صحيفة المثقف

العنف الديني من منظور سوسيولوجي

علي اسعد وطفةإن النصر الناتج عن العنف هو مساو للهزيمة، إذ أنه سريع الانقضاء (غاندي)

"… إن ما يميز العنف المعاصر عن أشكال العنف التي عرفها التاريخ، هو التدخل المزدوج للتكنولوجيا والعقلنة في إنتاجه".  إيف ميشو .... ويدرك بالرفق ما لا يدرك بالعنف ألا ترى أن الماء على لينه يقطع الحجر على شدته.

مقدمة:

منذ اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 التي استهدفت مباني التجارة العالمية في نيويورك، انطلقت رحلة البحث السوسيولوجي للكشف عن ملابسات التطرف الديني بوصفه ظاهرة اجتماعية فعكف عدد كبير من الباحثين على تناول هذه الظاهرة بالدراسة والبحث والتحليل.  فالعنف يسجل حضوره الصارخ في سلوك الجماعات الدينية، ومع ذلك فإن علماء الاجتماع لا يجمعون على القول بأن الدين عنيف بطبيعته أو أن العنف يصدر عن الدين صدورا طبيعيا. وعلى خلاف علماء الاجتماع فإن هذه الصورة السلبية للدين بوصفه مصدرا للعنف تترك انطباعاتها القوية في تصورات وقناعات الصحفيين والسياسيين.

والسؤال الذي يرتسم في العقل هو: هل يعبر هذا التصور السلبي للدين بوصفه مصدرا للعنف عن هيمنة إعلامية؟ أم أن ذلك نتاج لحقيقة واقعية أمبيرقية ملموسة؟ وبعبارة أخرى هل هناك من علاقة فعلية وجوهرية بين الدين في جوهره والعنف الديني الممارس من قبل الجماعات الدينية؟ أو هل يمكن للعلاقة بين الدين والعنف أن تكون مجرد إسقاطات إعلامية وفكرية ساذجة وغير موضوعية؟ والإجابة عن هذا السؤال ليست سهلة إن لم تكن معقدة أو شديدة التعقيد.

فالدين يشكل ظاهرة اجتماعية وهو ينزع إلى التطور تدريجيا والانتقال من طبيعته المؤسساتية ليرتسم في صورة شخصية وفردية في راهن هذا العصر، فلم يعد الدين مجرد تصورات تفرضها الكنيسة أو المؤسسات الدينية بل تحول إلى موقف شخصي ورؤية ذاتية للفرد كما تبين الكثير من الدراسات الجارية في هذا الميدان في المجتمعات الغربية في أفضل الأحوال. فكل شخص يمتلك اليوم رأيا خاصا وموقفا شخصيا من الوجود والدين والله والعالم الآخر، وبالتالي فإن علاقة الفرد بالمؤسسات الدينية تأخذ طابعا يتسم بالغموض والضبابية. فالكنائس الكبرى التقليدية تشهد تراجعا كبيرا في هيمنتها وسلطتها الدينية حيث يكون الولاء اليوم وبدرجة أكبر ولاء أنويا (نسبة إلى الأنا) وهو نوع من الولاء الذي تفرضه معايير الحداثة المتقدمة ومقتضيات العيش في رحابها.

وعلى الرغم من هذا التصور الأنوي الفردي للدين والإيمان، فإن العصر يشهد ولادة جماعات دينية صغيرة ولكن روابطها قوية جدا، كما يشهد ولادة جماعات دينية كبرى على صورة حركات اجتماعية بروابط اجتماعية أقل عمقا وتماسكا. ومن الواضح أن هذه الجماعات الطائفية الدينية تتبنى العنف منهجا وطريقة.

ضد العلمانية sécularisation:

تتميز الجماعات الدينية المغلقة برغبتها الكبيرة في مقاومة المجتمع العلماني، ومع ذلك فإن هذه الجماعات الدينية المتزمتة ليست واحدة بل تتنوع في اتجاهاتها وأيديولوجياتها وغاياتها، وعلى الرغم من هذا التباين فإنها تتفق في أمر واحد هو إعلان الحرب ضد النزعة الإنسانية العلمانية بكل ما تنضوي عليه من قيم ديمقراطية وإنسانية. وتحت تأثير هذه العداوة المشتركة للعلمانية، فإن الجماعات المتزمتة والمتصلبة تتحالف فيما بينها وتعمل على تكوين شبكات قادرة على ممارسة التأثير السياسي والاجتماعي في داخل المجتمعات التي تتواجد فيها، وإعلان الحرب ضد مختلف التجليات المدنية والعلمانية والديمقراطية القائمة في هذه المجتمعات. وهي في سياق هذا الصراع ضد العلمانية تقوم بممارسة العنف وتأجيج الصراع، وتعمل على تحقيق استمرارية الصراع والعداء ضد المجتمع المدني وذلك من أجل بناء وتشكيل الهويات الدينية الأصولية[1].

هناك من يعتقد اليوم بأن العنف الإرهابي لا يعبر عن أيديولوجيا أصولية بقدر ما هو انعكاس متضافر لعوامل جيوبولتيكية علمانية. وهناك من يرى بأن الشعور الديني للأصوليين هو نوع من الأيديولوجيا المتمردة الناجمة عن غياب العدالة الاجتماعية. ومع ذلك كله تشهد هذه الجماعات الإرهابية الدينية تزايدا كبيرا حيث تضاعف عددها من 26 جماعة في عام 1994 إلى 49 جماعة بعد مرور عام واحد فقط، وهذا يؤشر على تنامي كبير للعنف المؤسس على الدين.

وهناك من يعتقد اليوم في الغرب بأن العنف الديني المتنامي ولاسيما الإسلامي يأتي تعبيرا وبديلا للإخفاق الماركسي في العالم. كما يأتي ردة فعل واسعة ضد الاحتلال الأمريكي الذي يأخذ صورة جديدة للحروب الصليبية ضد المسلمين والإسلام. وقد أدى التركيز المعاصر على العنف الإسلامي إلى تغطية الصعود الكبير للأصولية الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية والتقليل من شأنه وتبريره في الوقت نفسه حيث يعتقد كثير من الأمريكيين بأن حربهم ضد الأصوليات الإسلامية عادلة بالمعنى الديني والحضاري للكلمة، وقد أسس هذا التصور للعنف السياسي الذي تمارسه الدولة الاستبدادية والدول الديمقراطية أيضا حيث يمكن الإشارة في هذا الخصوص إلى سجن غوانتاناما Guantanamo أو إلى عمليات التضييق على الحريات المدنية في الولايات المتحدة الأمريكية.

لقد ساد في الآونة الأخيرة نوع من الإرهاب الذي يُفسر بشكل واسع بأسباب جيوبوليتيكية، وعلى خلاف ذلك غالبا ما يفسر هذا العنف بطبيعته الرمزية، فالعنف الديني يأخذ طابعا رمزيا أكثر منه عسكريا. ومن الواضح هنا بأن الإرهاب يعمل على نشر الخوف وبث الرعب وبناء أجواء هستيرية مخيفة في وسط الناس والعامة، وهذا الخوف الذي تثيره الجماعات الإرهابية يقوم على أساس التهديد الرمزي بالدرجة الأولى، وذلك لأن الجماعات الإرهابية الدينية لا تملك إمكانيات كافية من أجل مواصلة حروب عسكرية واسعة وشاملة، ولذلك فهي تلجأ إلى حروبها الرمزية فتعمل على تدمير الرموز المعادية، حيث يتم استهداف المساجد والمباني والكنائس والمراكز الرمزية من أي نوع كانت. ومن الواضح أيضا أن العنف الرمزي الديني يباشر تأثيره الكبير في عملية الضبط الاجتماعي للأفراد والجماعات ولا يمكن أو ليس من الحكمة أبدا التقليل من أهميته أو الاستهانة به ولاسيما عندما يكون هذا العنف دينيا[2].

يقدم عالم الاجتماع الأمريكي سكوت Scott R. Appleby رؤية أكثر وضوحا للعنف الأصولي والديني، فالمقدس بالنسبة إليه غالبا ما يكون محايدا بوصفه مقدسا ولكن تفسير المقدس ليس كذلك لأن هذا المقدس يأخذ دلالات أيديولوجية عندما يتعلق الأمر بالوظيفة والتفسير. فالمجتمعات الدينية غالبا ما تلجأ  إلى الدين لتفسير وقائع الحياة والتجارب الإنسانية التي تعيشها، والكاتب يفند النظرية التي تفسر العنف الديني بعوامل جغرافية سياسية (جيوبوليتيكية). فقدرة الدين على تحقيق النشوة الدينية، وإخراج المؤمن من ضغط الحياة اليومية وإكراهاتها تشكل منطلق كل عنف ديني. ففي مختلف الأديان يقود التدين الزهدي إلى نشوة التضحية بالنفس أو بالآخر، وهذه سمة مشتركة بين جميع الأديان.

فعندما تقوم الدين بإضفاء طابع القدسية على عملية النضال من أجل الاستقلال السياسي -أي عندما تريد لجماعات الدينية أن تحقق استقلالا سياسيا على أساس المعتقد الديني - فإن الحركات العرقية والقومية الأخرى تجد مبررها المشروع لتمارس العنف بدورها ضد الجماعات العرقية والقومية الأخرى. فالهوية الدينية تؤدي في نهاية الأمر إلى تعزيز وتوسيع دائرة الكراهية والأحقاد العرقية والقبلية في المجتمع.

فالمتطرفون الدينيون يقومون بتوظيف الدين من أجل تبرير العنف والتمييز بين الجماعات العرقية أو بين الجماعات اللغوية المختلفة. ولكن كيف يمكن تفسير انتشار العنف الأصولي وانتشار مؤيديه بين أفراد عرفوا بما يتمتعون به من نبل أخلاقي؟ في سياق الإجابة عن يمكن القول بأن الأمية الدينية تشكل عاملا حيويا وبنيويا في عملية تنامي وتصاعد العنف الديني، ولاسيما في وضعيات الضغط والتأزم. وما يميز هذه الأمية أنها نتاج مستمر لانخفاض كبير في مستوى التفكير النقدي وانخفاض مستوى الثقافة الدينية الحقيقية نفسها. وهو الأمر الذي حدا ببعض الدول الغربية إلى تأهيل رجال الدين والعاملين في المؤسسات الدينية من علماء وفقهاء وقساوسة تأهيلا فكريا وثقافيا جديدا.

يعلن أبليبي عن أهمية الدور الكبير للدين في تشكيل الهوية الفردية وتغذيتها بإمكانية العنف، ولكنه يرفض في الوقت نفسه أن يصف التيارات الأصولية الأمريكية بالتطرف، حيث يعتقد بأن هذه الجماعات الأصولية منفتحة على التكوينات الاجتماعية والثقافية للمجتمعات الغربية، ولأن العنف الذي تمارسه هذه الجماعات الأصولية في الغرب هو عنف سياسي ورمزي ضد قيم المجتمع العلماني، ويمكن حيث يمكن لهذا العنف أن يكون مؤثرا جدا كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية. ومهما يكن رأي أبيلبي فإن هذه الحركات الأصولية الغربية متطرفة أيضا، حيث تشكل الجماعات الأصولية في الغرب منطلقا حيويا لمختلف الاتجاهات الراديكالية المتطرفة ولاسيما في الولايات المتحدة الأمريكية، كما تشكل في الوقت نفسه موّلدا حيويا للجماعات الطائفية المتطرفة في مختلف أرجاء المعمورة

لقد وجدت الحضارات عبر التاريخ ولم تكن هذه الحضارات في حالة تصادم بل في حالة تخاصب وتفاعل حضاري وثقافي وهذا الواقع يخالف ما يذهب إليه هنتغتون في كتابه عن صدام الحضارات. ومع ذلك يمكن القول بأن هذه الحضارات القديمة قد عرفت بدورها وجود جماعات وحركات أصولية سلفية حاولت أن تترجم وجودها الاصطفائي الطهري (صفاء الأصل) بطريقة أيتوبية وراديكالية. ولكن لم يكن في وسع أية ثقافة أو حضارة أن تبقى في أبراجها العاجية أو أن تكون خارج نطاق التأثير بالحضارات الإنسانية القائمة. فالصفاء العرقي أو الديني أو الحضاري ليس ممكنا أبدا ولم يكن ذلك ممكنا عبر التاريخ، بل كان التفاعل والتواصل بين الكيانات الثقافية قائما وحتميا في رحاب الزمن. وفي المقابل يجب أن نعلم بأن بعض الجماعات العرقية والثقافية حافظت وما زالت تحافظ على معالم هوياتها العرقية والثقافية وتصارع ضد عملية الذوبان والتلاشي، وهذا ما نراه في أمريكا حيث لم تستطع الثقافة الأمريكية الجبارة أن تذّوب الثقافات الإثنية والعرقية في بوتقة واحدة. لقد قاومت بعض الجماعات العرقية إكراهات التذويب الثقافي والحضاري وحافظت على معالم وجودها وهوياتها المميزة، وتلك هي حالة الجماعات المكسيكية التي حافظت على كاثوليكيتها ولغتها وأصولها الإسبانية.

الدين والعنف الرمزي:

مهما يكن العنف الديني ومهما تكن الصيغة التي يرتسم فيها فإنه منطلقاته الأولى تأخذ طابعا اجتماعيا رمزيا . لقد بين كل من ويلمان Wellman وتوكينو Tokuno بأن تدمير الحواجز الرمزية يشكل منطلق الصراع بين الأفراد والجماعات [3]. ومن الطبيعي بالنسبة لجماعة دينية ما أن تشكل هويتها عبر الصراع والنزاع مع الجماعات الأخرى ومع المجتمع العلماني وبالتالي فإن نجاح هذه الجماعات يعتمد على عملية تفجير هذا الصراع وإدارته، والمحافظة على التوتر العدواني واستمراره ضد الجماعات الأخرى وبينها وبين المجتمع المدني ككل. فالعنف الديني ليس ظاهرة معاصرة بل ظاهرة قديمة قدم التاريخ. وهذا الرأي يأخذ أهميته لكونه يركز على الدين بوصفه مشكلا للهوية الاجتماعية والفردية، ومن ثم فهو لا يقلل من أهمية الدور الذي يمارسه العنف الرمزي في عمق العنف الديني. وهذا الاتجاه يجد تعزيزا له في رأي كونيسا Conesa الذي يذهب إلى ما هو أبعد في التأكيد على مركزية العنف الرمزي في التكوين الأساسي للإرهاب الديني، وهو نوع من العنف يأخذ فيه الرمز أهمية أكبر من الهدف الاستراتيجي للعنف[4]: فالعنف هنا يمارس بوصفه نوعا من التطهير، حيث يصعب تدمير العدو كليا في حرب شاملة، فتكون الحرب الإرهابية نوعا من العدوانية الرمزية الخالصة، وهدفها لا يكون مهما جدا من الناحية العسكرية. فالممارسة الإرهابية تمارس نوعا من الحرب الأخلاقية (الفوقية الروحية لمناضليها) والنفسية (تبين ضعف العدو وجبنه) ودينية (وعد بالجنة والعالم الآخر) ويلاحظ في هذا السياق أن الزمن الذي تمارس فيه هذه الحركات نشاطها الإرهابي غالبا ما يتم اختياره وفقا لمعايير رمزية تتوافق مع أجندات دينية وتواريخ مشبعة بالرموز الدينية الإستراتيجية [5].

ولا يخفى اليوم على العارفين بأن العودة إلى عقيدة التضحية بالذات من أجل التطهير القدسي كان وما زال مظهرا من مظاهر الحياة الدينية وطقسا من أهم طقوسها في جميع الأديان، وهذه التضحية تتم غالبا تحت متطلبات الضرورة الدينية التي تفرض الانخراط في حرب كونية مزعومة بين الشر والخير، بين الأنا والآخر، بين الدين والدنيا، بين الله والشيطان دون توقف حتى النهاية. وهذا يشكل اليوم جانبا جديدا من العنف الديني الذي يعزى إلى ثقافات دينية في سياق عولمة التبادل الاقتصادي والثقافي والاجتماعي.

يحدد كونيسا ثلاثة أشكال من العنف الديني: الانتحار الجماعي، والعمليات الانتحارية، والإرهاب الجماهيري. وهذه الصيغ الثلاثة للعنف تكشف عن صيغ أخرى للعنف أكثر رهافة ودقة وخطورة، وهي تتمثل في العنف السيكولوجي والجنسي واللفظي والاقتصادي، وهي الأشكال التي يمارسها الدين نفسه على مريديه وعلى المنتسبين إليه، وليس خافيا أيضا أن هذه الصيغ من العنف تكون دائما سابقة ومؤسسة للعنف الفيزيائي ( التفجير والقتل ) الذي غالبا ما يشار إليه في تعريف العنف الديني كلاسيكيا. ومن الضرورة بمكان هنا الإشارة إلى أن هذه الصيغ الثلاثية للعنف تمارس تحت عنوان الضبط الاجتماعي الرمزي الذي يستهدف الأفراد أعضاء الجماعة الدينية نفسها. وكما يعتقد كونيسا فإن هذه الجماعات المتصلبة تستند في عقائدها إلى نسق من الأصول الدينية التيولوجية الأسطورية التي ليست في أصل الأديان السماوية نفسها. لقد تطورت بعض الأساطير وشهدت توظيفات جديدة في ممارسة الجماعات الأصولية المتشددة. ومن الأهمية بمكان الإشارة إلى أن بعض هذه الأساطير وظفت وما زالت توظف بصورة مشتركة بين الجماعات الدينية المتضاربة والمتصارعة نفسها. فالميثولوجيا، التي توظفها جماعات "اللوبي " اليهودية الإرهابية والتي تعمل على مراقبة وضبط التحويلات المالية عبر العالم ( بروتكول حكماء صهيون المشهور )، هي نفسها التي نجدها لدى الجماعات الدينية الأصولية الكاثوليكية والإسلامية كما هو الحال بالنسبة إلى بعض الجماعات البروتستانتية.

وهناك أيضا نظرية المؤامرة Théorie du complot وهذه النظرية نجدها لدى الأصوليين الكاثوليك في الكوبك بكندا لدى تنظيم القبعات البيضاء Bérets Blancs كما نجدها لدى الجماعات الدينية الأمريكية المسيحية المتطرفة في الولايات المتحدة الأمريكية. ومهما يكن الأمر سواء بالنسبة إلى المؤمنين أو المتصلبين أو الملحدين أو الإنسانين العلمانيين أو بالنسبة للشيوعيين، فإن العنف هنا يصدر تحت عنوان الدفاع عن الهوية الدينية المهددة. فلماذا إذن تشعر الجماعات الدينية والمتطرفة بأن الزواج المثلي يهددها ؟ برأينا لأن ذلك يأخذ طابعا رمزيا وذلك لأن "الهوموسيكسويل" ليسوا معنيين أو مهتمين بالمؤسسة الزواجية التي تحظى باحترام ديني ورمزي كبير من قبل هذه الجماعات على اختلافها. ومن الواضح أن هذه المسألة تأخذ طابعا رمزيا واضح الدلالة والاتجاه. وهنا وفي هذا السياق فإن قبول المجتمع العلماني للزواج المثلي يعزز عقيدة الأصوليين والمتطرفين بأن هذا المجتمع شرير في أعمق تكويناته ومنحرف في أكثر تجلياته ومن هنا يجب إعلان الحرب المقدسة ضد تكويناته الشيطانية.

ويمكن الإشارة في هذا المضمار إلى ثلاثة من ردود الأفعال التي تمارسها الجماعات الدينية المتشددة في مواجهة العالم العلماني: يمكن الانسحاب من الحياة الاجتماعية وقطع العلاقات كليا مع المجتمع العلماني ويأخذ هذا الشكل صورة ( الجماعات الصوفية الدينية )، أو يمكن التغلغل في مختلف المراكز الاجتماعية من أجل الوصول إلى مواقع السلطة والنفوذ فيه من أجل تغيير الواقع والتأثير فيه مثل التحالف المسيحي اليميني في الولايات المتحدة الأمريكية Christian Coalition aux USA، أو يمكن مهاجمة المجتمع مباشرة والتركيز على الأصول والمرتكزات العلمانية للمجتمع المدني (القاعدة والثورة الإسلامية الإيرانية).

خاتمة:

لقد أضاءت معالجتنا لمسألة العنف الديني في سياق الحداثة المتقدمة والعولمة الزاحفة صورة تصاعد الجماعات الإرهابية الدينية في العالم، وتصاعد هائل في ممارسة العنف، وقد تبين عبر هذا التداول للمسألة أن العنف الديني كان دائما وما زال موجودا وقائما وسيكون، وقد اتضح لنا أيضا بأن هذا العنف يأخذ اليوم صورة الدفاع عن الهوية الدينية وصونها، ومن البيّن أيضا أن هذا العنف يتشح بالطابع الرمزي في أكثر صوره فعالية وتأثيرا. لقد تمّ توظيف الرمز كقوة ما فوق طبيعية للتأثير في عقائد واتجاهات المنتسبين إلى هذه الجماعات الدينية لدفعهم إلى ممارسة العنف ضد الآخر بمختلف الصيغ والأدوات الممكنة، ومن الواضح بأن السلوك الديني المتشدد يمكنه أن يجري وفقا لصيغ متعددة من العنف الرمزي والسيكولوجي والاقتصادي والسياسي والفيزيائي. فالعنف كان موجودا دائما ولكننا اليوم على موعد مع عولمة العنف أو عنف العولمة حيث تلعب وسائل الميديا والاتصال دورا كبيرا في تدوير العنف وتعزيز حضوره[6]. والدليل على ذلك ردود الفعل الإسلامي ضد الجنود به الأمريكيون في سجن غواتينامو الذين قاموا بتدنيس القرآن الكريم إذ سرعان ما انتشرت هذه المعلومة في مختلف أنحاء العالم فأثارت ردود فعل عنيفة في مختلف أنحاء العالم الإسلامي. ومن الواضح هنا أن الأصوليين والمتطرفين يستفيدون بشكل جيد من وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلوماتية ويوظفون أدوات العولمة ذاتها في بث العنف ونشر ثقافة الخوف والموت في مختلف أنحاء المعمورة. فصدام الحضارات سلاح يمكن توظيفه بوجهين حيث يجب الاعتماد على عملية التفاعل والحوار بين الأديان والثقافات من أجل مواجهة التطرف الديني الذي ينتشر في الأرض. وهذا يعني أنه يمكن الحديث في واقع الأمر عن نموذج جديد للحماية الدينية التي تضرب خيامها في أرض الواقع في مواجهة العنف والتطرف والإرهاب. ومثل هذه الحماية التي تكسر حدة التطرف وتعيد للدين وجهه الصحيح تمثل في حقيقة الأمر نتاجا لعملية الحداثة المتقدمة في زمن العولمة بوصفها نقلة حداثية جديدة في تاريخ التقدم الإنساني.

 

أ. د. علي أسعد وطفة

جامعة الكويت

.....................

[1] - Geoffroy Martin “Le nouveau paradigme de la violence religieuse comme forme de résistance et de contrôle social dans le contexte de la modernité avancée”, revue Religiologiques, no. 31, Printemps 2005, Montréal, UQÀM, 27-36.

[2] - انظر - بيير بورديو: الرمز والسلطة ، ترجمة عبد السلام بنعبد العالي ، دار توبقال للنشر ، الدار البيضاء ، 1990.

[3] - Wellman Jr., K.J. & K. Kukono, 2004, « Is Religious Violence Inevitable ? », Journal for the Scientific Study of Religion, vol. 43, no 3, p. 291-296.

[4] - regarde: Pierre Bourdieu: Capitale sympolique et Classes sociales , dans L’ARC, N72,2e Trimestre ,1978

[5] - Conesa, P., 2005, « La violence au nom de Dieu », La Revue internationale et stratégique, no 57, Printemps, p. 73-81.

[6] -انظر -  بيير بورديو: العنف الرمزي ، بحث في أصول علم الاجتماع التربوي ، ترجمة نظير جاهل ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ، 1994..

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم