صحيفة المثقف

القُرط القديم

سوف عبيدإلى الشّاعر الميداني بن صالح اِستلهامًا من مسيرته

 بمناسبة بلوغه السّبعين من عمره


هِيَ ذِي خُطاهُ

تُوصِلُني إلى مَشاهدِهِ القَديمةِ

وَقفتُ أمامَ البوّاباتِ

صَلدةُ ذاتِ الصَّخرِ

على هَيْأةِ الأقواس

مِنْ أعْمِدةِ المَرْمَرِ قُدَّتْ

قرأتُ نَقِيشَتهُ : الاِسمَ والعُنوانَ

حَملتُ زادِي… واصَلتُ الطّريقَ

عِندَ كُلّ فَرْسَخٍ أسألُ عنهُ

نَفْسُ مَا يُقالُ ومَا قيلَ

كانَ قد مَكثَ هُنا قَليلا

ثُمّ شَاقهُ السّفَرُ نَحْوَ البَعيدْ

تُرى أينَ ألقاهُ هُوَ الرّاحِلُ دائمًا

مِنْ بِيدٍ إلَى بِيدْ

(2)

هِي ذِي خُطاهُ

ضاربةٌ في ثَنايَا القَفْر عندَ السّباسبِ

على مَدى البَصَر

خُطاهُ

قارعةٌ رَصيفَ المُدن مِنْ شَرقٍ

 إلى غربٍ

مِنْ غُروبٍ إلى شُروقٍ

كلّما شَدّهُ خيطٌ

أَوِ اِنقطعَ وَتَرْ

عَجّل بالرّحيل

إذْ تصغُرُ حَوْلَهُ السّاحاتُ حتّى تَضيقَ

هو الحُرُّ الطّليق

لا يَنامُ على مُستقَرْ

(3)

كَشفْتُ رُؤاهُ

اللّيلُ والأحلامُ… والطّريق

مِنْ أقصَى الواحاتِ

مِنْ آخِرِ نَخلةٍ في الصّحراء

جَاء يَسْعَى

أيُّ آتٍ من الأيّام سَيَلقاهُ الفتَى

وأيُّ قِطافٍ مِنَ السّنواتِ سَيقبِضُهُ

بَدَلَ حَفْنةِ التّمر

والقُرطِ القَديم ؟

هُوَ ذا لِمَنْ يَراهُ

نَحيفٌ كرُمح

خافقٌ كمِثل جَناح

وَهْوَ في السّبعينَ إذْ يحُثُّ خُطاهُ

يَبدُو كطِفل السّابعةِ

يُسَابقُ في مَداهُ

(4)

أتْعَبْتَنا يا سيّدِي

فأنتَ الجَمُوحُ

مُهْرٌ بِلا لِجام ولا سَرْج وَلا رِكابْ

وِهَادٌ قَطَعْتَها أنهارًا وشِعابْ

دُونكَ المَمالكُ وَالمَسالِكُ

لَمْحُ سَرابْ

كُنتُ ثَانيَ إثنينِ مَعَكَ فِي الطّريق

الإسْفَلْتُ

وَالمَسافاتُ

وَهَذا الجَنوبُ

(5)

فِي مَا مَضَى

مِثلَ صِغارِ العَصافير

كُنّا نُزقْزقُ الحُروفَ

نَتهَجَّى سِرْبَ الكلماتِ

عَلى أجْنحةِ اللّغةِ العَذْراء نَنطلِقُ

نَمْتَشِقُ الفَضاءاتِ الجديدةَ

نَطيرُ عَاليًا وبعيدًا

لا نَعبَأ باِحتِراقِ الرّيشِ في الشّمسِ

وَلا بِتَمْزيقِ الوَرق

حَوْلهُ نَجتَمعُ

فَمِنْ أجْل رَبيع الفَراشَاتِ

كُنّا نأتلِقْ

هُوَ الصّقرُ الذي حَلّق قَبْلَنَا

وَطَواهَا مِنْ مَداهَا إلى مَداهَا

أبعادَ الأفُقْ

(6)

مِثلَ نَجم يَأتَلِقْ

مَازلتَ يا سيّدي تَهدِي السَّفائنَ

والقَوافلَ

نحوَ الأقاصِي عَبْرَ التُّخُوم والسَّباسبِ

وبَدَلَ أنْ تَستريحَ وتَتْرُكَنَا في الخلاءِ

عِند مَهَبِّ الرّيح

هَا أنتَ تُمَدِّدُ جَناحَيْكَ مِنْ جَديد

وتأخُذُنَا مَعك

(7)

يا عُروةَ الشُّعراء

دَمِيَتْ يَداكَ مِنَ الشَّوْكِ ولمْ تُخَلِّصِ اَلْحَريرَ

مِنَ العَوْسَج

فَأيُّ جِراح سَتُناوِبُنا إيّاهَا

يا عُروةَ الشّعراء

هِيَ ذي خَيمتُكَ مُشْرَعةٌ للأحبّةِ

الظِلّ والرِّفْدُ فيها والمَاءُ

لِمَنْ ضلّوا إليكَ الطّريقَ

ولِمَنْ ضَاعَ في المَدائن بين الحَوانيتِ

والواجهاتِ

جاءكَ مُرتجفًا يَسْعَى يَطرُق الباب

آمِنًا يدخُل نحوَك عليه السّلام

تَمسحُ الأحزانَ عنه

فتُرفْرفُ حَولهُ حمامةُ الرُّوح

تُناولهُ الزّادَ وعناوينَ الكُتبْ

فَمِنْ أوراقِكَ يا ـ أستاذُ ـ

اِشتعلَ جِيلُ الغَضبْ

(8)

وَاحَرَّ قَلباهُ ـ قُلتَ

آهٍ مِنْ زمنِ العَرَبْ

آهٍ مِن صَحْوي وسُكري

ومُروقي ولِجَاجِي

وسُكوني وظنُوني

واِنطلاقِي وَهِياجِي

أهٍ مِنْ عَقلِي

ـ إذا مَا ثَارَ بُركانًا

عَلى كُلّ الأحَاجِي ـ

(9)

مِثلَ كلّ مُسافرٍ فِي الفَيافِي

ينُوشُهُ الغُبارُ حَتْمًا مِن وَعْثَاءِ الطّريق

لكنّهُ عندمَا يتكدّسُ على الدُّروب

يَمْسحُ بِلا خَجل نَظارتَيْهِ

فَيرَى مَا لمْ نرَ

إذْ يَتَبَيَّنُ الظّلامَ والذّئابَ

غيرَ أنّه في الدّياجِي

يُشْعِلُ بَسْمةً

عندمَا يُطفِئُ شَمعةً

(10)

هُوَ ذَا أشْهَى التّفاصيلِ وأَحْلَى

كلّما تَاهَ فِي مُروج العِنبِ

وراءَ سَانِحةٍ لِذكرَى وتَجلّى

فَإذا أخْطأتِ الكأسُ شَفتيْه

اِبتسمَ وقَال

ـ تُخْطئُ البَوْصلةُ ذاتَ ريح

أوْ ذاتَ حَريق

ولاَ يُخطئُ قلبِي

هُو دَربي

وذاكَ الأفُق

ـ شِعْري لُهاثُ الكادِحينَ على الدُّروب

شَدْوِي أهازيجُ الشّعوب

مَنْ صَارعُوا الأمْواج

والبحرَ الغَضُوبْ

مَنْ غالبُوا الأقدار

واِقتحمُوا الخُطوبْ

مَنْ عبّدُوا الطّرُقَ المَديدةَ

فِي الجِبال ـ

(11)

مَرّةً ونحنُ على الجِسر قال

إنّنا لا نقطعُ النّهرَ مَرّتين

قلتُ: أريدُ أنْ أقِفَ على الضَّفَّتَيْنِ

قال : مُسْتحيل…لا بُدّ أنْ تختارْ

فَإمّا يَمينٌ…وإمّا يَسارْ

قلتُ عَنيدًا : عِندَئذ أَخْتارُ الوسَطْ

قال: إذن سَيَجْرُفُكَ التيّار

ثُمّ في الأمْواج تَضيعْ

فَلا السَّاحلَ أدْرَكْتَ

وَلا سَقَتْكَ الينابيعْ

(12)

مَرّةً عندمَا اللّيلُ سَجَا

سَاءَلتُهُ عَن الأصدقاء

إنّهُم كَمَنْ يُغَربلُ الماء

زِدتُهُ قائلا

والنّساء ؟

صَمَتَ لَحظتين ثُمّ قال

– أوّلُهُنَّ…آخِرُهُنّ أمّي

فَمَنْ يَبِعْنِي اليَوم

ذلكَ القُرط القَديم

وبَكَى

(13)

هِيَ ذِي نَخلتُهُ مَا تَزال

يَامَا زَحفتْ عليها رمال

يَامَا رياحٌ عليهَا عَصَفتْ

يَامَا رماحٌ فيها رُشِقَت

ويُمْطرُ السَّحابُ

أوْ لا يُمطرُ السَّحابُ

فَقيرةٌ أوْ جائعة

ليستْ ذليلةً أوْ طامعَهْ

يَا نَخلتَهُ الصّامدَهْ

مَا سِرُّ خُضرتِكِ الخَالدهْ ؟

(14)

وَيْلِي مِنْ زَمَنٍ

البَسمةُ فيهِ بالأنيابِ

المُصافحةُ بينَ الأحبّةِ كَفِعْلِ الْمِقَصْ

قلتُ له وقدْ تَجرَّعتُ الغُصَصْ

كَيفَ نُزَاوجُ ألوانَ قَوْسِ قُزَح

وَكيفَ نُوالفُ بينَ الحَمَائمِ والفَضاء

عندَ بابِ القَفصْ

أجابَ : عندمَا نَرسُمُ حبّاتِ المَطر

علَى الشّجرْ

عندمَا نَسْتهْدِي الأمواج

إلى السَّواحل دُونَ أنْ تنكسِرْ

وعندمَا نَنْظُمُ شَتَاتَ اللّآلِي

فِي الخَيْطِ الدّقيق

وقتَها نَبْنِي الفُلكَ

لِنَجْتازَ المَضيق

فَمَا أطولَهُ طريق

فَمَا أطولَهُ طريق

(15)

تلكَ خُطاهُ

تُوصِلُنِي إلى مَشاهدِهِ القَديمةِ

وَقفْتُ أمامَ البوّاباتِ

صَلدةُ ذَاتِ الصَّخر

على هَيأةِ الأقواس

مِنْ أعمدةِ المَرمر قُدَّتْ

قرأتُ نَقيشتَهُ : الاِسمَ والعُنوان

حَملتُ زَادِي…وَاصلتُ الطّريق

عِندَ كلّ فَرْسَخ أسْألُ عنه

نَفْسُ مَا يُقالُ ومَا قِيل

كانَ قدْ مكثَ هُنا قليلاً

ثُمّ شَاقهُ السّفرُ نَحْوَ البَعيدْ

تُرَى أينَ ألقاه

هُوَ الرّاحلُ أبَدًا مِنْ بِيدْ

إلى بِيدْ

وَفِي كلّ عَامٍ تَراهُ

بِعُمْرٍ جَدِيدْ

***

تونس ـ شتاء 2000

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم