاعر سعد ياسين يوسف.. قراءة نقدية

1058 سعد ياسينكثيرة تلك البواعث التي تدفعنا بصورة عامة إلى البحث عما يناهض ما تألفه النفس؛ وأي نفس إذا ما رافقها واقع مرفوض، يقوم على القلق وتشظّي الذات اللاهثة وراء الخلاص المنوط بالتجديد؛ لعلّه، يمضي بنا نحوالأفضل. فهي ثورة على سبيل الهروب بكلّ مضاد لقوى الشدّ المعاكس لقضبان الاغتراب؛ إنها في شقوق الواقع غير المتوافق معها:

"وبحُزنِ غيمةٍ عاقرٍ

تدورُ قطرة ُماءٍ يتيمة ٌ

على شقوقِ الأرض ِالّتي اشرأبّت منها أفاعٍ ...."

إنها ذائقة الشعراء؛ أوّل الثائرين على هذا الواقع؛ فهم الأكثر ارتباطاً بقيمة الفرد وحياته؛ ليجسّده شاعرنا بعناوين دواوينه السابقة: "شجر بعمر الأرض" و"شجر الأنبياء" و"الأشجار التي لا تغادر أعشاشها" و"أشجار خريف موحش" و "أشجار لاهثة في العراء" الذي نحن بصدد قراءته وسأختصرظواهر لفتتني في هذا الديوان والذي من حقه علينا أن أذكرها . فقد لمست ُالشعر والشعرية كاملة بجلِّ عناصرها من رمز،وإيحاء،وتكثيف، وصورٍ شعرية معمقة، إضافة إلى ما هو الأهم وهو البعد عن التقريرية . وكلّ سمة من هذه السمات يحتاج إلى قراءة نقدية معمقة لنفيها حقها، وكلّنا على حدّ قوله: "أشجارٌ لاهثةٌ في عراءِ الأسئلة"، لماذا، وكيف، وهل، وإلى متى؟ وما هذا بجديد إذا ما التفتنا إلى الشنفرى، وأبي نواس وأبي تمام، والمتنبي، والدادائيين، والمحدثين في الغرب والشرق... وليس من همي الوقوف على الأسباب وحلّها، فكل هذا ألوان للاغتراب وشدائد المعاناة التي جعلت من ذائقة الشعراء حُبلى بجنين الشعر، يكرس لنا الانخراط مع واقع اجتماعي، يؤمن بأن الأدب موسوعة اجتماعية أداته لغة من خلقه إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ثراء مسيرة شاعرنا الأدبية د. سعد ياسين يوسف، يبثّ لنا معاناة اغترابه بينه وأهله ووطنه، وهو ينوء بحضارةٍ تحدّر عنها الأمن والسلام صوراً إشارية تلميحية بإبداع فني وفق انحرافات لغوية زاغت عن المعتاد القياسي؛ ما أثرى ديوانه وفعّل شعرية النظم الباعث على عصف ذهن المتلقي لإثارته على سبيل الفنتازيا المُمنطَقة والسريالية المُمّنهجة جدلية الصامت الصائت كما في قوله:

" الدَّمعُ صفيرُ الرّيحِ ... ونشيجُ الرّملِ ...

إذْ ينهمرُ على جدارِ لحمِنا الحيّ عارياً

تحتَ غيمةٍ ... تُمزُّقُها أنيابُ الظّهيرةِ "

نظم عذب مسبوك بلُحمة النسيج، وبديع التصوير الذي يخاطب عقولَنا قبل وجداننا - الفائق في أنماطه وتشكيله الفني المشرق بصورة الشجر الخريفي للواقع، الفارع بسماء الحرية؛ سماء لم تكد تغيب قداستها الخاصة في جلّ قصائدة؛ فهي ربّة الحرية ومعراج الانطلاق ودرب انعتاق حالم عربي عراقي أبي أشم، رسم لنا لوحة مجد لمستقبل زاهر وإن بدت فيها "عيون الصبار" و"عشبة السماء"؛ فهي "ليست مجرد خيال" أو "تلويح"، بل "ارتقاء" ثمّ "تحليق" "بين زرقة وأفول" و"مكابدات خيمة"؛ لأنها "شجرة الانتظار" و"هديل الوردة العالية" التي أخرجت شاعرنا من دائرة (الأنا ) تلك القيمة الفردية إلى معترك (النحن)؛ دائرة القيمة الجمعية.

إن المتتبع لهذه العناوين؛ ليجد بأنها أثرت هذا التقديم الذي يفسّر -بإيجاز لا يتفق والتبسيطَ - مؤدى شاعرنا/ الصائت لتلك الأشجار/الصامت: المغتربون المتجذرون الذين يتناوشون عنان السماء بعد أن عرّتهم المكائد،ولوّحتهم فصول الخريف المتآمر، وألهبتهم فصول الصيف الخائن، وأسقمتهم فصول الربيع الخائن، وهزتهم ريح الشتاء المتخاذل؛ وهذا بيت القصيد لدي، أما لدى شاعرنا؛ فقد جسّده بـ: (شَجرة القصيدة)

"تلكَ المُتواريةُ

وسطَ كثافةِ أشجاري

تلوِّحُ لي من نافذةِ الرّوحِ

وتهربُ......

تُوقِظني مَلسوعاً

خلفَ خطوطِ الزّمنِ،

بحثاً عن قدمي، كفّي ،

عن عيني المأخوذةِ برَهبتِها"

إنها مرآة الوطن التي نفسر انعكاساتها بموضوعية (ماكس بلاك) عندما جعل من التعبير الاستعاري استخداماً تعبيرياً حرفياً معادلاً له بميسم "النظرة الإبدالية" التي نراها تتواءم ما بين الدالّ/ الشجر، والمدلول/ المجتمع القائم على إلحاح باطن الذهن ومُعَامله الذي يكرر ألفاظ الأشجار والسماء وأدوات الحرب بشكل لافت لما يشي بأهمية ما يكرره المبدع بغية الوصول إلى مقاصد شاعرنا الذي تجاوزنا معه النقد الموضوعي المسطح؛ فقد تخطّاه بكل فاعلية واقتدار.

لقد جاء عنوان الديوان وفق صياغة فلسفية ذات تأثير كبير في بنائه الفني والشعري - تعاملتْ مع النصّ ببعد دلالي رمزي مكّن المتلقي من استقبال النصّ داخل مساره الذهني نتيجةً مقروئية لسيميائية خطاب إبداعي، ينطوي بنائياً لـ: "أشجارٌ لاهثةٌ في العراء" مكونات اسمية لا فعلية، تدلل على ثبات الواقع وجمود الحال بمعجم ألفاظ الشقاء في تصميم، يؤكد بأن الوطن إنسان عارٍ، وما زال ينشد السموَّ والحرية شجرةَ خلد، تعرج به جور شقوق الأرض إلى عدل السماء خلافاً لشجرة آدم؛ فمن نعيم السماء إلى شقاء الأرض، ليتفقا معاً على أن الغواية هي السبب... ولكنْ أنّى له الخلاص؟ وليس ثمّة إجابة وهو القائل في هذه المقاطع:

" عابراً

بحرَّ اشتعالِ أشجاري

بأسئلةٍ  ثقالٍ ..."

"على كتفِ زورقي

ألفُ حجارةٍ من سؤالٍ ينوء بها تارةً "

وهي تبحثُ عن شمسِ إجاباتِها ... "

..........

"وتارةً يشمُّ ما تبقى من قميصِ السَّماءِ

قبلَ انكسارِ الضَّوء ِ "

وما مرجعية هذا البوح إلا معاناة وشقاء تسعى إلى الخلاص من واقع مأزوم بالتقتيل والتشرد والخوف واليأس، سبيلاً تنكب رمزية الحبيبة مرة والحالم الباحث عن أشجار الربيع ولو بعشبة السماء مراتٍ كثر،ليبحثَ في المكانِ عن "عشبةِ الإجابةِ" "بعد أنْ غمرَهُ ثلجُ السُّؤالِ ..."

"وهيَ تتفقدُ كلَّ يوم سِلالَ زهورِها البيضاء

المحدّقةِ في شجرة ِالسَّماء ..."

باختناقِ الحروف ِ

.....   ......

"وهم يسرقونَ فضاءاتِ الضِّياء ِ بملابسِ الحجرِ المقدَّسِ

ويسحقونَ عشبةَ السَّماءِ !!!"

عشبةٌ حبيبةٌ بحجم الوطن أو لنقل وطن بحجم حبيبة، تعمر الأرض ببوح شاعر فحل واكب النهوض بكلماته الجزلة الرائعة ليسمو بصاحبة الضياء والحرية لكل ما يقرّبه منّا على سبيل جدلية، تُريه منها جانب الحرية المنشودة عندما يتوحّد معها بإدراك حقيقي وشخصي، يتنفس الذات معها والموضوعَ معاً في اتحاد مطلق؛ ولا غرو في هذا فهي(شجرةالابتسامة):

" تلكَ الَّتي أشرقتْ ذات َمساءٍ

ملوّحةً بغُصنِها المُبلَّلِ

عابرةً آلافَ المدنِ ...

وكلّما رأيتُها ..

عمَّدتُ وجهي بزهورِ يَديها

فتشرق فيها في أقصى الأرض ِ

شمسٌ أخرى ... "

تأتي بأكبر معاني السمو والعلياء، نعم؛ إن وراء كلّ شاعر عظيم شجرة ...، بات فيها جميل القول جميلا، وتبتل صمته في محراب جمالها جمالاً وهو القائل:

" كانت فراشاتُ المساءِ

على رمشِ السّؤالِ

تصبغُ جبهتي بحفيفِ أجنحةِ الأسى

وتغورُ في صمتي

وتفرُّ من جرحٍ لجرحِ ... "

- كما ويقول :

"حملتُ لآليءَ صمتي على كفَّي رملِ الشّاطئِ"

فمن هنا تحديداً، يتسلل إليه فرط من الجوى وكومة من تفشيّ الهمة؛ فلا خيار إلا الانتظار الذي عنون به قصيدته المرجعية (شجرةُ الانتظار) بقوله:

"وجهيَ لم يعدْ ...

على الإمساكِ بالضَّوءِ فأنكرَني،

حينَها لم تعدْ لي أيُّ سماءٍ,

أو فراشةٍ.

لم تَعُدْ أجنحتي تَبسطُ الأفق َتحليقاً ولا ....

كانتِ الوردة ُ ترنو .....

فوقَ غصنِ الطُّرقاتِ"

إنه الردّ بالإحساس الذي يفوق مدارات الإدراك، ... إنها السريالية بعينها...، لغة الكبار الذين يعصفون بأذهان من خيّم عليهم الكدُّ والحزن؛ لينأوا بهم عن شقائهم هذا ولو قليلا بمثل هذا البوح الرائع الرائق الجميل كما الخمر تجلي هموم الشاربين ولو للحظات...، وفي الحقّ فإن هذا البوح من ضمن جماليات ما قرأت من أشعار وأصدقه؛ فتعجّ قصائده بجمال هدوء التراكيب وسكينة معاني البيان "لأشجار لاهثة في العراء" خلخلت سكون الديوان أجمع؛ ما خلق لديه تباين كبير في السلم الموسيقي انعكاسا لقلق ذاته وبالتالي الإيقاع الداخلي على مستوى "الفونيم" الواحد مع الآخر ليشكّل مقطعا كاملا بين القرار والصدى، يتواءم مع بقية المقاطع الداخلية وفقاً للتراكيب البنائية للنصّ؛ ما يشكل بدوره إيقاعاً خارجياً على مستوى النصّ الواحد، بل الديوان أجمع، ويعاضده في ذلك تباين عناوين تلك القصائد القائمة على ما يشي بالهدوء والسكينة مرة، والغضب والثورة ومرة أخرى، لهذا عمد شاعرنا إلى معاجم عديدةٍ، كان من أبرزها الحرب وأدواتها، والأديان، والحب، والطبيعة، والحياة اليومية، والأسطورة، والشقاء، إلى جانب الهبوط والانكسار الذي ما برح يطاول النهوض والعلياء؛ فإن دلّ هذا على شيء؛ فإنما يدلّ على قيمة عمله الأدبي بمحتوىً فني، عزز لدينا منظومة الوعي الحياتي عامة والديني خاصة، لأنه إدراك حقيقي لمعنى الحياة، ويدرك شاعرنا هذا، بل يدرك أهمية تعالقه ومجتمعه، ما ينعكس على عناصر الطبيعة التي تأزمت بسلبيات تباين العادات والقيم والأديان والطوائف والأعراق - حتمية نفسية أحادية الاعتماد في المتحوَل؛ لأننا نراه يقحم كلٌّ منهما الأخرَ على نفسه - تبادلية التعالق في الثابت لأننا أيضاً ألفينا واحدهم، يجسّد الأخر في غير موضعه، فمن هنا جاء الضجيج من أروقة الطبيعة/الصائت وعالم الذات/الصامت، وللاستدلال على كلّ ما سبق ذكره بإيجاز بالغ؛ فنستشهد مثالاً لا حصراً بقوله:

(بينَ مَوجٍ... ومَوج ... وهوّةٍ ...طاعنةٍ بالزُّرقةِ ...)  و(... وتارةً يشمُّ ما تبقى من قميصِ السَّماءِ") (قبلَ انكسارِ الضَّوء)،(تعاويذَ قديمة، ورقَ الآياتِ المتساقطةِ من شجرِ اللهِ)،( يوم أنشدوكِ لحنَهم السَّومريَّ ..)،( غضبَ الآلهةِ)،( أمنحُكِ نذوري)، (لن تصلَ إلى الآلهةِ الَّتي لا شغلَ لها سوى تكسيرِ ما تبقّى من أغصان ِلوعتِنا الَّتي يَبُست ْ)

وفي الحق إنه جمال حقيقي في هذه الصور وحسنها وهو هنا يُخطّيء مَن عالج فصل النتاج الأدبي عن أصله في حياة الشاعر، فقد تفرّد شاعرنا ببراعته وإلهامه ودقته في التصوير، فضلاً عن جرأته إلى جانب خياله الخلّاق الذي لا يخفى عليكم إذا ما التفتنا إلى الاستغلال الجيد لمثل هذه الصور الحية التي جاءت ترجمتها كلماتٍ دالَّةً  بصورها الذهنية من حيث دلالتها على ما هو خارج الذهن، تعصف بنا في ظلّ ما تُقرّب لنا المعنى وتحمل الإحساس...، كما في قوله:

" أحلامُنا البسيطةُ

الَّتي تراودُ أصابعَ الكفِّ

هي كأسُنا الفارغةُ المرفوعةُ إلى السَّماء ِ

تشيرُ لأفقٍ لا وجهَ له ..."

وقوله :

" الشَّجرةُ الَّتي غادرَها الحطّابون شتاءً

بعد أنْ أسالوا دمَها الأخضرَ

وقطّعوا جذعَها مقاعدَ لجلوسهم

وأحرقوا غصونَها لدفءِ مَلذّاتهم

في حفلِ شواءٍ لم تشهدْهُ الغابةُ من قبلُ ..."

فهذا غيضٌ من فيضِ أشجارٍ لاهثةٍ متعريةٍ في عراء التشظّي, فكيف لو كانت أشجاره خضراء، تنعم بالدفء والسكون؟ غيض اجتاح أفئدة القراء بكلّ ما يكتنز من تجربة إبداعية بعفوية وسلاسة بكلّ سهولة ويسر، نقش في ثورة النفس التوّاقة إلى الحبّ مرةً، والحرية مرةً أُخرى بحروف يعتصرها التوجّد بطاقة جماليات المعاني الرقيقة الهادئة الحالمة، كما في قوله:

"أضاعتْ مفاتيحَ الغناءِ

ورمَتْنا بانتهاكاتِ الظّنونِ

من بعد ما ألِفَتِ السَّنابلُ

انحناءةَ عودِها على يدِ المناجلِ

وأنتِ العتْمةُ القاتلةُ الَّتي أمطرتْ ثَكلَ النَّهاراتِ

ومازالتْ..."

إنها انتفاضة الذهن المتطلعة بإشراقة لقاء حميم بالحبيبة الوطن المستقل؛ لهذا جاءت سعايتهُ جادة من أجل تحقيق عدلية الحياة القائمة على المحبة والسلام وفق ريح منهجية أشرع لها مشاعره وأحلامه وتطلعاته انتزاعاً صورياً، قام على تداعي ما ذهب إليه (أرسطو) من تشابه وتضاد واقتران زمكاني كما في قول شاعرنا:

"زهرةُ الموسيقى تعلو مع الضوءِ

إلى لانهائيةِ الدهشة ِ

وأنا أتوضَّأ بخيوط ِحريرها

لأشهدَ ..... تَفتْحَ أوراقِها

يوم منحتْ هذا الفضاء مُوسيقاها  ..

تمنحُ هذا الكونَ

سرَّ وجودهِ ...

تاركةً حقلَ نجومِها ... ماسةً فوقَ الرَّمادِ .."

إنها الرمزية التي جسّد بها أشواقه وبثث من خلالها نوازعه همساتٍ تؤدي تراتيله بوحاً عذباً ونجواه ويكأنها شظايا روحه المعذبة ونزف قلبه المكلوم، وهو القائل:

"الدّيكُ يعجزُ أنْ يصيحَ

التَّراتيلُ التي كنّا نرتّلُها ما عادتْ تضيءُ

تهدلتْ أرحامُها بلا حملٍ تنوءُ

على أبوابِ عتمتِها اتَّكأتْ

ونزَّ الملحُ من جبينِها راسماً

حروفَها المُبعثرةَ .... "

وقوله :

" لا أحدَ يمرُّ، سوى أعمى

أضاءَ الدَّربَ بتكتكةِ العصا

استدلَّ على الفجيعةِ بالفجيعةِ

ومضى يُوَلوِلُ صوبَ الأفقِ

ملوّحاً بِعَصا التهجّد ِ

باحثاً ....

عن مَسلّتهِ التي انشطرت ْ

وأنجبته؛

علَّها تعيده ...."

ولا يخفى على المتلقي هبوط همّة شاعرنا بحرارة الوجد وتيه الفكر ووخز الانكسار إلا أنه يعاود النهوض حراً عفوياً جزلاً يتألق دونما تشظّي، كما في قوله:

"منذُ أنْ توضَّأ التراب ُبدمكَ الأخضر

قامت قيامتُها الأرضُ

وكُلَّما جفّت ينابيعُ صوتِ اللهِ

صاح بها صوتُك أنْ تكونَ

فتضيءُ السَّماءُ وجهَهَا المُحمَرَّ

بالخجلِ المعفَّرِ بالتّرابِ

معانقاَ طيورَكَ البيضاءَ

وهي تصعد... تصعدُ ... تصعدُ

وسيوفُهم تنزلُ في الصَّلاة عميقا ً

تنزلُ... تنزلُ ..."

نعم إنها السلاسة في التركيب والانسياب في المعنى إلى جانب التعقيد، وهذا يُحسب لشاعرنا لا عليه، بل يؤكد قدرته الفائقة على مسك زمام الشعر؛ قصيدة النثر بكل فاعلية واقتدار:

"أجولُ به مرتَعباً

مُمْسكاً بشمعتِها الأزليّةِ

بحثاً عن سرِّكَ ..

في الظُّلْمَةِ ،

في النّورِ في الأفقِ المحمرِّ بدمِ الزَّهرِ"

........

" دَعْها لي ...

فما عادتْ للفصولِ لغةُ البقاءِ" ...

هنا يقف ديوان الشاعر أمام محبيه وعشاقه ماثلاً، يقول:- ها أنا ذا - مرآةً تعكس دواخلكم على حائط الأمس واليوم أشجاراً لاهثة في العراء على بوابات سماء الحرية والنهوض من جديد وهو يقدّم لنا نفسه رساماً للوحات جميلة لذواتنا بريشة فنانٍ، اجتهد على نفسه كثيراً حتى أقام فينا زمانا طويلاً ومكاناً معتقاً ووجدانا عربياً متأثراً بمصيره وعروبته وتوجهاته ... فنانٍ يعتز بعراقهِ ويعتدّ ... فنانٍ بابلي،سومري، كوفي، يزهو ويفتخر لما وقر في قلبه من عشق صادق، تخطّى به كثيراً عقبات الشعراء وهناتهم ،فقد بدت لنا قصائده النثرية بحجم رواية ممتدة، تحكي سيميائية القصيد، وتروي فنتازية النشيد، وتقصّ نبض التراويد للحرية للكبرياء للعلياء وهو القائل:

"وتَضجُّ  بي أصواتُ التّراتيلِ،

الأغاني، العرباتِ،

صليلِ السّيوف

صفّاراتِ الإنذارِ

تكبيرٍ مسروقٍ، منزوعِ الرّحمة ِ"

نعم، إنه خصب فكري ثري على مستوى المضمون الذي تأطر بخطاب حكائي غنائي توجدي صادق على وطن مغتصب، على نفس مغتربة، على قومية حاضرة غائبة، خطابٍ مؤطر بالفكرة الخلاقة التي تحمل بين جنباتها هذه الرؤية التي تشكّلت وفق تجربة شعريّة ذات أبعاد وجدانية بوافر ضلال الطبيعة العبقة بالنرجسية ذات الكبرياء المتنامي محاولاً الموائمة بين قلبه وعقله بتلاحم وشيج، يشي بإلحاح نفسه الحكيمة على التطهير؛ هذه الانفعالات التي تأتي تعبيراً دالاً على الشقاء وأقدر الناس تعبيراً عنه مَن كان الشقاء في نفسه، وهو القائل:

" يا وَجَعي يومَ استدارَ وجهُكِ

الشَّمسُ على وشكِ الأُفول

وكانَ الأفقُ  أعمى

مُتّشِحاً بشالكِ الأحمر

غير أنَّي حينذاك نهضت ُمن رمادي

لأمنح َالأفقَ جمرَتي

وألوذُ  بالغَرقِ ..."

غضب على سبيل التحرر، بمؤدى الانعتاق من فرط يأس هذه الأمة التي تفشي فيها القنوط من علياء قوميتها عندما امتطى صهوة الشعر خيلاً و ليلاً و عراءً وسيفاً وقلماً وسيلة عبور حولت مستوى اللغة العادي إلى مستوى مجازي، تشكّل لدى شاعرنا بطرق مختلفة، وفق ما وصلت إليه خبرته التكنيكية والجمالية بهذه الحركة الشعريّة المتجددة التي تركت بصمة حية فريدة، بل هوية تتجذر بجنس مغاير للتقليد والاتباع، كما في مؤدى التجديد لحركة أدبية نهضوية، يجري فيها نشاط، يُعزز به الإنتاج الأدبي ويتنوَّع في أدبنا العربي الأصيل.

 

بقلم الأديب والناقد  د. حسين البطوش

المحاضر في الجامعة الأردنية

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم