صحيفة المثقف

شِعريةُ التفاصيلِ اليَوميةِ لواقعةِ الحَياةِ التداولية وأثرُها عندَ السَّماوي

جبار ماجد البهادليقراءةٌ نقدية في قصيدة: (أنا وحَقيبتي وخيباتُ الوًجعِ ) للشًّاعر يحيى السَّماوي

حين يُصبح العنوان انعكاسا نصيّا موازيا لنصّ الواقعة الشعرية، ويكون مؤديًا لوظائفه الأربع : (الإخبارية والدلالية والتأويلية والثقافية)، فإنه يكون عتبةً دلاليةً ومفتاحا رمزيا لثريا النصّ المُشعة بأفيائها الوارفة على ظلاله الداخلية. بيدَ أنّ هذا الأثر السيميائي لا يكفي إيقاعا ودلالة جمالية إذا لم تكن التجربة الشعرية حاضرةً بنفسها قبل وحي اللحظة الشعورية للواقعة الشعرية، وذلك من خلال تفاعل الذات الشّاعرية (الأنوية)، والعالم الخارجي الموثِّر في موضوع جمالي يُؤرخِنُ لحدث الواقعة الشعرية زمانيا ومكانيا. فزمانيا (الوقت مَشلولٌ) عاجز عن أداء وظيفته الزمنية المتتابعة لمسايرة الحدث، ومكانيا (المَحجَرُ الحَجَريُ أعمى) البصر وغير قادر على كشف الرؤية الحقيقية لكوامن الأشياء، فكلّ شيء عنده سِيّان، وقد استوت لديه مظاهر الأنوار وعتمة الظُلَم. وحتّى بصيص الأمل المنتظر الذي يطلّ علينا من ضياء النوافذ الكاشفة تَصيَّرَ أخرسَا أبكما لا ينطق صوتا أو يبعث نورا، بل يشتكي بصمته المطبق من هول الواقعة وأثرها (الزمكاني) . وبهذا التجديد اللّغوي لفنيّة التعبير التخليقي، تمكّن يحيى السَّماوي لغويا بأسلوبه المخيالي الإنزياحي من (أنسَنَةَ)هذه الجمادات الصورية والمعنوية الثلاث فنيّا وجماليا، والتقطَ لها بعدسات شعره النصيّة من خلال هذه الأرخنة الزمانية والمكانية صورا حيواتيةً جديدةً، لكنّها صورٌ معطّلةٌ تماما لا ماءٌ فيها ولا رواءٌ، سوى أثرها السلبي المؤثِّر بنكوصه على الواقعة الشعرية، كونها مغايرةً لدلالات صورها الحقيقية الفعلية المعروفة تداوليا . وتماهى وعيه شعوريا مع صور هذه المغايرة الدلالية القريبة والبعيدة وأسقط ظلالها الفنيّة على تضاريس الواقعة الحدثية، لإنتاج معانٍ ودلالاتٍ تركيبية جديدة شكلا ومضمونا :

الوقتُ مشلولٌ

وهذا المَحجَرُ الحَجَريُ أعمى

والنوافذُ تشتكي خَرَسَا

ليس غريبا على شعرية السَّماوي، ولا على مظاهر سمت خطابه الأسلوبي المعاصر أن يكتب تشعيرا قصصيّا حكائيّا يعمد فيه إلى تأثيث وبناء تركيب بنيته الشعرية وسردنتها دراميا بتراجيديا شعرية حزينةٍ أو كوميديا شعرية مُفرحةٍ  في حدود الواقعة الشعرية. ولا غرابة في الأمر حين نجوس خلال بنية هذه القصيدة أو غيرها من شعره ، فنجد أنفسنا أمام مشاهد شعرية صورية تقترب في إيقاعها الأسلوبي من مسرحة الشعر ولا تقع فيه وتوزع أصواته الرئيسة على فضاءاته النصيّة بدءاً بصوت الشاعر الظاهر والمُضمر قناعيا، ومرورا بصوت العسكري بنقطة التفتيش، فصوت سائق السيّارة مشفوعا بصوت (الحقيبة)دالة الحدث الأكبر ومهيمنة حياة الواقعة الموضوعية. ولكنّ الأغرب في الأمر أو اللافت للنظر في أسلوبية الشاعر السَّماوي في البنية النصية لهذه القصيدة المفرطة بتراجيديتها المؤلمة توظيفُ الشاعر لوحدته الموضوعية وتجسيد أحداث واقعتها الشعرية بلغة تفاصيل الحياة اليومية،أو ما يُسمّى في النقدية الشعرية الحديثة (قصيدة التفاصيل اليومية)، أي تشعير ما هو متداول حياتيا بلغة فنيّة مؤثّرة ومتأثّرة بالواقع اليومي الذي يلامس شغاف قلوب الناس ويعكس معاناتهم اليومية، وهذا الانحراف بحدّ ذاته يعدّ تحولا فنيّا وتجددا مباشرا في أسلوبية الشاعر المعجمية المبهرة في الميزان النقدي . وهذا اللون من التشكيل الأسلوبي لفنيّة التعبير التفصيلي المتداول لأنماط وقع لغة الحياة اليومية هو ما انماز به الشاعر اليوناني الشهير (يانيس ريتسوس) الذي برع فيه فنيّا وجماليا في تصوير الحياة التداولية، وقد تأثّر به شعراء الحداثة من العرب والعراقيين، واتّبعوا طريقته كمحمود درويش وسعدي يوسف،وغيرهما من الشعراء على سبيل المثل لا الحصر. ولا ضيرَ أن يُخلِّقَ شاعر مبدع مثل السَّماوي هذا (الماحول) المحيطي من التفاصيل ويؤرخنها صوريا بلغة إبداعية شفيفة يُعيد فيها إنتاج معانى الحياة ويترجمها فنيّا، فيكون التساؤل للوصول إلى المبتغى وسيلةً مؤجّلةً، ويكون الشعر غاية المنشود وسفينة النجاة إلى مراسي الحُلُمِ وضفاف الأمان، ولكنّ الآمال تتبدّدُ حين يكون اليأس عدما :

كيفَ الوصولُ إلى الضُّحى

واللّيلُ مَشدودٌ إلى جبلِ الدُّجى؟

 فإذا كان صوت الشاعر متعاليا واضحا بـ (كيفَ الوصولُ)، فإنه بعد وقوع الواقعة وتأثيرها أخذ يخفت متخفيا بالهمس من خلال ضمير الشاعرية المستتر بفعل المشاركة الاستمرارية الحالية (أمشي) للتعبير عن ذاته الشعورية المنكسرة الخطى، لا أمل له فيها يحقّقه ولا رجاء ينتظره بعد خيبات الانكسار :

 أمشي فَيرجعُني إلى حيث انطلقت الدربُ مُنكسِرُ الخٌطى

وتموت كل مفاتيح الرجاء وتقنط آمال الشاعر المعقودة على الانفراج، فلم يبقَ من صوته المتعالي نحو أفانين الرجاء إلّا (الحقيبةَ) رمز الحياة الشاعرية وإيقونتها السحرية المؤثّرة، كونها تمثّل في حقيقتها الدلالية السيميائية جوهر المعادل الموضوعي الشعري للواقعة الشعرية بكل أبعادها وتشكّلاتها الدلالية الفاعلة :

وحَقيبتي تَمشي ولا تَمشي

 فالشاعر هنا يؤنسن (الحقيبة) صورة هذا الجماد الرمزي ويمنحه دلالة روح الحياة وإكسيرها المتجدد القادر على الفعل الحركي (يَمشي)، حيث مسيرة مبتداها ومنطلقها الأول. فالفعلان ( تَمشي ولا تَمشي) مختلفان في هواهما ومسيرهما المحايث، ولعلّ هذه الصورة الانحرافية المخيالية المغايرة تذكرنا بصورة عروة بن حزام في وصف ناقته خلال رحلته الطويلة إلى ديار الحبيبة:

هوى ناقتي خًلفي وقُدَّامي الهًوى وإني وإياها لمُختلفانِ

ويمضي السَّماوي بسرد وقائع رحلته وتفاصيل حكايتها بعد أن نفدت آمال رجائه وتغشته سمادير الكدر والحزن والألم حين يأتيه صوت العسكري قاطعا عليه الطريق وسادّا كلَّ آمال الرجاء بوجهه، حيث لا سفر ولا بقاء إلّا الامتثال لأمر العودة القسرية:

يَقولُ العًسكريٌ بِنقطةِ التَّفتيشِ جِئتَ مُبَكِّرَا ..

عُدْ فَالصًباحُ رَبَاحُ

لا إركابَ هذا اليومَ فالصالاتُ مُغلِقةٌ

 وَلَستَ مٌخوَّلَا لتنامَ في " كَرفاننا"

لم نعهد في شعرية السَّماوي من قبل مثل هذا التسريد الشعري الذي يدخل منطقة نصّه زائرا شاخصا بتفاصيل الرحلة اليومية، وقد يكون مملولا رتيبا ممقوتا في هذه القصيدة لولا وراؤها هذا الجهد الكبير والروح الشعرية النقية المفعمة بالتفاعلات الحياتية الصافية المهمّة، والتي أوصلت القصيدة عند السَّماوي إلى هذه المنطقة الفنارية المضيئة اللامعة من الإشعاع الروحي الذي كرس فيه جُلَّ جهده الإبداعي الثرٍّ لمخاطبة الناس والأشياء بهذا النصّ الذي يمكن لنا أن نطلق عليه جماليا (قصيدة الحياة) التي نحسّ فيها هِزَةً حسيّة متدفقة من روح الشاعر، ورعشة حركية من قلبه المٌجهد بالألم، لذلك فإن القصيدة عند يحيى السَماوي قد تلامس شيئا من تخوم الغنائية الحزينة ولكن لا تنتمي إلى خطوط طولها أو عرضها ، وتقف عند أقانيم الوصفية الرائعة ولا تلِجُ إلى نفقها اللامتناهي، وتقترب من تسريد الشعر ولا تنغمس في تضاريسه الممحلة بأمطار السرد . وكأنّ القصيدة عند السَّماوي حالة ما (فوق الشعورية) متدفقةً يتوالدُ فيها خطّان شعريان جميلان، خطّ التوجّه التصويري الحسّي للأشياء المادية، وخطّ التفجّر الروحي النفسي التخييلي الرّحب بمداراته العميقة وأضوائه الكاشفة. ولولا نثيث روح التماهي الصوري الفنّي الذي تعاضدت فيه صورتان من الإزاحة اللغوية والمعنوية مع صورة الإزالة الجمالية التي تمثلت بظلال الواقعة الشعرية التداولية التي هي وحدة الموضوع ونقطته التحولية، لما كانت القصيدة ثورةً نفسيةً وردَّ فعلٍ قاسٍ عن الحياة بفرائدها اليومية وتجلياتها الروحية. وإن تكرار وَحْيِ الشاعر بصورة عفوية تلقائية لا قصدية أو تعمدية لموضوعة (الحقيبة) في أكثر من موضع أو  شاهد أو صورة شعرية في ثنايا القصيدة يمنحها رمزيا نقطة الإضاءة المركزية اللافتة بإضاءتها البلورية المشعة، ويجعلها دلاليا بؤرة العمل الفنية المحتشدة بطاقات إيحائية مكثفة من سُبُلِ حياة الناس:

أمشِي ولكنَّ الحقيبةَ لمْ تَعُدْ تَمشي

وأبعدُ من سماواتٍ عن القَدَمِ السَّماوةُ

كم هي عصية على قلب الشاعر تلك الرِّحلة الروحية التي شٌدّت بنياطه علائقَ لا تنفكُّ، ولا تعرف اليأس طريقا لهذه الحياة المتجددة. ومهما اختلطت على الشاعر وجهات بوصلته وتباينت رؤيتها فكريا وفنيّا، فإنه ظلَّ يرسم لوجه حقيبته الحياتية -رمز الهداية والحقيقة والخلاص- صورةً حسيّةً لعمق المتاهة ملازمةً لصورة (يوتوبيا) المكان أو اللامكان حين ينشطر الشاعر نصفين بينها كمن يُقسِّم جسمه وروحه في جسوم كثيرة ولا يجدها إلّا ضائعة، وكأنه يعيش حُلما لا واقعا محقّقا :

هًا أنا نِصفانِ نِصفٌ ضَائعٌ في اللامَكانِ

ونِصفي الثّاني يُجَرجْرُ بالّتي تَمشي ولا تَمشي

فَتأبى غَيرَ أن تَتًدَحرًجَا

وتفاصيل القصيدة بهذا الضياع الوجودي (أكون أو لا اكون )، وبهذه المتاهة المغلقة، تؤكّد أن الشاعر بتفاصيلة المتواترة لا يُريد أن يَهمُلَ أو يُهمّش أي صوت من أصوات رحلته المعراجية العسيرة، فهو حريص كلَّ الحرص على إبراز كُلِّ شخصية مؤثّرة فيها، ولعلّه هذه المرّة يُريد أن يجسد صوت السائق الشّهم الذي لم يُبارحه في أديم الصحراء اللاهبة، فيتسلل صوته هادئا مطمئنا عل لسان حاله :

نَمْ إن أردتَ فإنَّ وجهَكَ شَاحِبٌ

وأردفَ سَائقُ "التَكسِي" المُهَذَّبُ "أحمدُ بنُ سعيدِ لَفتةَ" فًالطَريقُ إلى السَّماوةِ آمنٌ فَدِعِ القَلقْ

فالشاعر بإيقاع أسلوبه المسترسل بالتداولية مهتمٌ وحريص كلّ الحرص على (أرخنة) مثل هذه التفاصيل البسيطة لا لجذب انتباه المتلقي وشدّه إليه فحسبَ، وإنّما ليعيش واقعية الواقعة الشعرية الحياتية وما يُحيط بها من تجليات ومآسٍ وأبعاد نفسية خطيرة . لذلك نراه يمنح صوت السائق فرصة أخرى للتعبير عما آلت إليه أمور واقع الحال وصور المحال. فبعد خيبة الرجوع إلى السَّماوة والوصول إليها بِخُفِّي اليأس والانكسار ينطلق صوت السّائق إيذانا بدخول البيت واصفا طبع (الحقيبة) وسلوكها الشكلي كيف تغيًّرَ مكانيا مع طبع المكان وقيمته التوافقية، فالحال الجديد غير الحال المكاني والزماني السابق الذي هو بالطبع حال تجربة الشاعر الحياتية:

أُدخُلْ.. وَصَلنا البيتَ .. لا تَقلَقْ

حًقيبتُكَ الّتي تًمشي ولا تَمشي تَغيَّرَ طَبعُهَا

صارتْ تَسيرُ كَمَا تَشاءُ عَلى مَلاطِ البًيتِ

تَعدُو كَالغزالِ إذا انطَلًقْ

هكذا يَهبُ الشاعر السَّماوي هذا الرمز الحياتي صورة نفسية أخرى مغايرة لواقعها المحلي المحيطي المألوف، لِيَخلُقَ منها روح الألفة الدائمة والتواشج المحايث بين الواقع النصّي الشعري الإبداعي والواقع الموضوعي للواقعة الحياتية. فينتج الشعور بالواقعة -حسيّا أو مخياليا- من العدم حياةً ومن الحياة عدما . وتعود خيبات الوجع ومعصرات مرارة الألم تجترُّ بدائرتها الفلكية ورحى قطبها السالب على طريق الشاعر مرّةً أخرى من حيث دورة (المُنتهى والمُنطلق)، وتُصبح الصورتان سِيّان في خلاص الحدث، بل يزداد تشاؤم الشاعر ويتضاعف يأسه من وقع هول أمطار الوجع التي لم تفتأْ أن تنفكّ عنه ولو لفرصة واحدة مؤاتية يرى فيها النور إشراقا بعد حلكة ذلك النهار وليلتة المدلهمة بخطبها المؤلم القاسي. وتتعاظم واقعة المصيبة من جدبد في مخيلة الشاعر وتأخذ انحرافا صوريا جماليا أخر حين بات من غشاوته الفكرية لا يُفرق بين صورتي الشفق الصباحي الذي يكسر بحمرته قيد الليل بالنهار، وصورة غسق الغروب المسائي الذي يُبدل ضوء النهار بالليل و يُبددُ أحلامة بهذه الطامة. ولم يتردّد وحي السَّماوي أبدا عندما جعل ختام القصيدة صورة حيّة ناطقة بالمطلع :

 الوقتُ مَشلولٌ

وهذا المَحجًر الحَجَريُ أعمَى

والنوافذُ تَشتَكِي خَرَسَا

فَمَا أدرِي

هل الشّفقُ الّذي خلفَ الجِدَارِ أم الغًسَق ؟

***

د. جبّار ماجد البهادلي

.........................

 

أنـا وحـقـيـبـتـي وخـيـبـات الـوجـع

(1)

الـوقـتُ مـشـلـولٌ

وأبـعَـدُ مـن سـمـاواتٍ عـن الـقـدَمِ الـمـكـانُ الـمُـرتـجـى

*

كـيـف الـوصـولُ الـى الـضـحـى

والـلـيـلُ مــشــدودٌ الـى جَـبَـلِ الــدُّجـى ؟

*

أمــشـي

فــيُــرجِـعُــنـي الـى حـيـثُ انـطـلـقـتُ الـدربُ

مُـنـكـسِـرَ الـخـطـى

وحـقـيـبـتـي تـمـشـي ولا تـمـشـي

يـقـولُ الـعـسـكـريُّ بـنـقـطـةِ الـتـفـتـيـشِ :

جِـئـتَ مُـبَـكِّـراً  ..

عُـدْ

فـالـصَّـبـاحُ ربـاحُ

لا إركـابَ هـذا الـيـومَ فـالـصـالاتُ مُـغـلـقـةٌ

ولـسـتُ مُـخَـوَّلاً لِـتـنـامَ فـي " كـرَفـانِـنـا  "  ..

نَـمْ حـيـثُ شِــئـتَ سـوى هـنـا

فـالأرضُ واسـعـةٌ  ..

ولا مـن فـنـدقٍ فـي هـذه الـصـحـراءِ

فـاطـلـبْ مـن ســوانـا لـلـمـتـاهـةِ مَـخـرَجـا

*

ــ هـل لـيْ بـإيـداعِ الـحـقـيـبـةِ عـنـدكـمْ حـتـى الـصـبـاحِ ؟

ــ أأنـتَ تـمـزحُ ؟ مـا نـقـولُ إذا رآهــا ضـابـطُ الـتـفـتـيـشِ ؟

خـذهـا والـتَـمِـسْ لـيْ مـنـكَ عـذراً  ..

أمْ تُـراكَ تـريـدُ لـيْ أمـراً  مُـهِــيـنـاً مُـحْـرِجـا ؟

....

.......

..........

 

أمـشـي

ولـكـنَّ الـحـقـيـبـةَ لا تـريـدُ الـمـشـيَ

هـا أنـذا تـوسَّـدتُ الـحـقـيـبـةَ أســتـحِـثُّ الـشـمـسَ

واسـعـةٌ هـي الـصـحـراءُ

لا مـاءٌ ولا شــجَـرٌ

سـوى قـمـرٍ خـجـولٍ خـلـفَ غـيـمـتِـهِ سَـجـا

*

مُـتـدَثِّـراً  بـمَـلاءةِ الـتـعَـبِ الـمُـذِلِّ غـفـوتُ  ..

أيـقـظـنـي رذاذٌ بـاردٌ

فـنـهـضـتُ  ..

نَـفَّـضْـتُ الـرمـالَ  ..

مـشـيـتُ  ..

لـكـنَّ الـحـقـيـبـةَ لـمْ تـعـدْ تـمـشـي

وأبـعَـدُ مـن سـمـاواتٍ عـن الـقـدَمِ الـسـمـاوةُ

هـا أنـا نـصـفـانِ

نـصـفٌ ضـائـعٌ فـي الـلامـكـانِ

ونـصـفـيَ الـثـانـي يُـجَـرجِـرُ بـالـتـي  تَــمـشـي ولا تــمـشـي

فـتـأبـى غـيـرَ أنْ تــتــدَحـرَجـا

***

(2)

نَـمْ إنْ أرَدتَ فـإنَّ وجـهَــكَ شــاحِـبٌ

ســأقـودُ فـي حَـذَرٍ

وأردفَ ـ سـائـقُ  " الـتـكـسـي " الـمـهـذّبُ " أحـمـدُ بـنُ سـعـيـدِ لـفـتـةَ " ـ (*)

فـالـطـريـقُ الـى الـسـمـاوةِ آمِـنٌ فـدَعِ الـقـلـقْ

*

ســأنـامُ ـ قـلـتُ لـهُ ـ ولـكـنَّ الأرقْ

*

يـأبـى مُـغـادرةَ الـحَـدَقْ

*

مـا حِـيـلـتـي ؟ فـالـريـحُ عـاتـيـةٌ

فـكـيـف يُـقـاومُ الـريـحَ الـورَقْ ؟

......

.........

...........

 

وغـفـوتُ بـعـدَ  " الـنـاصـريـةِ " ... ربَّــمـا " الـبـطـحـاءِ "  ...

لا أدري

فــقـد كـنـتُ الـغـريـقَ

ولـيـس سـهـلاً  أنْ أفَـسِّـرَ كـيـفَ فـاجـأنـي الـغَـرَقْ

***

(3)

أُدخُـلْ  .. وصَـلـنـا الـبـيـتَ .. لا تـقـلـقْ ..

حـقـيـبـتـكَ الـتـي تـمـشـي ولا تـمـشـي تـغـيَّـرَ طـبـعُـهـا

صـارتْ تـسـيـرُ كـمـا تـشـاءُ عـلـى مِـلاطِ الـبـيـتِ

تـعـدو كـالـغـزالِ إذا انـطـلـقْ

*

شـكـراً عـزيـزي أحـمـدَ بـنَ سـعـيـدِ لـفـتـةَ ـــ قـلـتُ  ـــ ..

غـادَرَنـي ..

وأغـلـقـتُ الـرتـاجَ  ..

رمَـيْـتُـنـي فـوق الـسـريـرِ مُـضَـرَّجـاً بـلـظـى الـرَّهَـقْ

*

الـوقـتُ مـشـلـولٌ

وهـذا الـمـحـجَـرُ الـحَـجَـريُّ أعـمـى

والـنـوافـذُ تـشـتـكـي خَـرَســاً

فـمـا أدري

هـل الــشــفَــقُ  الـذي خـلـفَ الـجـدارِ

أمِ الــغَــسَــقْ؟

***

 

..............................

(*) أحمد سعيد لفتة: هو سائق سيارة الأجرة الذي أقلّني  من بيتي في السماوة  الى مطار البصرة وأبى أن يتركني وحدي بعد انتصاف الليل حين  تعذّر علينا دخول المطار وتحتّم عليّ الإنتظار حتى الصباح  فقاسمني النوم في الصحراء، وفي الصباح  بعد التأكد من تأجيل الرحلة عاد بي الى السماوة ... كان شهماً نبيلا .. 

مطار البصرة / السماوة 19/4/2020

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم