صحيفة المثقف

العولمة وقضايا البدائل السياسية (2)

يكشف الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي للرأسمالية العالمية الحالية عن توجه لاعقلاني أكثر من أي وقت مضى. إذ تقف مصالح رأس المال عقبة أمام ترتيب الإمكانيات الاقتصادية والسياسية الهائلة للعالم بطريقة عقلانية جديدة. وبذلك يدخل رأس المال مرحلة نوعية جديدة، تتميز بتناقض داخلي عميق يقوم في تفاؤل راس المال بحكم وضعه السياسي الاقتصادي وعبثه وتشاؤمه في نفس الوقت. وهو تناقض يتجسد حاليا بهيئة إشكالية عالمية هي إشكالية سياسية، يشكل حلها المقدمة الضرورية لإعادة صياغة المجتمع العالمي وفق فكرة بديلة. فهي المقدمة الضرورية لإجراء إصلاحات شاملة. ويتطلب ذلك تجاوز مصالح رأس المال، إضافة لعقبات أخرى. فاتفاقية الغات، على سبيل المثال، ليس بإمكانها في ظل الوضع السياسي الراهن حل المشاكل الاقتصادية العالمية، أي ما لم تحل الإشكالية السياسية العالمية فإن من الصعب توقع حلول شاملة للوضع الاقتصادي العالمي.

فالعقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة ضد كوبا وإيران وليبيا والعراق وغيرها تتعارض مع تحرير التجارة العالمية. كما أن مساعي الولايات المتحدة زعزعة استقرار العملات الأوروبية والين الياباني يتعارض مع تحرير التجارة العالمية. وفي نفس الوقت تمارس الولايات المتحدة عملا تخريبيا دائما ضد الاحتكارات الأوروبية واليابانية لصالح احتكاراتها. وهو فعل يتعارض أيضا مع تحرير التجارة العالمية.

إن رأس المال يعطل استثمار المعادلة الاقتصادية الاجتماعية للأرباح في العالم المعاصر بطريقة نفعية ضيقة خالصة. في الوقت الذي يتيح فيه الوضع العالمي الراهن اقتصاديا إمكانية كبيرة للعقل الإنساني بحساب أدق العمليات الاقتصادية بصورة رياضية.

إن الركود المديد الراهن للرأسمالية يشير إلى درجة اللاعقلانية الاجتماعية التي بلغتها الرأسمالية. ويقتضي ذلك بالضرورة استثارة أهمية العامل السياسي وتفعيل دوره لإنهاء دور رأس المال في النشاط الاقتصادي من اجل صنع شروط إدارة  المجتمع لنفسه. لاسيما وان هناك أقساما لا يستهان بها جديدة من أوساط الفئات السياسية في أوروبا والولايات المتحدة أخذت تدرك اكثر فاكثر ضعفها الذاتي تجاه الاستبداد الجديد لرأس المال الاحتكاري العالمي.

فالرأسمال الاحتكاري العالمي لن يصطدم تلقائيا بتدهور معدل الربح. لذا فان من الضروري أن يصطدم المجتمع برأس المال الاحتكاري العالمي، بسبب اللاعقلانية الاجتماعية للأخير. كما يفترض ذلك ضرورة قيام تحالف اجتماعي عالمي مناهض لتحكمه في مصير البشرية. وهو تحالف له قدراته الذاتية الهائلة وبالأخص في الميدان السياسي. فالصوت السياسي للبشرية أقوى حاليا من "صوتها" الاقتصادي. بينما الصوت السياسي للاحتكارات العالمية أضعف من "صوتها" الاقتصادي. وإذا كانت الاحتكارات توظف بصورة ناجحة إمكاناتها الاقتصادية، فإن المعارضة العالمية المجزأة حاليا لم تتقن بعد توظيف صوتها السياسي بالشكل الذي يخدم بصورة عملية ناجحة أهدافها الكبرى. ذلك يعني إن الوضع العالمي من الناحية السياسية ليس لصالح الاحتكارات العالمية. وفي نفس لوقت لم تتبلور بعد حركة سياسية عالمية بمستوى الاحتكارات العالمية من حيث رؤيتها وأسلوبها العملي في المواجهة. من كل ذلك نستطيع الوصول إلى الاستنتاج القائل، بإن الأوضاع العالمية الحالية توفر فرصة كبيرة لنجاح نشاط سياسي عالمي قائم على عقلانية اجتماعية قوامها مختلف المجتمعات المحلية تقف بوجه حفنة محدودة من الاحتكارات العالمية والدكتاتوريات المتخلفة.

هناك حالياً خمسمائة شركة عالمية تنتج نصف قيمة السلع المادية في العالم، أي أن البشرية بحاجة إلى خمسمائة شركة عالمية. بينما سيقلل التمركز والتركيز هذا العدد. وفي هذه "الحالة السيئة" حسنة تقوم في أنها تبرهن على إمكانية اكتفاء البشرية من حيث حاجاتها الضرورية. والاقتراب من هذه الحالة "المثالية" سيوفر شرطا يصعب تجاوزه من الناحية المنطقية والإنسانية بالنسبة للحسابات الاقتصادية المتعلقة بساعات العمل الضرورية لإعادة إنتاج المجتمع، وما هو عدد الساعات الضرورية لإعادة إنتاج رأس المال الثابت ورأس المال المتغير. ولن يكون الاقتصادي بحاجة إلى ضغوط وتوترات السوق والبورصة لتوزيع الموارد الاقتصادية. وعند بلوغ النشاط الاقتصادي نظام المرونة الكاملة، فإن عقلنة الإنتاج وإعادة الشفافية إليه تستلزم تجاوز همجية رأس المال.

إن منظمة التجارة العالمية غير كافية لمواجهة القضايا الاقتصادية والإشكاليات السياسية الراهنة للبشرية، التي تنتجها العولمة المعاصرة. وذلك يتطلب مشروعية جديدة تتحمل المسؤولية الكاملة تجاه القضايا الكبرى والأساسية للبشرية. إذ لا تعني منظمة التجارة العالمية الحالية سوى حرية رأس المال الاحتكاري العالمي في ترتيب الاقتصاد العالمي وفقاً لمصالحه وإرادته، وكذلك حريته التامة بالنسبة لتحديد "مجاله الحيوي". إذ تسعى منظمة الغات إلى توليد نظام عالمي لتجارة رأس المال الاحتكاري. لهذا فإنها ليست قادرة على إيجاد حل للإشكاليات السياسية العالمية الكبرى، بل أنها غير معنية بذلك. ويمكن القول، بأنها قد تكون وسيلة لأجل الالتفاف على مثل هذا الاستحقاق السياسي العالمي. ثم إن منظمة الغات نفسها ليست قادرة على أن تكون إطاراً كافياً وملائماً لحل صراعات رأس المال الاحتكاري العالمي نفسه.

وفيما يتعلق بالعالم العربي، فانه ليس من مصلحته الانضمام بصورة آلية لمنظمة التجارة العالمية. بل بإمكانه تطوير وضعه الاقتصادي السياسي خارج هذه المنظمة. والعمل على إيجاد مساومات قادرة على صنع إدارات سياسية عالمية تأخذ على عاتقها مسؤولية إدارة الوضع العالمي. وهي حالة تفترض إسنادها ثقافيا من خلال اعتماد حصيلة الثقافة الإسلامية رصيدا روحيا أو مرجعية ثقافية كبرى قادرة على توسيع قاعدتها الاجتماعية ومحيطها السياسي. وفي حالة عجز العرب عن تحقيق ذلك، فإن العولمة الرأسمالية في هذه الحالة، تعتبر حالة تقدمية بالنسبة للعالم العربي المعاصر أيضا، استنادا إلى أن العالم العربي والإسلامي سيشكلان في أي عولمة ديمقراطية قوة سياسية كبيرة.

إن تحرير التجارة العالمية يقتضي قيام "دولة عالمية" تتحمل مسؤولية كبرى أمام البشرية. وبما أن الإشكاليات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والبيئية التي تواجه منظمة التجارة العالمية اكبر من أن تحلها بمفردها، لذا يصبح من الضروري وجود إطار سياسي أكبر وديمقراطي حقاً، قادر على حل مشاكل الهجرة والقوانين الاجتماعية والممارسات التجارية والبيئة وغيرها من المشاكل الصعبة التي تواجه منظمة التجارة العالمية.

الأشكال السياسية للعولمة الرأسمالية

السؤال الذي يبرز للوهلة الأولى عندما نتناول قضية الأشكال السياسية للعولمة الرأسمالية هو كيف ولماذا نشأت الإشكالية السياسية للترابط والتشابك العالمي العاصر؟ والجواب يبدو للوهلة الأولى بسيطا للغاية. انه يقوم في إدراك الحقيقة القائلة، بان هذه الإشكالية مرتبطة ببلوغ الترابط والتشابك مداه الأقصى والمباشر من حيث الآلية والتأثير. فما يحدث في آسيا يؤثر في أمريكا وما يحدث في أوروبا يؤثر في آسيا وأمريكا، وما يحدث في الاقتصاد يؤثر في السياسة، والعكس صحيح. إن ما يحدث في أي مكان في العالم يؤثر في بقية أنحاء العالم وبصورة فورية وآنية، وما يحدث على الأرض يؤثر في الغلاف الجوي للأرض، وما يؤثر في الغلاف الجوي للأرض يؤثر على الحياة الإنسانية على الأرض. وتنتقل هذه التأثيرات بصورة سريعة وآنية مؤثرة على الأوضاع الآنية السياسية.

وجعل هذا الواقع الجميع يدركون النتائـج الكارثية لحرب كونية ثالثة. فضلاً عن أن الحرب الكونية غير قادرة على حل هذه الأشكال السياسية للترابط والتشابك العالمي. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ما زالت تسخر القوة العسكرية لمصالح احتكاراتها الخاصة، وعلى الرغم كذلك من  توفر إمكانيات جديدة على النطاق العالمي لتقيد النزعات العسكرية في الحياة السياسية، إلاّ أن ذلك يتطلب نشاطاً عالمياً من قبل القوى السياسية التي يهمها تقييد النزعة العسكرية في الحياة السياسية العالمية تمهيداً لتحييدها وإنهاء دورها.

والحل الوحيد الممكن هنا ينبغي أن يعتمد على حل إشكاليات الترابط والتشابك العالمي بالطرق السياسية والاقتصادية. فالعالم المعاصر يمتلك قدراً كبيراً من البراغماتية في السياسة الدولية. كما تمتلك منظمات دولية كثيرة قدرات يمكن تطويرها بالشكل الذي يجعلها اكثر فاعلية على استيعاب وحل هذه الإشكالية السياسية.

فمن الناحية العلمية المتعلقة بكيفية النشوء البشري والعمران ندرك بان التجمعات البشرية البدائية نشأت بصورة منفصلة ومنعزلة، وأن الصلات بين هذه التجمعات البدائية نشأت بصورة لاحقة، وبالأخص بعد تطور وسائل الاتصال. وقد كان تطور هذه الصلات بطيئاً للغاية في المراحل المبكرة. ولكنه اخذ بالتطور تبعا لأسباب عديدة ومختلفة تبعاً للحالة الملموسة. وشكلت الثورة الصناعية والرأسمالية قفزة كبرى بالنسبة لتطوير وتعميق هذه الصلات والروابط. ولعبت الثورة التكنولوجية والثورة المعلوماتية والاحتكارات العالمية دورا هائلا في توسيع وتعميق الترابط العالمي، بحيث جعلت منه في نهاية المطاف إشكالية سياسية. كما يزداد هذا الدور اطراداً. إلاّ أن الاحتكارات العالمية تتلكأ في إنجاز حل الإشكالية السياسية للترابط والتشابك العالمي. فقد كان رأس المال يهدف موضوعيا للتوسع الداخلي والخارجي. ومنه وفيه يظهر الترابط السياسي، الذي يبدو ظاهريا أقل من الترابط الاقتصادي. وهو الأمر الذي يجد تعبيره في تخلف وغياب الجانب التشريعي للترابط والتشابك العالمي.

إن استعراض مظاهر التشابك والترابط العالمي، التي تتطور باستمرار يعكس الحاجة إلى إدارة سياسية عالمية جديدة، وإلى شرعية جديدة. بحيث يجعل بدوره من الضروري البحث عن وسائل فكرية وعملية جديدة للتعامل مع هذه الحالة. وكذلك تطوير ما هو موجود، لكي يستوعب هذه التطورات الجديدة. أي العمل على إيجاد صيغة قادرة على توليف الإمكانية والحاجة والفكرة للإدارة الشرعية العالمية الجديدة عبر تذليل العقبات وفضح القوى العالمية الجلية منها والمستترة، التي تدعي العالمية وتسعى لأجلها (بصورة ضيقة)، ولكنها تقف فعليا بالضد من تجسيدها في تشريعات ومؤسسات عالمية.

ليس هذا الوضع جديداً في التاريخ السياسي. فإذا كان حل الإشكالية السياسية الوطنية بصورة دستورية وقانونية استلزم تضحيات هائلة، فإن حلها على النطاق العالمي بصورة قانونية ودستورية من خلال تطوير المؤسسات الدولية القائمة، سوف يتطلب فيما يبدو تضحيات أكبر (يتبع....).

***

يوسف محمد طه

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم