صحيفة المثقف

في مفهوم اللغة العربية.. التشاكل بين العامية والفصحى

علي اسعد وطفةإن الذي ملأ اللغات محاسناً***جعل الجمالَ وسرّه في الضّاد .

أحمد شوقي

اللغـة اختراع تفرد به الإنسان في مملكة الكائنات الحية، وفي عمق هذا الاختراع تكمن عبقرية الإنسان اللسانية التي مكنته من اختزال الوقائع في رموز وصور وإشارات تتداخل وتتكامل في نظام لغوي بالغ التعقيد. وقـد هيـأت اللغة، بوصفها ظاهرة اجتماعية نفسية بيولوجية، المخاض لولادة فـروع علميـة لسانية، تبحـث في نشأة اللغة وتاريخها وأشكالها وقانونية وجودها. (وطفة، 2011، 289).

يمكننا تعريف علم اللغة (Linguistics) ببساطة بأنه الدراسة العلمية للظواهر اللغوية بحثا في طبيعتها واستكشافا لأنساق تفاعلاتها الداخلية والخارجية. وعلم اللغة يدرس بنية اللغة فيما يتعلق بأصواتها Phonetics, Phonology وبنية كلماتها Morphology وتشكيلات جملها Syntax ودلالاتها ومعانيها Semantics (حجازي،1997،17).. واستطاع رواد هذا العلم أن يطوروا البحث العلمي في هذا المضمار، وأن يؤسسوا لمناهج علمية جديدة تتناسب مع القضايا اللسانية والظواهر اللغوية، واستطاعوا في نهاية الأمر ترسيخ منظومة متكاملة من التقاليد العلمية والمناهج البحثية في مختلف مناحي واتجاهات الظاهرة اللغوية.

وفي خضم التطور الذي شهدته الدراسات والأبحاث اللسانية ظهرت فروع علمية لسانية متعددة أبرزها علم اللغة الاجتماعي (Sociolinguistics) الذي يعنى بدراسةِ العلاقة بين اللغة والمجتمع بوصفها ظاهرة اجتماعية. ويندرج تحت هذا العلم فروع أخرى كعلم اللهجات (Dialectology)، و التخطيط اللغوي (Language Planning)، والتحول اللغوي (Language Shift)، والموت اللغوي (Language Death).

ويعود إلى دوركهايم Durkheim فضـل السـبق في النظر إلى اللغة في جوانبها الاجتماعية، ويتبـدى ذلـك حين يقرر منذ البداية أن اللغة ظاهرة اجتماعية، أو "شيء اجتماعي" بالدرجة الأولى (Grawitz, 1984, 314). وتجد رؤية دوركهايم هذه تعزيزا لها في أفكـار جـون ديـوي Dewey الـذي ينظـر إلى اللغة بوصفها نمطا من السلوك الاجتماعي. هذا ويجمع كل من دوركهايم وديوي وساسور Saussure على أهمية العلاقة التي تربط بيـن اللغة والحياة الاجتماعية، كما يجمعون على أهمية الشروط الاجتماعية للغة بوصفهـا الإطار الموضـوعي لنمـو اللغة وتطورها وتباينها بتباين المجتمعات الإنسانية. وتأسيسا على هذا التصور يعلن كثير من الباحثين والدارسين أن البحث اللغوي في مجال المجتمع يمكن من استكشاف معمق لمختلف القضايا الاجتماعية في المجتمع.

واستطاع عالم اللسانيات المعروف إدوار سابير أن يستكشف العلاقة الجوهرية بين اللسانيات والحياة الاجتماعية في دراساته وأبحاثه الأنتروبولوجية المعمقة حول اللغة والمجتمع، فوضع الأسس المنهجية لدراسة العلاقة بين الأنتروبولوجيا واللغة. ويرى سابير في هذا الصدد أن اللغة الأم التي يتكلمها أبناؤها ويفكرون بواسطتها تنظم تجربة المجتمع وتصوغ المعالم الأساسية لوجوده وكينونته الذاتية لأن اللغة – كل لغة - تنطوي على رؤية مميزة وخاصة للعالم، واستطاع ساسور بعبقريته المعهودة أن يكتشف "أن جزءا كبيرا من العالم الحقيقي يوجد بشكل لاشعوري في العادات اللغوية لشعب ما (بركة،2002،84). وفي هذا الاتجاه يقول عالم النفس الأمريكي دينلاب Dunlap: "إنه يمكننا أن نعـرف أشياء كثيرة عن حياة الشعوب والأمم عن طريق دراسة وتحليل اللغات التـي تتكلمهـا" (عبد الواحد،1951،99).

2- في مفهوم اللغة:

جاء في القول في القول المأثور أن " اللغة تفكير منطوق والتفكير بأنه لغة صامة".

ويعرف ابن خلدون اللغة بقوله: «اللغة في المتعارف هي: عبارة المتكلم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل اللسان، ناشئة عن القصد في إقامة الكلام. فلا بد أن تكون ملكة مقررة في العضو العامل لها وهو اللسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم» (أحمد، 1991).

ويعد تعريف ابن جنّي (المتوفى 392 هـ) للغة في كتابه "الخصائص" من أكثر التعريفات تواترا وتأثيرا إذ يقول في تعريفها: " أما حدّها فإنها أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم". وهذا التعريف يتضمن في جوهره مختلف المعطيات الحديثة لعلم اللسانيات في مجال تعريف اللغة، ويتوافق مع معظم النظريات الحديثة التي عرّفت اللغة (حجازي، 1997، 10). ويتطابق تعريف ابن جني مع التعريف الذي جاء في لسان العرب، وفيه " أن اللغة هي أصوات يعبر بها كل قوم عن أغراضهم "(ابن منظور، 1300، 116).

وجاء في المعجم الرائد عن تعريف اللغة الفصحى بأنها: كل لغة نهجية تخضع لقواعد الصرف والنحو ولأصول التركيب اللغوي. وهي لغة الأدب والعلم ووسائل الإعلام والصلاة وما إليها. وعكسها « اللغة العامية»، وهي اللغة المحكية. (المعجم: الرائد). وجاء في معجم اللغة العربية المعاصر أن اللُّغة العربيَّة الفُصحى: لغة القرآن والأدب، وهي لغة خالصة سليمة من كلِّ عيب، لا يخالطها لفظ عاميّ أو أعجميّ، خلاف العاميّة ". ويحرص الخطباء والدعاة على استخدام الفُصحى في كلامهم، - تذاع نشرات الأخبار باللغة العربية الفُصحى ".(معجم للغة العربية المعاصر).

فاللغة كما تنص عليه هذه التعريفات القاموسية: ألفاظ وضعت لمعان، وهي لسان القوم به يتعارفون ويتواصلون. هذا يعني أنها كلام يتفق عليها الناس في مجتمع محدد ويحددون نسق الدلالات فيه والمعاني وطرق الاستخدام. ولا يخرج المحدثون كثيرا عن هذا السياق القاموسي في تعريفهم للغة، وعلى هذا النحو يعرف ناصر الدين الأسد اللغة فيقول:"بأنها ماهية دلالية قوامها حروف وأصوات: حروف حين تكون مكتوبة، وهي أصوات حين تكون ملفوظة منطوقة. ولكنها في دورها وحقيقتها إنما هي معان ومدلولات تصبح أحيانا صورا بيانية وخاصة حين تنضو اللفظة إلى غيرها في سياق من الكلام"(الأسد، 2004،16). " ويتطرق الأسد إلى وظيفة اللغة بوصفها أداة اتصال وتفكير فيقول: " واللغة بما تكتنزه من معان ودلالات وأحاسيس وسيلة للتفكير، كما أنها وسيلة للتعبير والتواصل بين الناس " (الأسد،2004،17).

ومن أكثر تعاريف اللغة تداولا اليوم التعريف الذي يقول " إن اللغة نظام رمزي يستعمل للاتصال بين بني البشر وهو يتكون من عناصر متناسقة أصغرها الأصوات وأكبرها الجمل والعبارات" (بغول، 2004). واللغة كما يرى عدد كبير من المفكرين أكثر من الكلام وأعمق من الكتابة وأشمل من التفكير، وعلى هذه الصورة يراها يحيى الرخاوي الذي يقول: " إن اللغة هي الأصل، وهي التركيب الغائر للكيان البشري، والكلام إحدى مظاهرها"(الرخاوي، 2003). ويرى السيد "أنّ مفهوم اللغة مفهوم شامل وواسع، لا يقتصر على اللغة المنطوقة، بل يشمل المكتوبة أيضا، ًوالإشارات، والإيماءات، والتعبيرات الوجهية التي تصاحب عادة سلوك الكلام"(السيد، 1988،11).

ومن التعريفات الشمولية التي أعطيت للغة التعريف الذي يسوقه محمد عبد القادر أحمد فيقول: "اللغة مجموعة منظمة من الرموز الصوتية أو المكتوبة التي ترمز إلى المعاني والأفكار، يتفاعل بواسطتها أفراد المجتمع الإنساني، ويستخدمونها في أمور حياتهم، وبها يتم التواصل والتفاهم بين الناس، ونقل ثقافة الآباء والأجداد إلى الأجيال القادمة، وهي من هذه الزاوية وسيلة اجتماعية تؤدي وظيفة حيوية في الحياة الإنسانية "(أحمد، 1991).

ويؤكد أحمد على الطابع الرمزي للغة فيقول: " اللغة منظومة رمزية كبرى تشتمل على عدد من الأنظمة الفرعية التي يتألف كل منها من مجموعة من المعاني تقابلها مجموعة من المباني المعبرة عن هذه المعاني، ثم من طائفة من العلاقات التي تربط فيما بينها" (أحمد، 1991). وتؤكد هذه التعريفات في أغلبها على اللغة بوصفها أداة تفكير وتواصل واتصال في المجتمع وهي ضرورية للاستدلال على المعاني المتوخاة من كل الرموز والمعاني والدلالات المطلوبة.

ويقدم الرخاوي تعريفا يماهي فيه بين اللغة والوعي والوجود فيقول:" اللغة ليست إضافة لاحقة بظاهر الوجود البشري، الفردي أو الجماعي، بل هي الوجود البشري في أرقى مراتب تعقده، إذ هي التركيب الغائر الذي يمثل الهيكل الأساسي الذي يصدر منه السلوك" (الرخاوي، 2003).

ويميز سوسور في بنية اللغة بين صورتين: فهناك اللغة بوصفها ملكة فطرية في الإنسان، وهناك اللغة بوصفها طاقة رمزية مكتسبة. فاللغة في صورتها الأولى قوة فطرية بطبيعتها يزود بها كل مولود بشري، وهي من أهم السمات الفطرية التي تميز الإنسان عن الحيوان. أما اللغة المكتسبة فهي تنويعات لغوية مكتسبة تأخذ صورة نظام من العلامات التي تتحد بمعانيها (De Saussure,1968, 32).

ويميز بسام بركة ثلاث سمات أساسية للغة في مفهومها الشامل، هي:

أ- اللغة نظام يتغير بتغير المجتمعات تاريخيا ومكانيا وهي دليل على الواقع الاجتماعي.

ب- اللغة مؤسسة ثقافية واجتماعية وهي نسبية متغيرة واصطلاحية.

ج- تقوم بدور مهم في عملية المعرفة عند الفرد وعند الجماعة على حدّ سواء (بركة،2005، 25).

وهذا التصور الشامل يركز على أهمية التغاير والصيرورة في بنية اللغة بوصفها مؤسسة اجتماعية ثقافية كما يؤكد على الأداء المعرفي للغة ودورها في بناء الثقافة والوعي.

ونستطيع أن نقول مع الفيتوري بأن اللغة "‏ منهج فكر، وطريقة نظر وأسلوب تصوير، وهي رؤية متكاملة تمدها خبرة حضارية متفردة، ويرفدها تكوين نفسي مميز، فالذي يتكلم لغة هو في واقع الأمر يفكر بها، فهي تحمل في كيانها تجارب أهلها وحكمتهم وخبرتهم وكلمتهم وبصيرتهم وفلسفتهم"‏ (الفيتوري، 1986،20). وهي " إبداع إنساني يلبي الحاجات الطبيعية والروحية والاجتماعية وهي قابلة دائما لاستيعاب الجديد وهي منهج فكر وأسلوب تصوّر لأننا نفكر بلغتنا التي تعبر عن هويتنا وحكتنا وتجارب حياتنا وفلسفتنا وتراثنا وبصيرتنا مما يؤكد قدرتها على مواصلة دورها الحضاري واستيعابها للمعرفة البشرية في كل زمان" (محجوب، 2012).

ويمكننا أن نستخلص بناء على ما تقدم من تعريفات أن اللغة نظام رمزي ذهني معقد التكوين، يعبر عن هوية مجموعة بشرية، ويرسم حدود حضورها الإنساني في الوجود، وأنها تشتمل على فلسفة المجتمع والبنية الذهنية له وطريقة التفكير فيه، وهي تشكل بنية وظيفية شديدة التعقيد بها يتواصل أفراد الأمة ويتفاعلون ويبدعون إنسانيا ويرسمون حدود تاريخهم وحضارتهم. ويمكن النظر إلى اللغة بوصفها الإطار العام للوجود الإنساني والحضارة البشرية، إذ لا يمكن لأمة أن تكون من غير لغة، ولا لحضارة أن تقوم وتزدهر في قطيعة مع اللغة التي تشكل خصوصية الإنسان عبر التاريخ. وباختصار ترمز اللغة - بوصفها ماهية إنسانية مثقلة بالمعاني- إلى الوجود البشري في أرقى تجلياته، وأعظم إبداعاته، إذ هي صيرورة وعي دائم التشكل والتجدد والتغاير تتجلى في صورة إبداع لخطاب متدفق بالدلالات والألفاظ والمعاني.

3- في مفهوم الفصحى:

الفصاحة عند العرب هي "البيان" كما جاء في لسان العرب. وهي اللفظ الفصيح أي "ما يدرك حسنه بالسمع". والإنسان الفصيح هو الذي "يحسن البيان ويميّز جيد الكلام من رديئه". وفصح الرجل؛ "انطلق لسانه بكلام صحيح واضح "، والفصيح: من يحسن الكلام ويميز جيده من رديئه ". والفصيح في كلام العامة المُعْرِبُ (لسان العرب). وجاء في تاج العروس: الفَصِيح: المنطلق اللِّسَان في القول الذي يعرفُ جيِّدَ الكلام من رديئه. وقد أَفصحَ إِذا تكلَّم بالفَصاحةِ. وجاء في المعجم الوسيط: فصح الرجلُ: انطلق لسانه بكلام صحيح واضح.(الفَصَاحَة ): البيان. و سلامة الألفاظ من الإبهام وسوء التأليف. يقال: رجل فصيح: يحسن البيان ويميّز جيّد الكلام من رديئه. وكلام فصيح: سليم واضح يدرك السمع حسنه والعقل دِقّته. ولسان فصيح: طلق يعين صاحبه على إجادة التعبير. ويجمل القول في الفصحى كما يقول الدجاني "أنها تحرص على صحة اللفظ ووضوحه" (الدجاني، 2000، 16). ومقياس الصواب في الفصحى يكون في المحافظة على سلامة اللغة العربية ومراعاة التطور الذي تخضع له (الدجاني، 2000، 16).

ويمكن القول في هذا السياق: إن العربية الفصحى توازن ما يسميه الغربيون Classical Arabic أو العربية الفصحى Fusha Arabic، أو العربية الأدبية Literary Arabic وما يرمز له فيرغسون بالنمط العالي أو المرتفع ورمز له بالحرف (H) (الزغلول، 2000، 56).

وغالبا ما يقصد بالفصحى اللغة العربية التي تستخدم في الكتابة والتأليف والترجمة، وهي ذات اللغة التي حافظت على قواعد اللغة العربية وما تنطوي عليه من أصالة، وهي لغة الشعر العربي القديم، ولغة القرآن الكريم، وهي اللغة التي يتكلمها العلماء والمفكرون والمثقفون في عالمنا العربي. ويمكن القول في هذا الخصوص إن اللغة العربية الفصحى هي لغة الفكر والأدب والعلم، وهي اللغة ذاتها التي تعتمدها الدول العربية لغة رسمية في مختلف مؤسسات الدولة ودوائرها بوصفها اللغة الوطنية القومية. (الأنصاري، 2008،114). ويحدد محمد حسن عبد العزيز سمات الفصحى فيقول إنها " مكتوبة، تستخدم في التعليم، وفي العلم، وفـي الأدب، وفي الصحافة، وهي اللغة الرسمية المشتركة في العالم العربي اليوم"(عبد العزيز، 1992،11).

ومن حيث الخصائص والسمات اللسانية، فإن الفصحى تتميز بصحة ألفاظها، ودقة معانيها، ووضوح مبانيها، في حين تعاني العامية من تحريف اللفظ، وغموض الكلمات، وإبهام المعاني، والخروج عن المألوف في قواعد الفصحى. وقد عني علماء اللغة بالحديث عن "مقياس الصواب اللغوي" الذي تلتزم به الفصحى. ويرى كثير منهم أن الفصاحة تقوم على دعامتين: المحافظة على سلامة اللغة العربية من جهة، ومراعاة التطور الذي تخضع له من جهة ثانية. والفصحى في جوهرها أن يجري الكلام على المقاييس الجمالية والنحوية للغة العربية القديمة في أكثر تجلياتها الأدبية وأدق معانيها الفكرية وهي اللغة التي تحاكي القرآن الكريم بوصفه أعلى مراتب الفصاحة وأكثرها جمالا وبيانا واكتمالا.

و"الفصحى" كما يقول خليل كلفت " واحدة مشتركة في العالم العربي كله، من المحيط إلى الخليج، كما يقال، رغم السمات الخصوصية الأقل جوهرية هنا وهناك. أما "العامية" أو "العاميات" العربية فتتباين تباين الأقطار العربية (العراق، المغرب، السودان...إلخ)، أو المناطق اللغوية داخل القطر العربي الواحد(لهجات مصر، على سبيل المثال)، أو المناطق اللغوية العابرة للحدود السياسية (اللهجة الشامية) (كلفت، 2012).

ما بين الفصحى والفصيحة:

يُقصد باللغة الفصحى اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم بوصفه النصُّ المقدس في قواعد العربية ومرجعٌها في القياس النحوي. والفصحى هي الأصل والمرجع للهجات العربية التي كانت موجودة في صدر الإسلام، حيث اتسم اللفظ القرآنيُّ بجزالة اللفظ الذي لا تشوبه أي شائبة ولا يعتريه أي نقص.

ويجري بين أهل اللغة والمهتمين بااللغة العربية جدل لطيف حول أفضلية استخدام مفهومي " اللغة الفصحى" و"اللغة الفصيحة". ومن الواضح أن استخدام عبارة " اللغة العربية الفصحى" هو الاستخدام الشائع بين المفكرين والكتاب والباحثين بصورة واسعة. وهذا الاستخدام يفرض نفسه بقوة في كتاباتهم وأعمالهم. وهذا الأمر هذا لا يتعارض مع استخدام عبارة "اللغة العربية الفصيحة" فكلاهما يؤديان إلى المعنى نفسه من حيث وضوح اللغة العربية واشتمالها في ذاتها على بيانها وبلاغتها والتزامها بقواعد اللغة وأصولها.

ومع سلامة الدلالة للتعبيرين فهناك من يميز بينهما فيما يتعلق بالدلالة. إذ يرى بعضهم أن الفصحى تتطلب يلتزم المتحدث الالتزام بأعلى درجات الفصاحة والبلاغة، ولا يقوى على ذلك إلا الأدباء والخطباء وأهل الوعظ والارشاد وكبار أساتذة اللغة. وعلى خلاف ذلك يقتضي وصف اللغة العربية بالفصيحة أنه يجب على المتحدث فيها أن يستخدم الحد الادنى من الجزالة اللغوية والبيان في الاعراب، وهي صالحة للتواصل والتفاهم بين الناس لتسهيل معاملاتهم وقضاء حاجاتهم اليومية. وضمن هذا السياق تكون الفصحى للأدب والأدباء والشعر والشعراء والعلماء بهدف التأثير والبلاغة، وقد نزل القرآن الكريم وتربع على عرشها وهي معجزته في عملية التأثير والاقناع.

 فـ "الفَصاحة" كما يرى بعض الباحثين " مَزيّةٌ في الكلام أو صفة تفضيل، كما في الآية: «وأخِي هارون هو أفصحُ منّي لسانا" [القَصص: 34]؛ و"أَفْصحُ" هُنا صفةُ تفضيل للمُبالَغة مُؤنَّثُها "فُصحى". فكُلّ "كلامٍ كان أشدّ بيانًا وأقوى إفادةً يُنعَتُ بـ"الفصيح"، وإذَا زاد عن غيره يكون "أَفْصَح".! والأرجح أنّها تدل على كفاءة الكلام كإجادةٍ للتّأْليف تبليغا وتدْليلا وتوجيها، بحيث إنّها تُنافي كل عُيوب الكلام وآفاته من عِيٍّ وتكلُّف وتقعُّر ولَحْن وحَشْو وإسهاب. وبهذا، فـ"الفصاحة" تعني القُدرة على إتيان القول بما يُناسب حالَ المُخاطَب بلا زيادة ولا نُقصان. ويقول الجُرجاني في هذا المقام «إنّ الفصاحة وصفٌ يجب للكلام من أجل مَزيّة تكون في معناه، وأنّها لا تكون وصفا له من حيث اللّفظ مجردا عن المعنى" (الجرجاني، 2004، 442).

ومن ثَمّ، فإن كلمة "الفُصحى" تمثل صفةٌ للُّغة العربيّة في صيرورتها لُغةً مُشترَكةً بين القبائل العربيّة التي كانت تختلف - بهذا القدر أو ذاك في مَناحي الكلام. وهذه الصيرورةُ تمّت بفعل الاشتراك في اللّغة من شدّة الاحتكاك في الأسواق والمَواسم الكبرى التي كان الحجّ على رأسها والتي أتى الإسلام فعزّزها بنصّ "القُرآن" الذي كان حافزا لتدْوين المُتون واستنباط قواعد النّحو وأُصول الفهم. فـ«العربيّة المُشترَكة» صارت "فُصحى" بمعنى أنّها لُغةٌ تغلّبتْ وهَيْمنتْ على مُختلف اللّهجات القَبَليّة والجهويّة بالشكل الذي جعلها تَفْرض نفسَها على ألسنةِ المُتكلِّمين، خصوصا بعض عصر التّدْوين"( الكور، 2013)1 .

يقول أحد المفكرين: " ويجوز أن نقول اللغة الفصيحة أو الفصحى" أما من اعترض على الفصحى بوصفها صيغة تفضيل نقول " لا يلزم في التفضيل أن يكون بين شيئين متماثلين أحدهما أفضل من الآخر في نفس الشيء لقوله تعالى في سورة (الفرقان): وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا. أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا) وواضح أن التفضيل هنا بين أهل الجنة وأهل النار - وهم غير مشتركين في شيء. أما اللغة السليمة فهي اللغة الخالية من الأخطاء بأنواعها". فـ" اللُّغة العربيَّة الفُصحى: لغة القرآن والأدب، وهي لغة خالصة سليمة من كلِّ عيب، لا يخالطها لفظ عاميّ أو أعجميّ، خلاف العاميّة (يحرص الخطباء والدعاة على استخدام الفُصحى في كلامهم وتذاع نشرات الأخبار باللغة العربية الفُصحى" (الأعشير، 2014).

ونحن في تناولنا لأحد هذين المصطلحين في هذا الكتيب يقوم على أساس منهجي خارج دائرة الجدل التقليدي حول الأفضلية. فالمفهومان كلاهما برأينا يدلان على اللغة العربية السليمة التي تتناغم مع قواعد اللغة ومنهجها وفقهها وتلتزم بناصية الصواب والبيان والإعراب. ومع أننا لسنا في وارد القطع في الاستخدام إذ يستوي لدينا استخدام مفهوم اللغة الفصيحة مع اللغة الفصحى، فالمعنى الذي نأخذ به يرمز إلى سلامة اللغة بوصفها لغة معيارية في بيانها وقواعدها وإعرابها. ومع ذلك يجب علينا أن نأخذ باعتبارات عديدة نرجح فيها استخدام الفصحى أو اللغة العربية الفصحى للاعتبارات التالية.

أولا – يجري استخدام تعبير "الفصحى" غالبا كاسم يدل على اللغة العربية بتمامها وكمالها وليس كصفة تفضيل. فعندما نقول "الفصحى" (بدون إضافات) فهذا يعني أننا نستخدم اسم علم يدل على اللغة العربية الفصيحة اسما لا صفة. على سبيل المثال يجري القول " التدريس بالفصحى، أو تكلم الفصحى، يكتب بالفصحى. وهناك مئات التعابير التي تدرج على استخدام الفصحى كاسم للغة العربية وليس كصفة تفضيلة.

ثانيا – مئات الكتب في فقه اللغة العربية دبجت تحت عوان اللغة العربية الفصحى، ويندر أن نجد عنوانا يقال فيه " اللغة العربية الفصيحة".

ثالثا – في البحوث اللغوية يجري استخدام اللغة العربية الفصحى في المدارس والمناهج والجامعات.

رابعا – رَسُخ استخدام مفهوم "اللغة العربية الفصحى" بقوة في بنية اللاشعور اللغوي عند المثقفين، وارتسم في الذائقة اللغوية تفضيلا على استخدام تعبير "اللغة العربية الفصيحة" وهو تعبير صحيح أصيل فصيح لا غبار عليه.

هذه الأسباب والممارسات تفرض واقعا لغويا لا يمكن تجاهله، وهذا يعني أن رفضنا أو قبولنا لاستخدام مصطلح أو مفهوم يجب أن يخضع غالبا لواقع الممارسة الثقافية. ويأخذها بعين الاعتبار.  وقد قرأت مرة أن الزمخشري وسيبويه كان عندما يشكان في صيغة أو لفظ أو كلمة كانا يذهبان إلى البادية وعند مقابلة أول شخص يصافانه من أي قبيلة عربية كانا ستمعان إليه ويقرران مشروعية لفظة ما قاعدة ما كلمة ما بناء على اللغة التي يتكلمها الإعراب. وأخيرا فإن برأينا لا صير من استخدام المفهومين. ولكن في البحث العلمي يفضل دائما استخدام نموذج مفهومي واحد، ولذا وجدنا من الأنسب لنا استخدام مفهوم اللغة العريبة الفصحى في كتيبنا هذا ونرجو أن نكون موفقين في هذا الاستخدام للاعتبارات التي أشرنا إليها.

4- في مفهوم العامية:

استخدم مفهوم اللهجة (Dialect) قديما بمعنى اللغة، واللهجة هي اللغة عند علماء العربية القدماء، "فلغة تميم ولغة هزيل ولغة طيء التي جاءت في المعجمات العربية لا يريدون بها سوى ما تعنيه كلمة (اللهجة). كما أطلق على اللهجة لفظ "اللحن"، وفي هذا قال أحد الأعراب (ليس هذا لحني ولا لحن قومي)"(الضامن، 1989، 32).

ويجري اليوم استخدام لفظة "اللهجة" بمعنى اللغة العامية المقابلة للفصحى. وجاء في المعجم الوسيط أن العَامِّيَّةُ: لغةُ العامة، وهي خلافُ الفُصحَى، واللّغة العاميّة: هي اللُّغة المتداولة بين النَّاس، وهي بخلاف اللُّغة الفصحى المستخدمة في الكتابة والأحاديث الرَّسميَّة والعلميَّة. والعامي من الكلام: ما نطق به العامة على غير سنن الكلام العربي، وكذلك: "العامية: لغة العامة وهي خلاف الفصحى".

وتأخذ العامية تسميات عديدة منها اللغة العامية أو المحكية أو الدارجة أو اللهجة، ويعرفها الزغلول بأنها "النمط الذي يسميه الباحثون الغربيون بالعربية الدارجة Colloquial Arabic، أو العربية المحكية Spoken Arabic، أو اللهجة Dialect، وهي التي أطلق عليها فيرغسون النمط المنخفض ورمز له بالحرف (L). وهو النمط الذي يكتسبه العربي بصورة طبيعية في مختلف أصقاع الوطن العربي. ويختلف هذا النمط باختلاف المناطق الجغرافية والجماعات البشرية المتمايزة (الزغلول، 2000، 60).

 وتميل العامية إلى التبسيط ولاسيما في القواعد حيث تختفي صيغة المثنى تقريبا وينقص عدد الضمائر، وتختفي أوزان الجمع، وحركات الإعراب. وهذا يعني أن العامية العربية غير قادرة على أداء دور ثقافي في مجال المعرفة العلمية والثقافية، وعليه فإنه يجب على المتكلم أن يعود إلى الفصحى ليمزجها بتراكيب عامة إن أراد التعبير عما يقول بشكل أوفى. (الزغلول، 2000، 63).

 وتعرّف الأنصاري العامية بالقول: " هي اللغة التي تستخدم في الشؤون العادية ويجري بها الحديث اليومي، لا تخضع لقوانين لأنها تلقائية متغيرة، تتغير تبعًا لتغير الأجيال، وتغير الظروف المحيطة بهم" (الأنصاري، 2008، 114).

هذا ويرى معظم أهل اللغة أن اللهجة العامية هي لغة الشعب كله تسيل على الألسن بلا عسر ولا تصنع، وتعبر خير تعبير عن مشاعر الناس وأفكارهم وتطلعاتهم وطموحاتهم. ويحدد المجلس الأعلى للغة العربية مفهوم العامية الدارجة بأنها " مستوى تعبيري يتخاطب به العامة عفويا في الحياة اليومية، وهو مستوى غير خاضع لقواعد النحو والصرف ويتصف بالتلقائية والاختزال، إنها عربية فقدت بعض الخصائص الموجودة في الفصحى مثل الإعراب" (المجلس الأعلى للغة العربية،2008،5).

5- بين العامية والفصحى:

شغل الباحثون بتحديد العلاقة القائمة بين العامية والفصحى، واهتموا بتحديد خصائص وسمات كل منهما، كما اهتموا بتحديد الدور والوظيفة التي يجب أن يقوم بها كل منهما في مضمار التكامل بينهما. وفي هذا المضمار يقدم لنا الباحث سليمان العايد تصورا واضحا عن أوجه التشابه والاختلاف بين العامية والفصحى في محاضرة له عن علاقة اللغة المنطوقة باللغة المكتوبة في اللغة العربية إذ يقول ": نريد باللغة المنطوقة اللغة هذه التي يستعملها الناس في واقع حياتهم اليومي، وفي حركتهم المعاشية المتكررة، وما اعتادوا التعبير به عن أغراض ومطالب وشؤون الحياة؛ وهذا شامل للغة حين تنطق، وللغة حين تكتب، ما دامت بهذا الوضع، وعلى تلك الحال. كما نريد باللغة المكتوبة تلك التي اكتسبت صفة الثبات، وتتابعت الأجيال على التزام كتابها، وهذه تشمل ما ينطق من اللغة إذا اتسم بالتأنق والصنعة كما يفعل الخطباء"(العايد، 1996،4). واللغة هي لغة التخاطب الحيّ، وهي "لغة ينفك مستعملها من كثير من سمات اللغة الفصحى، كالإعراب، ونظام الجملة، واستعمال أدوات الربط، ويستعيض عنها بغيرها، ولا يحرص على تجنب اللحن، ويرسلها، دون تحضير أو تزوير. وكل ما لا ينطبق عليه هذا الوصف فليس بلغة خطاب، كالشعر والخطابة، والتأليف، مما يتعمل له الشاعر والخطيب والمؤلف، ويبذل فيه شيئًا من الصنعة، انتقاء واختيارًا وإحكامًا"(العايد،1996، 4). وتتميز اللغة المنطوقة بأنها لغة متحولة سريعة التغير، لا تكاد تثبت على حال، بما فيها من صواب »، بخلاف اللغة المكتوبة التي تقف في طريق التغير الذي يلحق لغة الكلام قد ضبطته معيارية دقيقة، تقف في وجه التغير السريع الذي هو طبيعة اللغة المنطوقة، ولها فائدة في تحسين وسائل الاتصال وصبغ اللغة المنطوقة بصبغة أدبية مشتركة (العايد، 1996، 4).

وفي ضوء هذا التحديد لمصطلحي الفصحى والعامية، يمكن أن نلاحظ أن أهم الفوارق بينهما، هو تحريف النطق ببعض حروف اللغة، وتغييره كليًّا في بعض الأحيان، وإهمال إعراب أواخر الكلمات، وتغيير حركات حروف الكلمة في العامية. وهذه الفوارق تؤدي إلى فارق آخر مهم، هو أن الفصحى العربية تأخذ صورة واحدة لا تغاير فيها من حيث الجوهر، في حين تتعدد العاميات العربية بتعدد أنحاء الوطن الكبير واختلاف اللهجات. وواضح أن هذه الفوارق تضع الفصحى في مكانة متميزة، وتجعلها “الأُنموذج “ للسان الراقي الحريص على النطق الصحيح للحروف، وعلى الإعراب، وعلى سلامة الكلمة. ولافت أن العامية في بلد ما تتفاوت في درجة قربها من الفصحى بين حي وآخر. ولافت أيضًا أن هناك تشابهًا بين العاميات المختلفة في بلاد العرب في جوانب تحولها عن الفصحى صوتيًّا وصرفًا ونحوًا، وإن ذهب كل منها مذهبه.

ويمكن لنا في هذا السياق التمييز بين اللغة العربية الفصحى وبين العربية العامية في التقاطعات الآتية:

1- تتميز اللغة العامية بوصفها لغة شفوية يتحدث بها الناس دون أن يكتبوها في حين تتميز اللغة الفصيحة بأنها لغة الكتابة والتدوين. والعامية لا تستخدم عادة في التوثيق والتدوين والكتابة الأدبية أو العلمية فهي لغة مشافهة وليست لغة كتابة كما هي حال الفصحى.

2- تأخذ العامية أهميتها بوصفها لغة الحياة اليومية والتواصل الاجتماعي في أشمل معانيه، أما الفصحى فهي اللغة الرسمية التي يجري تداولها في الإدارة والإعلام والأدب والسياسة والتعليم والكتابة والمحافل الدولية.

 3- تعتمد اللغة العامية على السجية والانسيابية وعلى العادات اللغوية المألوفة ولا تخضع لمنطق القواعد اللغوية كما هي حال الفصحى التي تعتمد على منظومة من القواعد والمبادئ التي يجب مراعاتها أثناء الكتابة والحوار.

4- تراعي الفصحى متطلبات البيان اللغوي في أرفع مستوياته ضمن نطاق الصرف والنحو والألفاظ الدلالية المتقنة، وعلى خلاف ذلك تعتمد العامية الاقتصاد اللغوي واليسر اللفظي التعبيري دون اهتمام بمقتضيات الدقة اللغوية والبيان اللغوي المتطور.

5ـ تتنوع العامية بتنوع الجغرافية والطبقات والفئات الاجتماعية والمجموعات السكانية في حين تأخذ الفصحى طابع لغة وطنية شاملة على وحدتها على الرغم من التنوعات الاجتماعية والتباينات الاجتماعية.

6- يتضح تأثير العامية وحضورها الواسع في لغة الطبقات الاجتماعية الواسعة في حين يقتصر تأثير الفصحى في النخب الثقافية والاجتماعية ولدى أبناء المتعلمين من الطبقة الوسطى.

7ـ تتباين العامية بتباين اللهجات المحلية في البلد الواحد مثل: اللهجة المصرية، اللهجة اللبنانية، السوريةفي حين تتميز الفصحى بوحدتها وتجانسها وشمولها بوصفها لغة وطنية واحدة في مختلف جوانب الحياة الثقافية والسياسية والعلمية والأدبية.

8- تتصف العامية بفقرها العلمي حيث لا نجد في بنيتها مفردات علمية تتعلق بالعلوم والفنون والآداب. وذلك على خلاف العامية التي تتميز بثرائها العلمي وغناها الكبير بمفردات العلم وألفاظه ومعانيه.

9- تختلف العامية في البلد الواحد باختلاف طبقات الناس وتنوعهم الاجتماعي ولهجاتهم: لهجة الفلاحين، ولهجة العمال، ولهجة الطبقة البرجوازية. وهذا التباين الاجتماعي ليس له حضور في اللغة العربية الفصحى.

وتجدر في هذا السياق الإشارة إلى هذه المناظرة التي يجريها كلفت ما بين فصاحة العامية وفصاحة الفصحى إذ يقول: " "الفصحى" هي لغة الفصاحة، والفصاحة هي الوضوح والسلامة من اللحن. وقد تبدو اللغة المسماة بالعامية واضحة، محليا على الأقل، لكنها تبدو على كل حال بعيدة عن السلامة من اللحن بمعايير "الفصحى". ولكنْ كما أن الوضوح يتحقق بوسائل "العامية" وليس بوسائل "الفصحى"، فمن الواجب أن يُنظر إلى السلامة من اللحن (أيْ السلامة من الخروج على المعايير النموذجية أو من الانحراف عنها) لكل لغة من اللغتين على أساس معاييرها الخاصة وليس على أساس معايير اللغة الأخرى "فالفصحى" سليمة بمعاييرها الخاصة و"العامية" سليمة بدورها بمعاييرها الخاصة "(كلفت، 2012).

وهذا التناظر الذي يجريه كلفت يتضمن رؤية موضوعية غير مألوفة في مجال المقارنة بين العامية والفصحى. فأهل العامية يجدون العامية أكثر وضوحا من الفصحى وقد يعبرون بها بشكل أفضل. وغالبا ما يعتمد المدرسون في الجامعة اللهجة العامية لتفسير ما لا يستطيع الطلاب فهمه بالفصحى. وفي كل الأحوال يجب أن يؤخذ هذا الرأي المقارن على محمل الجد العلمي وألا يستهان بقيمته السوسيولوجية.

ويتابع كلفت تحليله للفصاحة ما بين الفصحى والعامية قائلا: " وإذا كانت فكرة الفصاحة، بشقّيها، تنطلق من جعل "الفصحى" المعيار الأوحد والمطلق أو المثل الأعلى بلا منازع للغة العربية، فإن الانطلاق من "العامية" أو من الحياد الوصفي إزاء الازدواج اللغوي القائم لا يمكن إلا أن يؤدي إلى أن تطالب "العامية" بالاعتراف بفصاحتها، أيْ بوضوحها وسلامتها، وربما على قدم المساواة مع "الفصحى" وربما أكثر منها بكثير، على أساس أن تمكُّن العرب من "العامية" أقوى بما لا يقاس من تمكُّنهم من "الفصحى" (وربما من تمكُّن خاصتهم من "الفصحى"). "فالعامية" بدورها فصحى أو حتى أكثر فصاحة (بما لا يقاس) بمعاييرها الخاصة. (كلفت، 2012). ويعني ما سبق بطبيعة الحال أن الفصاحة سمة طبيعية لكل لغة بحكم بداهة كونها لغة، وهي تزدهر بازدهار لغة وتنحط بانحطاطها وتموت بموتها وتنتقل من خلال التطور اللغوي البطي أو العاصف إلى لغة جديدة تحل محل القديمة (كلفت، 2012).

وباختصار: "الفصاحة لا تحتكرها "الفصحى" ولا "العامية" ولا تمتلكها "الفصحى" ولا "العامية" بصورة مكتملة، لأن "العامية" ليست لغة مكتملة الحلقات، كما أن "الفصحى" ليست لغة مكتملة الحلقات. ذلك أن "الفصحى" عاجزة، منذ قرون وقرون، عن الاستمرار كلغة كلام وحياة يومية. وهي بذلك لغة ناقصة. كما أن هذا النقص، هذا الانفصال عن الحياة اليومية، يُفقرها ويحرمها من حيوية الحياة ويجرّدها من القدرة على التعبير عنها بالحيوية المطلوبة، أضف إلى ذلك أن "العامية" تنافسها منافسة شاملة متفاوتة القوة في كافة مجالات الثقافة والتعليم والإعلام" (كلفت، 2012).

 

علي أسعد وطفة

..........................

1- الكور، عبد الجليل (2013) القُرآن بين "الفُصْحى" و"الفُسْحى"!، هسبرس، الاثنين 02 دجنبر 2013 - 12:40. https://www. hespress. com/writers/95310. html

مراجع

- ابن منظور، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم (1955)، لسان العرب، مج 1، بيروت، دار صادر ودار بيروت.

 - أحمد، محمد عبد القادر (1991).اللغة العربية أصلها وأهميتها ووظائفها وتعليمها لطفل المرحلة الابتدائية، مجلة التربية، س 20، ع 96، مارس/ آذار، قطر: اللجنة الوطنية القطرية للتربية والثقافة والعلوم.

- De Saussure, F.(1968) ours de linguistique général, Paris: Payot.

- الأسد، ناصر الدين (2004). مقدمة لدراسة اللغة وهوية الأمة، مجلة ثقافات.

- الأعشير،عبد الله آيت (2014). اللغة العربية الفصحى، نظرات في قوانين تطورها وبلى المهجور من ألفاظها، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، قطاع الشؤون الثقافية، الكويت.

- الأنصاري، محمد جابر (1988). التعريب الجامعي وحتمية المقاربة الميدانية أربعة اعتبارات اساسية لحسمها، رسالة الخليج العربي، س 8، ع 24.

- بركة، بسام (2002). اللغة العربية القيمة والهوية، مجلة العربي، العدد 528، نوفمبر/تشرين الثاني.

- الجرجاني، عبد القاهر (2004) كتاب دلائل الإعجاز، مكتبة الخانجي، القاهرة، ط 5.

- حجازي، فهمي (1997). مدخل إلى علم اللغة، القاهرة: دار قباء.

- الدجاني، أحمد صدقي (2000). الفصحى والعامية: العامية اليافاوية..تأملات وتساؤلات، مجلة مجمع اللغة العربية، نوفمبر/تشرين الثاني، 2000.

- الرخاوي، يحيى (2003). اللغـة العربيـة وتشكيـل الوعـي القومـي، شبكة العلوم النفسية العربية:http://www. arabpsynet. com/Archives/VP/VP. Rakkaoui. ArabLangage. htm

- الزغلول، محمد راجي (2000). ازداوجية اللغة: طبيعتها ومشكلاتها في سياق التعليم، ضمن مجموعة مؤلفين (2000). اللغة والتعليم، الكتاب السنوي الثاني، بيروت: الهيئة اللبنانية للعلوم التربوية.

- السيد، محمود أحمد (1988). في طرائق تدريس اللغة العربية، دمشق: مطبعة جامعة دمشق.

- الضامن، حاتم صالح (1989). علم اللغة، بغداد: جامعة بغداد، كلية الآداب.

- العايد، سليمان بن إبراهيم (1996). علاقة اللغة المنطوقة باللغة المكتوبة في اللغة العربية، محاضرة ألقيت في نادي مكة الثقافي الأدبي بتاريخ 1/10/1417.

- عبد العزيز، محمد حسن (1992). الوضع اللغوي في الفصحى المعاصرة، دار الفكر العربي، القاهرة، الطبعة الأولى، 1413هـ / 1992.

- عبد الواحد، علي(1951). اللغة والمجتمع، القاهرة: دار الكتاب العربية.

- كلفت، خليل(2012). الازدواج في اللغة العربية بين الفصحى والعامية، الحوار المتمدن، العدد: 3712. www. ahewar. org/debat/show. art. asp?aid=305504

- الكور، عبد الجليل (2013) القُرآن بين "الفُصْحى" و"الفُسْحى"!، هسبرس، الاثنين 02 دجنبر 2013 - 12: https://www. hespress. com/writers/95310. html.

- المجلس الأعلى للغة العربية (2008). الفصحى وعاميتها: لغة التخاطب بين التقريب والتهذيب. أعمال الندوة الدولية التي نظمت بالتعاون مع وزارة الثقافة ضمن فعاليات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007 المنعقدة يومي 4- 5 يونيو/ حزيران 2007. الجزائر: المجلس الأعلى للغة العربية.

- محجوب، عباس (2012). التًّعليم باللغة العربية في التًّعليم الجامعي، بحث منشور في موسوعة دهشة الإليكترونية، http://www. dahsha. com/old/viewarticle. php?id=28917

- وطفة، علي أسعد (2011). علم الاجتماع التربوي، الكويت: مطبعة الفيصل.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم