صحيفة المثقف

الحزب الشيوعي العراقي بين احتلالين (9)

الانقلابات العسكرية وتعطيل المسار التاريخي للدولة العراقية

لقد كان لظاهرة الانقلابات العسكرية وقعها وأثرها، ومن ثم أدوارها وأهدافها المختلفة في حياة الدول، لكنها تتوحد في الخروج على قواعد النظام الديمقراطي والشرعي. فلكل منها ظروف وأدوار وأهداف خاصة ومتباينة نسبيا في أمريكا اللاتينية والعالم العربي والباكستان وغيرها من الدول.

فمن الناحية التاريخية كانت الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية فاتحة هذه الظاهرة على الصعيد الدولي. واتسعت لاحقاً لتشمل العديد من البلدان. وكانت الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية جزء من استراتيجية وتكتيك الولايات المتحدة في اخضاع القارة اللاتينية لسيطرتها.

أما في العراق وسوريا ومصر فقد كانت ضد الحياة السياسية الديمقراطية. وكان هذا سبب أساسي لانتكاساتها وأزماتها المختلفة. إذ لم تكن جميع هذه الانقلابات العسكرية تهدف إلى إقامة حياة سياسية ديمقراطية. ومن ثم تعمل على اجازة مختلف الأحزاب السياسية وإنهاء الفترة الانتقالية بأسرع ما يمكن عبر القيام بانتخابات حرة تحضر لجمعية تأسيسية من اجل بناء دولة دستورية قانونية. وقد اتسمت كل الانقلابات العسكرية بعملها بالدستور المؤقت والفترة الانتقالية المفتوحة. بحيث حولت المؤقت إلى دائم، بل أبدي! والاستثناء النموذجي الوحيد في الانقلابات العسكرية هو ما حدث في البرتغال عام 1974.

وفي العراق أصبح الانقلاب العسكري بعد الاطاحة بالملكية (وهو أيضا بأثر انقلاب عسكري فتح بدوره الطريق لهذا النمط في التحولات السياسية) النموذج السائد والفعال في الانتقال إلى السلطة والتحكم بها. ولعل الانقلاب الذي قاده حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1963 و1968 النموذج الأكثر "كمالا" لهذا النوع من انتقال السلطة والتحكم بها. والمميز له انه جرى بأثر تحالف حزب البعث وعمله مع السفارات الأجنبية وشركات النفط وجمال عبد الناصر من اجل إجهاض الجمهورية ونظامها السياسي الجديد. وهو انقلاب يتحمل مسؤولية الأساسية كل من عبد الكريم قاسم وقيادة الحزب الشيوعي. وليس مصادفة ان تكون أول أعمال هذا الانقلاب القضاء على عبد الكريم قاسم وقيادات الحزب الشيوعي. إذ جرى اعتقال سلام عادل في العشرين من شباط واستشهد بعد أربعة أيام من التعذيب الوحشي. وكذلك جرى اعتقال وقتل جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي في الحادي والعشرين من تموز لنفس العام.

غير أن الانقلاب الدموي لحزب البعث المتحالف مع مراكز القوى الامبريالية آنذاك (بريطانيا والولايات المتحدة) لم يمر، كما يقال، مرور الكرام! إذ جرت مواجهته بصورة اجتماعية من جانب الجماهير، وبصورة فردية وجماعية من جانب اعضاء الحزب ومؤازريه وليس من جانب قيادة الحزب المتبقية. ولعل حركة وانتفاضة معسكر الرشيد في الثالث من تموز لنفس العام (1963) بقيادة البطل الشهيد حسن سريع النموذج الأكثر تجسيدا ورفعة لذلك. ولهذا قيل "حسن حي ومثلك لا يموت". ولا يغير من طبيعة الحكم عليه تعرضه للهزيمة.

إن السبب الرئيسي لإخفاق حركة حسن سريع يعود إلى انهيار احد الجنود المكلفين بالاستيلاء على الإذاعة من اجل إذاعة البيان الأول. وتوجه عبد السلام عارف على دبابة رئيس العرفاء المنهار بعد الاستفادة من كلمة السرّ التي سلمها للانقلابين. مما سهل عليهم السيطرة على معسكر الرشيد. وهناك روايات مختلفة بهذا الخصوص. فهناك من يعتبر إن إخفاق الحركة يعود إلى عدم تنسيقها مع الحزب. وهو رأي منافق ومختلق وكاذب ومظلل. وذلك لأن حركة حسن سريع طلبت التعاون والمساندة من تنظيمات الفرات الأوسط وفقاً لمذكرات عدنان عباس. كما لم تستطع تأمين الصلة مع الحيدري. أما أولئك الذين ينتحبون في المدرسة الحزبية في موسكو والذين يعتبرون أنفسهم القيادة المرتقبة، فقد كانوا جميعهم عناصر تتسم بقدر هائل من الانحطاط المعنوي والأخلاقي والسياسي. وفيهم يمكن البحث عن كوارث الحزب اللاحقة.

ولعل اجتماع براغ الذي "انتخب" اسوء شخصية في تاريخ الحزب الشيوعي العراقي سكرتيراً له هو نتيجة منطقية لهذه الروح الخربة. فقد اعاد هذا الاجتماع الاعتبار لأعضاء الكتلة الرباعية بدلاً من طردهم باعتبارهم يتحملون مسؤولية شل إرادة الحزب. أما المجموعة التي حضرت لاجتماع براغ فهم كل من عزيز محمد وباقر ابراهيم وعامر عبد الله وبهاء الدين نوري وناصر عبود وحسين سلطان ونزيه الدليمي وآرا خاجودور وصالح دكلة وثابت حبيب العاني. وأقر الاجتماع صيغة وضعها عامر عبد الله وباقر ابراهيم. وعندما نتأمل الأشخاص الذين حظروا وشاركوا في مؤتمر براغ يرى هذا الخليط العجيب، الذي يعكس مع ذلك عدم مبدئية الحاضرين جميعاً دون استثناء. الأمر الذي ترتب عليه لاحقا نتائج سلبية مدمرة لم يخرج الحزب منها وعليها لحد الآن. لقد كشفت حركة حسن سريع إلى أي مدى كانت قوة الحزب الشيوعي، وكذلك إلى أي مدى شل التكتل الرباعي إرادة الحزب، ومن ثم كم كان مسئولاً عن انتكاسة الحزب الشيوعي نفسه. فقد امتلك حسن سريع الشاب البالغ من العمر آنذاك خمسة وعشرون عاما الجرأة والشجاعة في ظروف جداً صعبة وقاسية، لم تمتلكها القيادة "الرسمية" للحزب الشيوعي. إذ تمكن بما يقل عن مائتي عسكري من احتلال معسكر الرشيد واعتقال حازم جواد وزير الداخلية وطالب شبيب وزير الخارجية ومنذر الونداوي قائد الحرس القومي.

ويذكر عدنان عباس في مذكراته إن ثوار حركة الثالث من تموز بقيادة البطل الشهيد حسن سريع طلبت التعاون والمساندة من قبل تنظيمات الفرات، والتي كانت على استعداد لدعم الثوار. أما ثابت حبيب العاني فقد أكد على أن الحركة خير شاهد على الطاقة الثورية التي تختزنها جماهير الشعب العراقي، والتي شكلت تحدياً شجاعاً ومظهراً من مظاهر معارضة ردة شباط. كما كانت هناك تحركات في كتائب الدبابات الثالثة والرابعة في معسكر ابو غريب. أما أسباب إخفاقها فيعود بنظر العاني إلى كل من افتقارها للتخطيط الدقيق، وأنها حدثت في وقت غير ملائم، إذ انها جرت بعد الضربات الشديدة للحزب الشيوعي، وان من تبقى من قيادة الحزب لم يستطع المشاركة في الحركة لغياب الصلة.

لقد ركزت حركة حسن سريع على السجن رقم واحد، حيث كان فيه عدد كبير من الضباط. وهو مؤشر على قوة الحزب الشيوعي العراقي الفعلية في الجيش العراقي بصورة عامة وفي صفوف الضباط بشكل خاص. وهذه إدانة إضافية للتكتل الرباعي الغارق في نزاعه الضيق والأناني مع سلام عادل. أما ما يسمى بالعجالة في حركة حسن سريع، فإنها ليست دقيقة، وذلك لأن الحركة عرفت بأن الانقلابين كانوا يخططون لنقل سجناء السجن رقم واحد يوم الخامس من تموز عام 1963. بمعنى أنها تسرعت من اجل انقاذ الضباط ومن ثم اشراكهم في انقاذ الثورة من رذائل الانقلابيين. وليس غريبا أن تكون هذه الحركة قد اثارت الرعب في صفوف الحكم الانقلابي. وفي الوقت نفسه أدت هذه الحركة، كإحدى سلبياتها، إلى التسريع بالكشف عن جمال الحيدري ومحمد صالح العبلي وعبد الجبار وهبي وإعدامهم.

وبأثر ذلك ظهر ما اطلق عليه لاحقا اسم "قطار الموت"، بوصفه احد أشنع الجرائم التي اقترفها عملاء الثامن من شباط عام 1963على أثر فشل حركة حسن سريع. حيث جرى نقل أكثر من مائة شيوعي معتقل في سجن معسكر الرشيد إلى السماوة في قطار من عربات الشحن الحديدية في شهر تموز. وهو شهر يتميز في العراق بارتفاع درجة الحرارة إلى اقصى درجة. مما عرض المعتقلين لخطر الموت. وقد استشهد فعلاً عدداً منهم.

إن جريمة "قطار الموت" كانت وما تزال وينبغي أن تبقى مادة حية للإلهام الفكري والسياسي والأدبي والفني والسينمائي. (يتبع....).

***

يوسف محمد طه

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم