صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي ما بين احتلالين (2)

الحزب الشيوعي العراقي وتقييم تجاربه النظرية والعملية

لقد كان الحزب الشيوعي احدى القوى السياسية الفاعلة والمؤثرة في توسيع وتعميق الوعي السياسي العراقي الوطني والاجتماعي. وتمرس في مجرى اكثر من عقدين من الزمن في المرحلة الملكية، التي جعلت منه بعد ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958 القوة السياسية الأكبر في العراق.

إن دراسة وتحليل تاريخ الحزب الشيوعي العراقي يفترض استناده إلى رؤية تاريخية واقعية دقيقة لكي يجري تلافي ما هو مميز للحزب من غلبة التحليل الطبقي السياسي على التحليل السياسي الدستوري القانوني. فالأخير غائب تماماً في التحليل والممارسة المميزة للحزب الشيوعي العراقي. بينما هي قضية عضوية أو بنيوية. وفيما لو يمكننا الحكم على مجمل مسيرته ضمن سياق هذه القضية، فإنه قد خسر في نهاية المطاف كل من الطريق الثوري والراديكالي والليبرالي.

والسؤال الأكثر عملية، الذي يبرز ضمن هذا السياق هو هل أن الحزب الشيوعي العراقي حزب الطبقة العاملة العراقية الهادف لبناء الاشتراكية والشيوعية؟ أم هو حزب التحرر الوطني من الاستعمار البريطاني ونظامه الملكي التابع؟ أم هو حزب ليبرالي لإقامة دولة دستورية قانونية؟ أم هو حزب جامع لكل هذه النوازع؟

وعندما نتأمل تجربته العملية على مدار عقود مديدة، فإن النتيجة الجلية تقوم في انه كان ضائعا بينها جميعا. وقد كان هذا الجانب الفكري المنهجي أحد الأسباب الرئيسية لإخفاقاته شبه الدائمة.

فمن الناحية الاجتماعية والتاريخية الثقافية كانت اغلب الشخصيات الماركسية والشيوعية من جنوب العراق ووسطه، كما نراه على مثال حسين الرحال ومحمود احمد السيد وزكي خيري وعبد القادر إسماعيل ويوسف إسماعيل وغالي زويد وعاصم فليح وقاسم حسن وعباس الكرباس وجميل توما ونوري روفاييل وعبد الله مسعود وعلي شكر  وعبد تمر وغيرهم.

فمن الوقائع والحقائق التاريخية بهذا الصدد هو أن الحركة الشيوعية العراقية قد تراكمت وتشكلت بصورة هيئة سياسية في البصرة والناصرية. ففي عام 1927 جرى تجميع وتأسيس الجماعة الماركسية الأولى في البصرة. وكان بين صفوفها عبد الحميد الخطيب وزكريا الياس وسامي نادر مصطفى وعبد الوهاب محمود. وبعدها بعام (1928) تشكلت مجموعة أخرى في الناصرية تكونت من يوسف سلمان وغالي زويد واحمد جمال الدين. حيث صدر عنها منشوراً كتبه يوسف سلمان (فهد،) بعنوان (يا عمال وفلاحي البلاد العربية اتحدوا). طبع بهيئة منشور عام 1932 موقعا باسم الحزب الشيوعي العراقي.

ومن ثم كانت الولادة الفعلية للحزب الشيوعي في جنوب العراق كما هو واضح مما سبق. وأقيم الكونفرنس الأول للحزب الشيوعي في آذار عام 1944 في بيت علي شكر في الشالجية. بينما جرى المؤتمر الأول للحزب في آذار 1945 قي دار يهودا صدّيق في الكرخ. وقد كانت القيادة الأولية والتأسيسية للحزب من الجنوب أيضا بشخصية يوسف سلمان يوسف (فهد). فقد كانت  مقدرة فهد السياسية والتنظيمية تفوق قدرات الآخرين بصورة كبيرة جدا. الأمر الذي اعطى له إمكانية القيادة الفاعلة والمهيمنة على الآخرين. وهي حالة أدت إلى نتائج سلبية أيضا ظهرت للمرة الأولى عام 1946 وما تلاها لاحقا، بما في ذلك قبل وبعد ثورة 1958. ومن الممكن الاشارة هنا إلى كل من (رابطة الشيوعيين العراقيين) بقيادة داود الصايغ، و(اللجنة الوطنية الثورية بقيادة) زكي خيري فهي مؤشرات على حب الزعامة بأثر التأثير الخفي والغير المباشر للتقاليد التي جرى غرسها بأثر الهيمنة شبه المطلقة لسلمان يوسف (فهد)، أو تكونت بطريقة عادية في ظل البنية الاجتماعية البسيطة والأبوية في العراق آنذاك. كما أن من الممكن رؤيتها في كل تاريخ الحزب وبنيته التنظيمية التي تتميز بالخضوع شبه التام للقيادة أيا كان مستواها المعرفي والتنظيمي والسياسي والذهني والأخلاقي.

 فبعد اعتقال فهد في كانون ثاني عام 1947 تحولت قيادة الحزب الى يهودا صديق. غير انه كان من الصعب آنذاك للأغلبية استساغة هذه القيادة. بينما طالب فهد من السجن أن يتولى مالك سيف قيادة الحزب. وترتب على ذلك انتقال مالك سيف من البصرة إلى بغداد لقيادة الحزب الشيوعي.

لقد ماطل يهودا صدّيق في تسليم قيادة الحزب لمالك سيف. لكن وثبة كانون الثاني 1948 غيرت مسار الأمور. وكما ينقل حنا بطاطو، فإن فهد طالب بتكليف كامل قزنجي للتحضير لوثبة 1948. وقد كان الشيوعيون بالفعل القوة الأساسية للوثبة. وبهذا تكون هذه الوثبة أيضا أول اختبار كبير للحزب الشيوعي، إذ وضعته من الناحية الفعلية على هرم الأحزاب السياسية. بعبارة أخرى، إنها رفعته إلى مصاف القوة السياسية الأكثر فاعلية وقوة في العراق. وفي الوقت نفسه، وضعته أمام مجابهة القمع من جانب السلطة. فقد اصيب يهودا صدّيق ومالك سيف بالانهيار المعنوي والسياسي بأثر ارهاب السلطة الملكية. وجرى استكمال هذه العملية بإعادة محاكمة قادة الحزب آنذاك (فهد وحازم وصارم) أمام محكمة عسكرية في العاشر من شباط عام 1949 ثم إعدامهم في الرابع عشر والخامس عشر على التوالي من نفس العام. واستكملت هذه المرحلة المتناقضة من صعود الحركة الثورية والهجوم المضاد في ظاهر كبرى متلازمة آنذاك مثل أحداث فلسطين وتقسيمها، والأحكام العرفية، وضرب الحركة الوطنية العراقية، وإعدام فهد قائد الحزب منذ تأسيسه عام 1934.

لقد أدت قيادة فهد للحزب إلى وضع أسس الإمكانيات اللاحقة الكبرى في التاريخ السياسي للحزب والحركة الاجتماعية والوطنية العراقية ككل. لقد كانت عوناً في سد فراغ القيادة السياسية. فقد اعانت شخصيته ما قام به الحزب عشية انتصار ثورة تموز 1958. كما أعانت ذخيرة جيل السبعينيات من الشيوعيين الحزب لحين تتوفر ظروف وإمكانية تصحيح مساره ومواقفه الخاطئة. ولعل أهمها هو ايقافها ظاهرة وعملية تكريد الحزب الشيوعي من قبل اشخاص مؤثرين آنذاك. مع أنها مهمة مستحيلة التحقيق. وكذلك توظيف وتوريط الحزب في مواقف سياسية خاطئة وغير وطنية، أو نحره بين عجلات القوى الكردية المسلحة، كما يقول عزيز شريف.

فمن الناحية الفعلية افتقدت أغلب هذه القيادات السياسية إلى الكفاءة النظرية والعملية. فقد كان كل من حميد عثمان وبهاء الدين نوري يفتقدون لأبسط مقومات القدرة الفكرية والسياسية والتنظيمية لسد الفراغ الذي انتجه إعدام فهد. وفي الوقت نفسه كان التطور الاجتماعي والثقافي في العراق يفوق إمكانياتهم بدرجة يصعب وصفها.

والسؤال المترتب على ذلك هو كما يلي: كيف كان من الممكن سد هذه الثغرة الواسعة جداً بين إمكانيات قيادية محدودة وتطور اجتماعي سياسي كبير ونمو سياسي للحزب الشيوعي؟

إن المسار الفعلي للحزب الشيوعي العراقي بهذا الصدد يكشف عن أن مرحلة ما بعد فهد انتجت شخصيات حزبية وليست سياسية بالمعنى الدقيق للكلمة. أما بمعايير الفكرة السياسية الرفيعة فإننا نقف أمام ما يمكن دعوته بفترة الشيوعيون الأطفال. وأن قادته الجدد هم صبية ومراهقين. ويمكن رؤية أهم ملامحها آنذاك في ثلاث ظواهر وهي ظهور هيئات غير مفوضة؛ وانشقاقات عديدة كما جرت في تشرين ثاني عام 1948 وحزيران  1948؛ وكثرة الأكراد في اللجان غير المفوضة.

ففي مجرى قيادة حميد عثمان للحزب، كما يقول بهاء الدين نوري في مذكراته، جرى تحطيم خمس مراكز قيادية، إضافة إلى إعدام قادة الحزب الثلاث (فهد وحاز وصارم) ما بين تشرين أول 1948 وحزيران 1949. وبقي المركز الحزبي السادس بقيادة بهاء الدين نوري بتوصية من حميد عثمان قائد المركز الخامس للحزب. يقول بهاء الدين نوري انه كان يفتقد لأية خطة متعلقة بالنشاط السياسي أو العمل التنظيمي. وهنا يظهر السؤال التالي: من الذي وضع حميد عثمان في المركز القيادي الخامس؟ ومن هم قادة المراكز الأربعة الذين سبقوه؟ لماذا اختار حميد عثمان بهاء الدين نوري لقيادة المركز الحزبي؟

كل ذلك أدى إلى فقدان الحزب لقيادة سياسية لفترة طويلة. ويذكر بهاء الدين نوري انه شكّل لجنة مركزية بعد تحطم اللجنة المركزية التي جرى تشكيلها في المؤتمر الأول للحزب عام 1945 والتي كانت تضم ناصر عبود وصادق جعفر الفلاحي وكريم احمد ومحمد شبر وسليم الجلبي وكاكا فلاح. بينما غابت هذه الأسماء كلها في جداول اللجنة المركزية التي شكلها بهاء الدين نوري، وفقاً لحنا بطاطو. كما أن بطاطو نفسه لا يتوقف طويلا عند هذه الفترة. أما مذكرات بهاء الدين نوري عن هذه الفترة فمبتورة أو ناقصة. كما لم يجر تغطية هذه الفترة من جانب أي طرف آخر في الحزب. فهي فترة تتسم بالغموض وإنعدام معلومات مفصلة عنها.  (يتبع...)

****

يوسف محمد طه

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم