صحيفة المثقف

ما الذي حدث في السنك؟

كل شيء طبيعي، عندما تجتاز طريق الجسر الى بغداد القديمة حيث تنتصب مدينة الطب على نهر دجلة كانها قلعة تطل على المياه الهادئة لدجلة ويمكن رؤيتها قبل عبور الجسر المؤدي الى بغداد القديمة .

 تضاعفت اعداد قوى الامن بشكل ملفت في الايام الاخيرة . وانتشرت حواجز جديدة تقطع الشارع الواحد احيانا الى اجزاء، كاننا في حرب، وتلقي بظلال من الشك حول دورها بحفظ الامن، رغم صخبها المظاهرات والاحتجاجات سلمية، لا تعكر سلميتها سوى اختراقات هنا وهناك غير مهمة يمكن ان تحدث في اي مكان، ما بالك بهذه الاعداد الهائلة من المتظاهرين والحشود التي تسد الشوارع الرئيسية ومنافذها معلنة عن مطالبها التي اصبحت ملازمة في جميع الحشود سواء المتجهة الى ساحة التحرير او الميادين التي اتسع نطاقها لتشمل اغلب الساحات الشهيرة والمعروفة في بغداد .

جلسنا بمقهى الوثبة، وطلبنا من صاحبه كود الانترنيت .

 مال علينا وقال: يعني انترنيت بلاش!

وسرعان ما عاد وكرر الكود عدة مرات الى ان استطاع قاسم الاتصال بالانترنيت، علق بعد ان ذهب صاحب المقهى حتى لو دفعت له عن الانترنيت لا يقبل . لا ياخذ سوى ثمن الشاي و الاركيلة . واكمل قاسم: يعني انترنيت بلاش!

وزاد لا يأخذ عن الانترنيت ولو تحولت المقهى الى مقهى انترنيت، والجميع اتوا بحواسيبهم الى المقهى . وظل يبحث في صفحات لم اشاهدها من قبل، وعلى الفيسبوك وتويتر الى ان وصل الى ما يريد قوله فقال بتذمر:

 ساريك احد الابطال الشعراء سرق احدى قصائدي، وجيرها باسمه .

وحين بدأت بمتابعة القصيدة، تذكرت انني سمعت مقاطع منها، وقرأت ابياتا منها كذلك على قصاصة ورق .

سرقها رغم ان تاريخ القصيدة كان مرفقا بها . ولم اجد ما اواسيه به سوى دهشتي وتعجبي من جرأة نشر قصيدة باسم غير صاحبها، رغم انها منشورة ومعروفة سابقا .

لا بد ان هناك خطأ ما في مثل هذه السرقات الجريئة رغم سهولة كشفها، ولكن كل ذلك لم يهدأ من مرارته وسخطه، رغم ان ليس امامه سوى ان يقبل بواقع اختلط فيه الحابل بالنابل، يجهل حقوق الملكية الفكرية وما شابه من قوانين تمس الجهود الفكرية والابداعية للكتاب والادباء والفنانين، نبدو فيه اننا لا ندراك اهمية الحقوق في واقع مهما جمل سرعان ما يظهر قبحه الى العلن ويفضح جوهره المرائي المختفي بنبالة مما يفقده صدقه امام الصديق قبل العدو .

صاحب مقهى الوثبة منسجم مع نفسه بثقة، كان الانترنيت احد المصادر الرئيسية والمهمة خاصة مواقع التواصل الاجتماعي لانتشار الشعارات الجديدة والقصائد الوطنية والاغاني الوطنية عن انتفاضة تشرين الشبابية، وطالما راينا الافلام المصورة في الاعتصامات والمظاهرات تدور فيها وتصوير الاغاني مع اللقطات العفوية التي تحمل الكثير من الدلائل تؤكد الروح الوطنية للشباب وعنفوانها او من خلال تجمع شبابي يصغي ويردد مقاطع من قصائد وطنية واناشيد جديدة بساحة التحرير والنفق و جبل "احد"، وعازفون اكثرهم من الشباب وقلما نجد بينهم محترفون فهم قله ولا يمكنهم مجاراة عنفوان الشباب وانتفاضته وهتافاته .

حين يطوف صاحب المقهى بالشاي يسال عن اخر القصائد والاغاني ويفرح فرحا طفوليا لكل خبر يأتي من ساحة الوثبة القريبة او شارع الرشيد اما ما تأتيه من اخبار من ساحة التحرير فانه على استعداد ان يتوقف عن العمل للاصغاء لها بكل جوانحه وكيانه لتنقله الى عالم اخر من الحرية لا يطاله الظلم والفساد والاسعباد خاصة لدى الشباب والاجيال الجديدة المنتقضة لاجل حقوقها الممتهنة من الاحزاب والتيارات الفاسدة على مدى 17 عاما مضت .

2

 تبدو الانتفاضة بين حين واخر بين صعود وهبوط، لكثرة محاولات تخريبها من الاحزاب والتيارات الفاسدة، وتدخل اصحاب القبعات بحجة حماية المتظاهرين والمعتصمين، وهم في الحقيقة بلطجية وحثالات وقمامة المجتمع يجهلون حقوقهم، ويسيرون وفق اوامر لا يدركون اساءتها لهم ومستقبل بلدهم تأخذ اوامرها من دولة اجنبية تسعى لتثأر من شباب العراق على يد هؤلاء الافاقين .

تضاعفت نشاطاتهم التخريبة مؤخرا لدرجة حرق خيم المعتصمين والاعتداء على المتظاهرين في ساحة التحرير وساحات وميادين التظاهرات والاعتصامات في محافظات الوسط والجنوب .

3

كنت ساذهب الى الكرادة .. وحين عدت كان شارع الرشيد والخلاني يشتعلان بحركة المتظاهرين والهتافات، تصل الى شارع امانة بغداد وساحة الوثبة، ولم استطع الوصول من ساحة الوثبة الى الرشيد، توقفت عند نهاية الاستدارة دون ان اتمكن من دخول الشارع .

 قنابل الدخان ترسم اقواسا رمادية متبددة قبل ان تسقط خلف ساحة الخلاني او قرب شارع امانة بغداد، تبدو عشوائية ومرتبكة دون ان تصيب هدفها، كأنها تتفادى اصابته، وان قوة ما خفية تدفعها بعيدا عنه لا تترك اثرا سوى خطوط فضية في السماء وفي مكان ارتطامها بالارض، وثتير زوبعة من الدخان الرمادي الكثيف يبقى مشتعلا عدة دقائق قبل ان ينطفئ ويتبدد بعيدا عن الحشود واماكن تجمعهم في ساحة الخلاني وقرب شارع الرشيد وأمانة بغداد .

4

سألني قاسم: هل تذكر الكنيسة في الميدان او "الخرابة" كما يسميها؟

قلت اذكرها .

قال اذا رايتها سوف لا تعرفها . رممت وازيلت الانقاض منها ومن حولها، واعيدت كما كانت واحسن، كانت تبدو البقعة الوحيدة في الميدان الهادئة تقع خلف الشارع الرئيسي للميدان بعيدا عن صخبه والحركة الدائبة فيه ليلا ونهارا . طليت جدرانها بالوان زاهية ومبهجة كانها تحفة ملقية وسط خرائب الميدان وقصورها المهجورة .

5

كراج السنك ..

استدرج مئات الشباب من ساحة التحرير وجبا "احد" الى كراج السنك بخدع دنيئة، وحوصروا في الكراج غير بعيد عن جسر الجمهورية المؤدي الى المنطقة الخضراء:

قال قاسم:

غدروا على يد مجرمي الاحزاب والتيارات ومليشياتها واصحاب القبعات .

حوصروا في الكراج من قبل من يدعي حمايتهم "اصحاب القبعات" وفتحوا النار عليهم عشوائيا .. قلت يا لها من خسة . فقال قاسم: ماذا تتوقع من مليشيات احزاب فاسدة نهبت البلاد .

قلت له صحيح ولكن الجريمة تفوق كل الجرائم التي ارتكبتها مليشيات الاحزاب والتيارات الفاسدة وجرائمها ضد المتظاهرين السلميين .

وختم ما قاله مؤكدا:

جرائمهم قد تشمل الجميع لانهم لا يؤمنون بالحوار والسلمية،، معبؤون ضد الاخر غير المؤيد لهم ولاحزابهم وتياراتهم الفاشلة ..

ولكنه سرعان ما استدار بالحديث وقال: اصبحت المنطقة اسفل جسر الجمهوية منتجعا ومحطة استراحة للمتظاهرين على شواطيء دجلة، من عناء التظاهر والهتافات في ساحة التحرير .

سويت مساحات رملية واسعة على ضفاف دجلة لتكون ملاعب للكرة الشاطئية يرتادها الشباب بين حين واخر مع الاراكيل والكراسي والمظلات الشمسية بالوانها الجذابة في حالة استرخاء ولعب ولهو تستفز  المليشيات والقتلة المأجورين، ويستفزهم اكثر الحضور النسوي الدائم على ضفاف وشواطيء دجلة وساحات اللعب والتسليات على رمال الشواطيء القريبة من ساحة التحرير وخيم المعتصمين .

ما ابشع واشنع واجبن ما فعله المجرمون بحق الشباب العزل؟!

ليسوا مجرمين فقط، بل مرضى يكرهون الحياة والشباب .

6

 لا شيء من ماضي العراق، وانتفاضاته الخالدة ومظاهراته، التي رافقت جميع العهود الماضية تقريبا، يشبه ما يحدث في ساحات وميادين بغداد، انه تاريخ جديد يكتبه الشباب للحاضر والمستقبل بوضوح وبساطة .

7

ما ابعد واقصر المسافة

بين الميدان وساحة الوثبة

بين الخرائب والانقاض

وقلب ينبض بالتغيير

يمتد من الخلاني وساحة الوثبة وشارع الرشيد 

الى ساحة التحرير،

تنتفض جموع الشباب بعنفوان

وتردد الشعار الوطني

باصرار وأمل:

"اريد .. حقي"

و"اريد .. وطن" .

تلخص مطالب شباب العراق

في الساحات والميادين

رافعين علم العراق عاليا

في سماء بغداد .

***

قيس ال ابراهيم العذاري

..................

هوامش:

ساحة ومحلة الميدان:

تشير بعض المصادر التاريخية إلى ان تسمية المحلة والساحة المشهورة باسم (الميدان) يعود إلى المدة العباسية حيث أسست الساحة على مقربة من قصور خلفاء وأمراء العباسيين لتسليتهم من خلال ممارسة الرياضة. بينما ينسب بعض تسميتها إلى تحولها لساحة لتدريب واستعراض الجيش العثماني أيام حكم العثمانيين، وهو ما يعرف في الأعراف والمصطلحات العسكرية بالميدان.

ويشير الباحث في تاريخ بغداد (إبراهيم عبد الرحمن) إلى ان "الساحة حُولت فيما بعد من مكان لتدريبات للجيش العثماني إلى سوق لبيع الأعلاف لخيول العربات التي تنقل السلع والبضائع والمسافرين إلى بغداد حيث كانت ساحة الميدان المحطة الرئيسة لمدخل بغداد الشمالي .

وكانت تستخدم أيضا لعرض وبيع العبيد المستقدمين من بلدان روسيا والقوقاز وأرمينيا ووسط آسيا ..

اشتهر فيها "طوب ابو خزامة" في يوم عشرة كانون الثاني 1968 نصب (طوب ابو خزامة) في ساحة الميدان على قاعدة كونكريتية .

يبلغ طول المدفع اربعة امتار ومحيط فوهته نصف متر وهو مصنوع من النحاس وقد كتب على ظهره مما يلي الفوهة ما نصه: عمل برسم السلطان مراد خان بن السلطان احمد خان سنة 1047 .

وما زالت محلة وساحة الميدان تنبض بالحركة وتنشط فيها اسواق وصناعة التحف والمنتجات المحلية والفلكلورية العراقية، تمتاز بيوتها بالشناشيل والواجهات المعمارية ذات الهندسة النادرة، ولكن معظم قصورها وبيوتها ذات الشناشيل اصبحت عبارة عن انقاض وبعضها ايل الى السقوط والاندثار .

تقع محلة وساحة الميدان مقابل مبنى وزارة الدفاع القديمة سابقا وسط بغداد .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم