صحيفة المثقف

موْكِبُ النّور

منير لطفيحينما نودِّع السّويْعات الأخيرة من شهر ذي الحجّة كلّ عام، ويَلوح في الأفق هلالُ شهر الله المحرَّم؛ يَحين موعد حديث الهجرة كرواية تُروَى، وقصّة تُحكَى، وتاريخ يُلاك! ولا نذهب أبعد من عقد النّدوات، وإقامة الحفلات، ومصْمصة الشفاهَ، وطأطأة الرؤوسَ..وما هكذا تُورَد الهجرة!      

والهجرة: من الهجْر بمعنى الترْك، وفيها ينتقل المرء من أرض إلى أخرى، وتختصّ هنا بانتقال نبيّ الهدى والرحمة من مكّة مهبط الوحي إلى يثرب مأوى الأنصار، ويعود زمنها إلى مطلع القرن السابع الميلادي (13 سبتمبر 622م الموافق غرّة شهر ربيع الأوّل آنذاك)؛ حين كشّرَت قريش عن أنياب كفرها وأَبانت عن مخالب غدرها، لا سيّما بعدما رنا إلى سمعها خبر بيعة أهل المدينة ونيّة النبيّ في اللحاق بهم، فرسمَت خطّتها في دار الندوة عاقدةً العزم على استهداف رأس الدعوة والقضاء المبرَم على رسالته! غافلين عن معيّة الله الحاضرة ونصْرته المتحقِّقة. "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليُثبتوك أو يقتلوك أو يُخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" الأنفال 30  

وكان صلى الله عليه وسلم قد أَمضى بين ظَهرانيهم ثلاثة عشر عاما بعد الوحي والرسالة، تَذرَّع خلالها بالصبر الجميل، وارتدى لهم ثوب الخُلق العظيم؛ فكانوا يَقطعون ويَصل، ويَمنعون ويُعطي، ويُغلِظون ويَلين، ويَجهلون فيَحلم! ولكنه لمّا رأى أنّ هؤلاء القوم تُودِّع منهم، وناداه جبريل حيّ على الرحيل؛ غادر أَحبَّ البقاع وأقدسَها، وخلَّف مسقط الرأس وديار الأهل ومهْد الصِّبا، وقطع على راحلته المُسمّاة الجدعاء أو القصواء نحو أربعمائة ميل في طريق وعرة مُوحِشة غير لاحبة ولا مطروقة، قاصدًا دار هجرة كانت سبخة ذات نخل بين لابتيْن، وديارا عامرة مدّ أهلُها يد البيعة وعاهدوا على الفداء والنّصرة؛ وذلك ليؤسِّس للإسلام دولة ترفع لواء الحقّ في ربوع المعمورة، ويُشيِّد للإنسانية مجتمَعا يُقرّ بحريّة الاعتقاد. إذْ قضَت سُنّة الإصلاح على مرّ الزمان، أنّه لا بدّ للحقّ -أي حقّ- مِن تربة خصبة يَنمو بها ويُثمر، ولا مناص له من قلعة حصينة يأرز إليها وينطلق منها. وقد رافقَه صنو روحه أبو بكر الصدِّيقُ ليضرب –مع آله الكرام- أروع مثال في الصُّحبة، ولحِقهم الفاروقُ مُتحدِّيا جهابذة الكفّار في وضَح النهار، وتبِعهم الصحابةُ والتابعون  ومَن سار على هديهم، مهاجرين في سبيل عقيدةٍ كالجبال  راسخة، وإيمانٍ كغابةَ سِنْديان لا تهزمه عواصفُ الأفكار ولا قواصمُ  الأطروحات، وبات المهاجرون بموجبها أفضلَ مِن الأنصار لأنهم حازوا الحُسْنَيَيْن حين جمعوا بين الهِجرة والنُّصرة.

ومِن الوفاء لتلك الحادثة الجليلة، التي صارت إحدى المحطّات الحاسمة في تاريخ الإسلام، بعد أنّ دشّنها المسلمون بداية لتاريخهم وعنوانا لدواوينهم؛ أن لا نجعلها حديثا موسميّا نستدعِي فيها التاريخَ مُجرَّدًا مِن العبَر والعظات، بل وجَب أن يَتطامن أمامها الزمنُ وتُصبح حديث الساعة وكلّ ساعة؛ فتَستشْرف فيها النّفسُ شجاعة علي بن أبي طالب حين فدَى الدعوة بحياته وموّه على المتآمرين برقوده في فراش نبيِّه وابن عمِّه، وتَستلهِم فيها الرّوحُ تضحية أبي سلَمة الذي  قدّم الدِّين على الزوجة والولد حين منعه أهلُ زوجته مِن اصطحابهما  معه في محاولة بائسة فاشلة لثنْيه عن الهجرة، وتستدعِي فيها الذاكرةُ بيْعًا رابحًا لصهيب الرُّومي حين ساومه كفّارُ مكّة  فابْتاع الهجرةَ والدِّينَ وباع الدّيار والمال، ثمّ يَستحضِر فيها القلبُ ثَباتَ ذات النطاقيْن التي أبَتْ أن تُخبر أبا جهل  عن مكان أبيها حين لطمها لطمة وقع منها قرطُها، ويفغر الأملُ فاه مِن الوعد النبويّ الجازم لسُراقة بن مالك الذي سال لعابه وتحلَّب ريقه للظفر بمائة ناقة رصدتها قريش لملاحقة النبيّ والعودة به، فوعده صلى الله عليه وسلّم بسوارَيْ كِسرى والذي تحقَّق كفلق الصبح في غضون ستة عشر عاما! كما أنها درسٌ فصيحٌ بليغ نتعلّم منه الأخذ بالأسباب والاستعانة على الأمور بالكتمان والإعداد على خير ما يُرام، ووقْفةٌ يَفقه فيها العقل أنَّ الهجرة لم تكن أبدا انسحابا وهروبا مِن الميدان، أو سلبيّة وانعزاليّة عن المواجهة؛ بل كانت ثباتا وإيجابيّة، وجهادا في أعلى صوَره وأبهى مقاماته.

وبهذا المنْحى، تُعدّ الهجرة بمثابة الانعطافة الكبرى والنقطة الحرجة، التي أوْقدَت شرارة  ثورةٍ عبرت بالمؤمنين مِن مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة، ومِن الضِّيق إلى السّعة، ومِن السّكون إلى الحركة، ومِن العُقْم إلى الخِصب، ومن المهادنة إلى المجابهة، ومن التبعية والتقليد إلى الابتكار والتجديد. فتمخّضت عنها وثيقة المدينة التي أسّسَت للتعايُش مع أهل الكتاب على قاعدة "لا ضَرر ولا ضِرار"، والسّوق الذي حرّم اقتصاد البغْي والاحتكار، والمسجد الذي أصبح مجلسا للشورى ودارا للفتيا ومحكمة للتقاضِي وساحة لتجهيز الجيوش، والمؤاخاة التي لم يَشهد لها التاريخ مثالا؛ فكانت بذلك موكبَ نور أضاء المكانَ والزمانَ، وشمسَ هداية أضاءت التاريخَ والجغرافيا، وملحمة بطولية لا تنقضي دروسها مع كرّ الأيّام والأعوام.

ومع أنّ فعل الهجرةَ ظلّ قدَرا مكتوبا على الأنبياء والرّسُل مِن قبل، ونهجا للكثْرة الغالبة مِن المفكِّرين والمصلِحين مِن بعد؛ إلّا أنَّ هذه الهجرة المحمَّدية كانت ذات آثار جليلة خالدة لا تُدانيها هجرةٌ قبلها ولا بعدها، حتى سمَّاها اللهُ في كتابه العزيز نصرا، فقال جلّ شأنه: "إلّا تنصروه فقد نصره الله إذْ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذْ هما في الغار إذْ يقول لصاحبه لا تحزن إنَّ الله معنا". وهي الآية التي ذكر فضيلة الإمام الشعراوي أن كلّ (إذ) هي نصر قائم بذاته؛ فالإخراج نصر، والاختفاء نصر، والثبات نصر.

وقد رسم أديبُ العربية (الرافعي) بقلمه السيّال صورة مركّزة للهجرة  وأثرها فقال: "مع الهجرة وانتقال الرسول إلى المدينة؛ بدأت الدنيا تتقلقل كأنّما مرّ بقدمه على مركزها فحرَّكها، وكانت خطواته في هجرته تحطّ في الأرض ومعانيها تخطّ في التاريخ، وكانت المسافة بين مكة والمدينة ومعناها بين المشرق والمغرب". بينما كتب الأديب عبد الرحمن شكري: "في الهجرة النبوية رمز ذو معنيين: معنى فيما ينبغي أن نتجنّبه من مشابهة المشركين في اضطهاد الحقّ، ومعنى فيما ينبغي أن نتخلّق به من الائتمام بالنبيّ صلى الله عليه وسلّم في إبائه مزايلة الحق وصونه".بما يعني أنّ الهجرة في مفهومها الشامل، أوْسع مِن كونها ترحالا عبر مكان يَحدّه زمان؛ بل تَغيُّر مِن حال إلى حال، وانتقال مِن مقام إلى مقام..وكأنّ كلّ طلاق للباطل وعناق للحقّ هجرة، وكلّ ولاء لله وبراءة ممّا سواه هجرة، وكلّ هَجْر لما نهى اللهُ عنه هجرة.

والحقّ أنّ نظرةً إلى واقعنا المرير، تُنبؤنا أنّ الهجرة بمعنى الانخلاع مِن كلّ العادات والتصوّرات غيْر الإسلامية، هي واجب الوقت وطريق الخلاص..

فكم مِن حاكمٍ ظالم وجَب أن يهاجر؟!

وكم مِن مسئولٍ فاسد حان أن يهاجر؟!

وكم مِن عبدٍ آبق مارق آن أن يهاجر؟!

وكم مِن أمّةٍ خيّم عليها الجهل والكسل حُقّ لها أن تهاجر؟!

نعَم، في الهجرة المكانيّة فقدانٌ لمراتع الصِّبا وذكريات الطفولة، وفراقٌ للخلّان والأصدقاء، وبُعْدٌ عن المال والدّيار، واستبدالُ مجهولٍ بمعلوم وخوفٍ بأمْن واضطرابٍ بسكينة وتشرّدٍ باستقرار، وهو ما عبّر عنه جالينوس حين قال بأنَّ العليلَ يَتروّح بنسيم وطنه كما تتروّح الأرضُ الجدبة ببلل المطر، وطبَّقه البرامكةُ حدّ المغالاة حين دأبوا على حمل حفنة مِن تراب الوطن في جراب أسفارهم بغرض التداوي! ولكن حين يُصبح الخيار بين دينٍ ودنيا، فالأمْر محسومٌ والكسْب مضمون والهجرة واجب لا نفل فيه، وعلى هذا كان حال الإمام البُخارِيّ حين أَخرجَه أميرُ بُخَارَى منها قسْرا فقال: "لا أُبالِي إذا سَلِم ديني". بمعنى أنّ الوطنَ غالٍ ولكنّ الدِّينَ أغلى، والمكان الذي يقف حجر عثرة أمام تحقيق آمالنا وطموحاتنا لا يستحقّ أكثر من دمعة تُراق على فراقه، وهذا ما صاغه الإمام ابن عربي صياغة بديعة بقوله: "المكان الذي لا يُؤنَّث لا يُعوَّل عليه"، أي المكان الذي لا يضعك في المكانة اللائقة بك لا يُركَن له ولا يُنتَحب عليه..

فهذه الحدود الجغرافيّة المُصطَنعة التي لم يَعرفها العالَم القديم، وما ورَدَتْ في كتاب سماويّ ولا ضمن شريعة نبيّ؛ تَشكَّلتْ إثر حروب سعَّرها الاحتلال البغيض، فنهَش فيها القويُّ الضعيف، وأَعطى بموجبها مَن لا يملِك لمَن لا يَستحقّ، لا لشيء إلّا لتَسجِننا وراء قضبان الوطن وأغلال القوميّة وأصفاد الجِنسيّة. وهي ما وصفها أحد طلائع النازيّة (راتزل)، بأنها أشبه بجلد الكائن العضوي والذي يجب أن يتمدّد باستمرار مع نموّه!

وفي خضمّ معانى الهجرة العديدة، تذوب تلك الحدود وتنصهر تلك القيود والأصفاد؛ فيَذهب الوطن إلى أبْعد مِن محلّ الموْلد والإقامة، وتتجاوز المشاعرُ الوطنيّة أولئك الذين يُساكنوننا الوطن، ويَتقدّم الدِّينُ على الهويّة والقوميّة والجِنسيَّة، ويُصبح الأهمّ كيْف تعيش لا أيْن تعيش؛ فما شفَع بيتُ النّبوة لابن نبيّ الله نوح، وما ساء نبيَّ الله موسى عيْشُه في كنفِ فرعون..

وفي هذا يقول المصطفى -صلّى الله عليه وسلم-: "البلادُ بلادُ الله، والعبادُ عباد الله، فحيثما أَصَبْتَ خيرًا فأَقِمْ"، ويُفسّره قولُ المفكِّر عبد الكريم بكار: "إنّ زمانَنا هو زمان الإنسان المرتحِل والقادر على تحمّل آلام مغادرة مسقط رأسه، لِيجول في أرض الله -عزّ وجلّ- باحثا عن المكان الأكثر ملاءمة لإنتاجه وعطائه". بينما يُؤكِّد عليه أبو نُواس فيقول:

"إذا كنتَ في أرضٍ عزيزًا وإنْ نَأَتْ،،،

فلا تُكْثِرنَّ منها تِراعًا إلى الوطنْ

وما هي إلّا بَلْدةٌ مثلُ بَلْدةٍ،،،

وخيْرُهُما ما كان عوْنًا على الزّمَنْ"

***

بقلم د. منير لطفي

طبيب وكاتب - مصر

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم