صحيفة المثقف

كهرمانة

عبرت الشارع من جهة المسرح الوطني الى الرصيف المقابل، كانت محلات الكهربائيات، تصطف وتمتدُ على رصيف الشارع وتخفي جماله، لم تستطع الأشجار الخضراء، إعادة رونقه وجماله، وشعرتُ بالارتباك عند الرصيف، كمن يهربُ منه، كانت ساحة التحرير لا تبعد كثيراً، وقريبة، ولكن لا توجد مظاهرات اليوم، يجب الانتظار ليوم الجمعة..ولا أتذكر الى أين كنت أنوي الذهاب، فقد أتيتُ لعملٍ ما ونسيته، واصبحت الكرادة والمسرح الوطني، بعيدين عني .

قال سائق التكسي، سأوصلك الى الكرنتينه، قلتُ له من بداية الشارع أو من كهرمانة، فسألني :

تنزل قرب الساحة؟

 أشرت له "نعم"، وسمع تعليقي "أي ساحة"، وضحك بسخرية! كانت هنالك بنزين خانة جديدة، تسدُ الساحة وتخنقُ الفضاء من بداية الشارع وتلقي بظلالها على ما تبقى من جماله وهدوئه، دخل في الشوارع الفرعية ذات شارع واحد، وبيوتها الهادئة، ووقف على مسافة بعيدة من الساحة، وقال وهو يضحك «خلّصتك منها»، يقصد البنزين خانة ولكنني ما زلت اراها من مكان توقفه فشكرتهُ واشرت اليها فضحك ..واعطاني رقم موبايله، وطلب مني الاتصال به بأيّ وقتٍ اشاء.

....

كانت ساحة السباع كالحة ومنزوعة الأشجار وصاخبة تعج بالسيارات، قطعتُ الساحة الى شارع الهادي، وقبل نهايته، لاحت أسلاك الكهرباء الممتدة بكلّ اتجاه، وسوق الشارع المزدحم، والبنايات والخرائب المهملة على الساحة الصغيرة، نهاية الشارع، حتى تشعر بأنك لست في بغداد.. في ساحة السباع أو الهادي أو الأمين وباب الشيخ، رفضت هذه الاحياء البغدادية المختلطة، بشدّة، كانتونات عزل السُنّة عن الشيعة، بأوج سُعار الطائفية بين عاميّ 2006 و2007 م، وكوفئت بالإهمال المتعمد، وتبدو كأنها خارج خدمات أمانة العاصمة، رغم إنّها وسط بغداد.

 صدمني الاهمال وشعرت بالتوجس من الذهاب الى الميدان أو الرشيد، كان جامع الخلاني القريب عبارة عن خرائب بجدرانه العالية المحاذية للرصيف، وما زال بعض القاشاني الأخضر والأزرق، يتثبتُ بجدرانه وقبته المستديرة، كأنّهُ يشكو لشارع الهادي، ولكنهُ لا يجد في شارع الهادي وساحته الشبيهة بمكب للنفايات، سوى خرائب مُماثلة، فيلوذ بالصمت والسكينة والهدوء .

 احياء وسط بغداد عبارة عن خرائب وساحات لجمع الانقاض، وتقطعُ الشوارع حواجز تفيض عن الحاجة ونقاط سيطرة تخيف المارة، وأنت تتمشى، أنس أنك في وضعٍ أمني مضطرب، عليك ان تشعر بأنك في أمان رغم ان كل ما يحيط بك لا يشعرك بالامان حين تتجول في بغداد، واذا لم تستطع أن تشعر بالامان، عليك ان تبقى في بيتك أو ترحل وتسافر .

.....

من شارع العلاوي أو من نهاية نفق الشارع والجسر أو المُجسّر الجديد، بداية الشارع باتجاه الكرادة، يرتفعُ حائطٌ كونكريتي هائل، يحمي المنطقة الخضراء، ويعزِلُها عن الاحياء المجاورة، ويظلُ يلف مع الشارع الى نهايته، وقبل أن ادخل في الشارع، فكّرت بالرجوع والذهاب الى شارع الرشيد، فتذكرتُ محلات الزيوت وإطارات السيارات والاكسسوارات التي غزت الشارع، وتوقفت .

......

عدتُ الى رصيف المسرح الوطني، ىتذكر العمل الذي اتيت من اجله بدون هواجس أو أحلام، كانت الكرادة خلف المسرح، هادئة بلا ضجيج، أردتُ أن اتذكر العمل الذي أتيتُ من أجله .. ولكنني نسيت!

قطعتُ الشارع مرّة ثانية من رصيف المسرح الوطني الى الرصيف المقابل، وشعرتُ بالارتباك، لكثرة الكهربائيات المعروضة على الرصيف، والمتسوقين وأصوات السيارات والحاجز أو نقطة التفتيش القريبة بنهاية الشارع، فقد عجزت الإعلانات الكبيرة الملونة والأشجار الخضراء الجميلة والمُشذّبة عن إعادة رونقه وجماله .

 كنت في تلك اللحظة على بعد خطوات من دجلة وأبو نؤاس، ولكنهُ فارغ الآن، بهذه الساعة، كأنّهُ بلا مقاهي أو رواد ومشروبات، اردتُ أن اتذكر العمل الذي أتيتُ من أجله في الكرادة قرب المسرح الوطني، ولكنني نسيتهُ .. قلت "سهام" ستذكّرني به، تذهبُ خصيصاً لمحلاتٍ قريبة من كهرمانة، تبيعُ أكياس "جبس مُملح" من مختلف الاحجام أو بالوزن، وتأكلُ أكثر مما تشتري ..

ولكنني نسيتُ أن اسألها !!

حين عدتُ مشياً

مرة ثانية الى كهرمانة.

 

قيس العذاري

......................

بغداد قبل انتفاضة تشرين التي بدأت يوم : 25.10.2020 م

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم