صحيفة المثقف

روبنسن السوفيتي

عامر كامل السامرائيكيف كُتِبَتْ قصة روبنسن السوفيتي

تأليف: إلف- بتروف

ترجمها عن الانكليزية: عامر كامل السامرائي


شحت المواد الأدبية التي كانت تستحوذ على أهتمام القراء من الناشئة في رئاسة تحرير مجلة "لنغامر" الدورية المصورة، والتي كانت تصدر مرة كل إسبوعين.

كان هنالك بعض النصوص، ولكن لم يظفر أحدها بالقبول لاحتوائه على كلام بديهي فيه الكثير من التكلّف. والحق يقال، فأنها كانت تثير الكآبة في نفوس الطليعة بدل من أن تفتنهم. بينما كان رئيس التحرير يصبو إلى عملٍ يأسر القارئ. وفي نهاية المطاف قرروا التعاقد على رواية مسلسلة.

هرع مراسل رئاسة التحرير بالأخطار إلى الكاتب مولدوفانسيف، وفي اليوم التالي كان مولدوفانسيف جالساً في مقعد غرفة التحريرالوثير.

- الموضوع وما فيه – بادره رئيس التحرير، - هو أن يكون هذا العمل الأدبي جذاباً، ينبغي أن يكون عذباً، مليئا بالمغامرات، أريد أن اقول: ليكن روبنسن كروسو* هذا سوفيتياً، بحيث لا يضعه القارئ حتى ينتهي منه.

فقال الكاتب بأقتضاب:

- روبنسن...فكرة جميلة، ولمَ لا.

- ولكن ليس كأي روبنسن، وإنما نريده سوفيتياً.

- بالطبع سيكون كذلك ! روبنسون الروماني لا يستطيع أن يكون سوفيتياً.

لم يكن الكاتب ممن يحبون الكلام الكثير، بل كانت تبدو عليه الجدية. فقد أكمل الرواية بالفعل في الوقت المحدد. لم يختلف اسلوب مولدوفانسيف عن سابقيه، ومادام قد طلبوا روبنسن، فليكن روبنسن.

تتحدث الرواية عن شاب سوفيتي تحطمت سفينته، فنبذته الأمواج على ساحل جزيرة غير مأهولة، كان وحيداً لا يذود عنه احد أمام عظمة الطبيعة، فكانت المخاطر تحف به من كل صوب وحدب، حيوانات مفترسة، سباع، وقدوم موسم الأمطار. بيد أن روبنسن السوفيتي، كان مليئاً بالقوة، فقد تغلب على كل المصاعب التي واجهته، وبعد مرور ثلاثة أعوام عثرت عليه جماعة من المستكشفين، وقد هَزَم الطبيعة، فبنى له كوخا، أحاطه بسياج أخضر، وربى الأرانب، وأخاط لنفسه معطفا سميكاً من أذيال القردة، وعلّم ببغاء على ايقاضه كل صباح بالقول: " إنتباه ! ارم الغطاء، إرم الغطاء، سنبدأ رياضة الصباح !"

- عمل فاخر حقاً - أومأ برأسه رئيس التحرير- الأرنب بصدق، رائع، جاء بمكانه، ولكن.. دعني أقول لك، بأنني لم أفهم فكرة الرواية بوضوح.

- صراع الأنسان مع الطبيعة – قالها مولدوفانسيف بأقتضابه المعتاد.

- صحيح، صحيح، ولكنها خالية من الروح السوفيتية.

- وما بال الببغاء؟ فهي بالنص تمثل الأذاعة، محطة إذاعة تجريبية.

- لا ضير من الببغاء، ولا من حديقة الخضراوات تلك، ولكن رغم هذا كله لا تشعرك بوجود المجتمع السوفيتي، اين مثلاً، لجنة نقابة العمال، ودور رئيس النقابة؟

اضطرب مولدوفانسيف فجأة، وما أن أحَسَ بأن الرواية قد تُرفض، تحولت شحة كلماته بلحظة واحدة إلى لباقة بليغة.

- كيف يمكن للجنة النقابة أن تكون هناك؟ فالحديث يدور حول جزيرة غير مأهولة!

- صحيح تماماً، فالجزيرة غير مسكونه، ولكن ينبغي أن تكون هناك لجنة نقابية، أنا لست من البلغاء، فلو كنت بمكانك لأدخلتها في الرواية، كميّزة في المجتمع السوفيتي.

- ولكن عندما تكون الرواية مبنية على جزيرة غير مأه...

في هذه اللحظة وبغير قصد نظر مولدوفانسيف في عيني رئيس التحرير، فعلقت الكلمة في حنجرته ولم يستطع إكمالها. فوميض ذلك التحدي بالنظرات حول زرقة عينا رئيس التحرير الربيعية إلى خريف جامد، أجبره على الخنوع.

- وهو كذلك : معك الحق ياسيدي – بادرالكاتب، رافعا أصبع سبابته – بالطبع. كيف لم يخطر ببالي هذا الشئ ؟ الأثنان سينجوان من السفينة المحطمة، روبنسن هذا، و سكرتير اللجنة النقابية.

- بل ضف إلى ذلك كادرين متفرغين للعمل النقابي، أضاف له رئيس التحرير ببرود.

- أوه !- تأوه الكاتب.

- لا تتأوه. كادران متفرغان، وفتاة ناشطة، والتي ستجمع اشتراكات العضوية.

- ولمَ تلك الفتاة بحق الشيطان؟ ممن ستجمع اشتراكات العضوية؟

- من روبنسن.

- السكرتير يمكنه ان يأخذ الأشتراك من روبنسن، ولن يُسقط هذا العمل التاج من فوق رأسه.

- أرأيت! هنا أيضا أنت على خطأ، أيها الرفيق مولدوفانسيف، هذا ما لايسمح به بتاتاً، فكيف يشغل سكرتير النقابة نفسه بمثل هذه الترهات، لا يمكنه أن يلاحق الأعضاء ليجمع اشتراكاتهم. نحن من يناضل من أجل ذلك، أما السكرتير فليقم بأعمال قيادية هامة.

- فليكن، لتأتي هذه الفتاة جامعة الأشتراكات – لوح الكاتب بيده – بل سيكون افضل، عسى ان يتزوجها السكرتير أو روبنسن، لتصبح الرواية اكثر متعة.

- أعوذ بالله ! لا تجعل أعمالك تنحدر إلى السوقية، ومن الأثارة الجنسية. دع تلك الفتاة تجمع اشتراكات الأعضاء فقط، وتحفظها في خزانة حديدية.

بدأ مولدوفانسيف يتلوى في مقعده.

- ولكن المعذرة، كيف جاءت الخزانة الحديدية إلى جزيرة غير مأهولة؟

أستغرق رئيس التحرير في التفكير ثم قال فجأةً:

- أنتظر، انتظر، هنالك في الفصل الأول جزء ممتاز، فقد قذفت الأمواج روبنسن وأعضاء اللجنة النقابية مع بضعة اشياء إلى الساحل...

- فأس، ومنجل، وبوصلة، وبرميل من الخمر، وقارورة من دواء ضد مرض الأسقربوط – عددها الكاتب بأحتفالية.

- اشطب برميل الخمر – قاطعه رئيس التحرير بعجالة.

- وقارورة الدواء تلك ما فائدتها، من بحاجه إليها ؟ أهم منها المَحبَرة ! ومن الضروري وجود خزانة حديدية.

- لماذا تصر على الخزانة الحديدية؟ جوف شجرة البوابا** سيكون مكاناً آمناً لاشتراكات الأعضاء. من ذا الذي سيسرقه من هناك؟

- كيف يعني من؟ وروبنسن؟ وسكرتير النقابة؟ والكوادر المتفرغه للعمل النقابي؟ واللجنة الحزبية؟

- هؤلاء ايضا سيكونون من الناجين ؟ سأل مولدوفانسيف باهتاً.

- نعم.

حل صمت كصمت القبور.

- ماذا لو تقذف الأمواج بمنضدة إلى الساحل للأجتماعات؟! –قالها الكاتب بسخرية لاذعة.

- بدون.. ادنى.. شك! ينبغي توفير مستلزمات العمل! جرة ماء، جرس، وغطاء للمنضدة. ليكن لون غطاء المنضدة الذي ستقذفه الأمواج إلى الساحل، كما تشاء انت، احمر، او اخضر، لأ اريد أن أفرض رائي على مخيلتك الأبداعية. بأختصار، الهدف ياصديقي هو : إبراز دورالجماهير، جماهير الطبقة الكادحة.

- الأمواج لا تستطيع أن تحمل كل هذه الجماهير لترميها إلى الساحل – اصر مولدوفانسيف.- فهذا يناقض تماما محور الرواية، تخيل فقط، الأمواج تقذف بعشرة الآف او عشرين الف شخص ! شئ مضحك !

- شئ رائع ! – اثنى عليه رئيس التحرير- لاضير ابداً في قليل من المرح المنعش، والفكاهة، ومن الصخب السليم.

- بل اقول كلا، فالأمواج لا تستطيع حمل كل هؤلاء البشر.

- ولماذا الأمواج؟ - نظر المحرر بدهشة مبهوراً.

- كيف إذن ستصل تلك الجماهير إلى الجزيرة؟ خصوصا وانها غير مأهولة؟

- من قال لجنابك، إنها غير مأهولة ؟ انت تخلط الأمور، بيد أنها واضحة كالشمس. هنالك جزيرة ما، بل من الأفضل لو تكون شبه جزيرة، لكي تكون الأمور أكثر سهولةً. وفي شبه الجزيرة تلك، وببراعة، وبشكل باذخ تحدث مغامرات مثيرة. العمل النقابي يجري، وستحدث أخطاء بالطبع. الفتاة الناشطة، ستكتشف بعض النواقص، ولنقل، في جانب تحصيل الأشتراكات، يدعمها حشد جماهيري، ثم يقوم سكرتير النقابة بممارسة النقد الذاتي، وفي النهاية يمكن ان تُدخل عقد إجتماع شامل، وبهذا الحدث ستصبح للرواية قيمة من الناحية الفنية. هذا جل ما اريد قوله.

- و روبنسن؟ - غمغم مولدوفانسيف.

- نعم. جيد انك ذكرته. روبنسن هذا يزعجني. دعك منه! تافه، لا دور له، وليس هناك مايدعو إلى وجوده في القصة.

- كل شئ واضح الآن – قالها الكاتب بصوت كئيب – غداً ستكون جاهزة.

- إذن، اتمنى لك عملا طيباً. كن مبدعاً. بالمناسبة، في بداية القصة كان هناك حدث لتَحَطم سفينة، وأقول لك، دعك منه، ألفها بدونه. هكذا تكون اكثر إثارة. فهمت ؟ حسناً إذن. إلى اللقاء !

بعد أن أصبح رئيس التحرير لوحده في المكتب، قهقه بفرح.

- أخيراً، أخيراً سيكون لدي في المجلة عمل إبداعي متكامل. رواية مغامرات حقيقية!

 

...............................

* روبنسن كروسو عنوان رواية من تأليف دانيال ديفو، نشرت لأول مرة في عام 1719 ويعتبرها البعض الروايةَ الأولى في اللغةِ الإنجليزية. وهي سيرة ذاتية خيالية لمنبوذ إنجليزي قضى 28 عاماً في جزيرة إستوائية قُرْب فينزويلا. القصة مليئة بالمغامرات المثيرة. (المترجم).

** البوابا شجرة ضخمة الجذع تخزن في تجويف جذعها كمية كبيرة من الماء.

نبذة عن الكاتبين:

إليا إلف (اسم مستعار لإليا آرنولدوفيتش فينزيلبيرج)

ولدَ الكاتب في أوديسا لإبن كاتب مصرف. بعد تخرجه من مدرسة تقنية عام 1913، عمل في مكتب لتصميم الطائرات تابع لمصنع للقنابل اليديوية. ساهمَ إلف أيضاً في مجلة سينديكتيكون الفكاهية. في 1923 إنتقلَ إلى موسكو حيث حَصلَ على وظيفة في إحدى المكتبات، وراح يكتب في صحف ومجلات فكاهية مختلفة. بعد سنتين أصبحَ صحفياً لمجلة جودوك ومورياك. أثناء زيارتِه لآسِيَا الوسطى، شَهدَ إلف التنافر بين العاداتِ القديمةِ والنظامِ الجديدِ، والذي أصبح واحداً من المواضيعِ المركزيةِ في كتاباته، مثل الكراسي الإثنا عشرَ.

بدأ بالتعاون مع بتروف في كتابة نصوص ساخرة لجريدة البرافدا، ومجلات أخرى، وقد دام تعاونهما هذا إثنا عشر عاما تقريباً. ماتَ إلف في أبريل/نيسان من عام 1937 متأثرأ بمرض السُلِّ، الذي تَقلّصَ على رحلتِه في الولايات المتّحدةِ الأمريكية.

فجيني بيتروف: (اسم مستعار يفجيني بيتروفيتش كاتايف) ولد بيتروف في أوديسا، وكان أبوه معلماً لمادة التأريخ. تَخرّجَ عام 1920 مِنْ الثانوية العامة، وبَدأَ مهنتَه كصحفي. في 1921 أصبحَ مدققاً للإبراقِ الأوكرانيِ. قبل الإنتِقال إلى موسكو في 1923، عَملَ في قسمِ تحقيق أوديسا الجنائي. عُيّنَ محرّراً ثانوياً في المجلة الهجائيةِ كراسني، وفي 1923 إنضمَّ إلى موظّفي صحيفةِ جودوك، الناطقة بأسم عمال السكك الحديدة.

لم يكن بيتروف يطمح في أن يصبح كاتباً، غير أن أخاه الأكبرالروائي فالانتاين كاتايف (1897-1986)، شجّعَه على كتابة القصصِ القصيرةِ. وفي عام 1924 صدرت له أول مجموعة صغيرة. كما نشرت له العديد من النصوص في البرافدا والكروكودل.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم