صحيفة المثقف

الضمير.. كينونة وماهية؟

علي اسعد وطفةيخاطب روسو الضمير قائلا:

«أيها الضمير.. أيتها الغريزة الإلهية، أيها الصوت السماوي الخالد، أيها الحاكم المعصوم الذي يفرق بين الخير والشر، أنت الذي تجعل الإنسان شبيهاً بالله، فتخلق ما في طبيعته من سمو، وما في أعماله من خيرية، لولاك لما وجدت في نفسي ما يرفعني على الحيوان إلا شعوري المؤلم بالانتقال من ضلال إلى ضلال، بمعونة ذهنٍ لاقاعدة له، وعقل لامبدأ له».

شُغل المفكرون منذ القدم بمسألة الضمير الأخلاقي، فتناولوه بالتحليل والتفسير، استكشافاً لما ينطوي عليه من أسرار، وما يكتنفه من تعقيد، وما يكمن فيه من خفايا. لقد أذهلتهم هذه القوة الأخلاقية الخفيّة التي تكمن في أعماق الإنسان، هذه القوة التي تمارس وظيفتها في توجيه السلوك أخلاقياً عند الإنسان، إذ تنهاه عن ارتكاب الرذائل ، وإتيان المعصية، وتصيّد الآثام، فتعمل على توجه الفعل الأخلاقي، وتحضّ على فعل الخير، ومن ثمّ تقوم بإصدار الأحكام على الأفعال التي يقوم بها الفرد، وأخيراً تعاقب الفرد بالتعذيب والتبكيت، عندما يرتكب معصية ويصيب شرا.

لقد تساءل الباحثون، على مرّ العصور، عن طبيعة هذه القوة الأخلاقية التي تفرض نفسها في كل موقف إنساني يتعلق بالفعل الأخلاقي، واحتاروا في تفسيرها، فذهب بعضهم إلى القول: بأنها قوة نفسية، ووصفها بعضهم الآخر بأنها قوة روحية، وقيل عنها بأنها بأنها قوة عقلية خالصة، وتواتر الوصف بأنها قبس من نور إلهي، يكمن في أعماق الإنسان، فينهاه ويهديه ويعاقبه. وجميعهم يتفق على وجود هذه القوة ويصفون تعاقب حالاتها؛ فالضمير قد يضعف ويكبر وينمو ويضمحل ويصاب بحالات متعاقبة من التغاير في أحوال ضعفه وقوته، ولكنه مهما ضعف فإنه يبقى بصيصاً من نور أخلاقي خيّر، يضيء لصاحبه الطريق ويهديه إلى الصراط المستقيم. إنه أشبه بمحكمة داخلية تصدر أحكامها على كل فعل أخلاقي يخترق معايير الحق والخير والجمال.

فالضمير مركز إصدار الأحكام الأخلاقيّة المعياريّة على أفعال وتصرّفاته، ما تحّقق منها أو ما هو في طريقه للتّحقّق، ويتجلى بوصفه قوة تضرب وجودها في أعمق منطقة في الوجدان الإنساني لتقوم بإصدار الأحكام الأخلاقية العليا على سلوك الفرد فتوجهه إلى صراط الهداية الأخلاقية، فإن لم يكن عاقبته بعذاب الضمير وتبكيته وهو أشد ألوان العذاب الذي خبره الإنسان على مدى تاريخه الطويل.

لقد اجتهد المفكرون في تحليل طبيعة الضمير أو الوجدان، فحاولوا تعريفه والكشف عن طبيعته. ويمكننا في هذا السياق، أن نسوق عدداً من المحاولات التي عكفت على تعريف مفهوم الضمير، وتحديد أبعاده وطبيعته وتخومه.

وصف جان جاك روسو J.J.Rousseau الضمير:" بأنه صوت الروح"، ووصف الأهواء:" بأنها صوت الجسد»، ويخاطب روسو الضمير قائلا: «أيها الضمير… أيتها الغريزة الإلهية، أيها الصوت السماوي الخالد، أيها الحاكم المعصوم الذي يفرق بين الخير والشر، أنت الذي تجعل الإنسان شبيهاً بالله، فتخلق ما في طبيعته من سمو، وما في أعماله من خيرية، لولاك لما وجدت في نفسي ما يرفعني على الحيوان إلا شعوري المؤلم بالانتقال من ضلال إلى ضلال، بمعونة ذهنٍ لاقاعدة له، وعقل لامبدأ له»[1]. فالضمير كما يعرفه روسو هو قبس من نور إلهي يتغلغل في أعماق الفرد ليضيء الجوانب المظلمة فيها، فيرقى بالفرد إلى مرتبة الإنسانية، ومن غيره يفقد الإنسان جوهره الإنساني، ويتحول إلى مجرد كيان بهائمي لا قيمة له في سلم الارتقاء، فالضمير وفقاً لروسو يمنحنا جوهرنا الإنساني، لأنه ومض وجودنا الأخلاقي، بوصفنا كائنات خلاقة، ترتقي على ما غيرها في مملكة الكائنات الحيّة.

ويطابق فرويد بين الضمير و"الأنا الأعلى" وهو المنطقة الأكثر قدسية في الكيان السيكولوجي للفرد عند فرويد، فالأنا الأعلى هو المحكمة العليا في الكيان الإنساني التي تعنى بإصدار الأحكام الأخلاقية، وتوجيه الفعل الإنساني توجيهاً أخلاقياً، ينشد الخير والحق والجمال، ويرفض الباطل والشر والفساد.

ويقابل فرويد بين "الأنا الأعلى" وبين "الهو"، وإذا كان "الأنا الأعلى" كما يراه هو الضمير الأخلاقي، فإن" الهو" - وهي منطقة الغرائز والميول في الكيان النفسي للفرد- يمثل منطقة الشهوة إذ يعبر عن مطالب الجسد ويلبي الميول الطبيعية الغرائزية في الإنسان. وعلى هذا النحو، يتجلى الأنا الأعلى في صوت الحق والضمير والقيمة الأخلاقية، في الوقت الذي يعبر فيه" الهو" عن صوت الشهوة والرغبة والميل والعاطفة والهوى. والحياة الأخلاقية تكون – وفق فرويد- بالصراع الأبدي ما بين "الأنا الأعلى" وما بين "الهو" الذي يعبر عن منطقة الرغائب والميول والشهوات في الفرد، ويرى بأن هذا الصراع هو صراع بين الجسد وبين العقل، بل هو صراع بين النور وبين الظلام في الكيان النفسي للفرد.

لقد شكل مفهوم الضمير تحدياً أبيستيمولوجياً بالنسبة للمفكرين والباحثين، فعكفوا على تعريفه وتصنيفه، والفصل بين حدوده ورسم تخومه. وقد قدّم كل تعريف من هذه التعريفات إضاءة جديدة لبعض من معانيه ودلالاته، وشكلت الجهود المبذولة في تعريفه مجتمعة نوعاً من الأدب الفكري الذي لم يستطع أبداً أن يستنفد الثراء الأخلاقي الذي يتسم به مفهوم الضمير الذي شكل قضية فكرية نثير تساؤلات متجددة حول هذا الكيان الإعجازي بما ينطوي عليه من أسرار كبيرة.

والضّمير، في اللغة العربية، المستور المضمر الساكن في الأعماق. ويدلّ أيضاً على المضمر في النّفس، الموجود وجوداً خفياً لا يكشفه النظر، إنّهُ المستور من العواطف والنّوايا الّتي تظهر عند الحاجة أو الاستثارة. فالضّمير باطن الإنسان، وما يخفى في السّر، أو في السّريرة. والضمير في لسان العرب" السِّرُّ وداخِلُ الخاطرِ، والجمع الضمَّائرُ ". ويقابل كلمة الضمير العربية كلمة Conscience في اللغة الفرنسية، وتعني بأنها إحساس أخلاقي داخلي يمكن الإنسان من أن يكون شاهداً على نفسه أي على ما يقوم به من أفعال خيرة أو شريرة.

وقد جاء في المعجم الفلسفي لمراد وهبة بأن الضمير:".. خاصيّة العقل في إصدار أحكام معياريّة تلقائيّة ومباشرة على القيمة الأخلاقيّة لبعض الأفعال الفرديّة المعيّنة. وحين يتعلّق هذا الضّمير بالأفعال المقبلة فإنّهُ يتّخذ شكل صوت يأمر أو ينهى، وإذا تعلّقَ بالأفعال الماضية فإنّهُ ضمير التكلّم." [2]. ويلاحظ أن هذا التعريف يركز على الطابع العقلي للضمير حيث هو خاصية من خواص العقل ووظيفة من وظائفه وهذا التعريف ينسج إلى حدّ كبير مع التيارات العقلانية التي تنظر إلى الأخلاق بوصفها كينونة عقلية خالص كما هو الحال عند سقراط وكانط.

يعرّف ايمانويل كانت الضمير على انه عباره عن غريزه تقودنا الى الحكم على انفسنا في ضوء القوانين الاخلاقيه "   ويعرف لالاند A.Lalande الضمير « بأنه خاصة تمكّن الفكر البشري من إطلاق أحكام معيارية عفوية ومباشرة على القيمة الأخلاقية لبعض الأعمال الفردية المحددة»[3]. ويتضح أن لالاند يركز على الجانب العقلي في الضمير الذي يأخذ طابعاً عفوياً في سائر أحواله في إصداره لأحكامه الأخلاقية.

فالضمير وفقاً لأغلب التعريفات يتمثل في شعور غريزي بالخير والشر، إذ يمكن للإنسان أن يرجع إلى ضميره حينما لايجد متسعاً من الوقت، أو لا يتيسر له فحص القيمة الأخلاقية للعمل قبل الإقدام عليه فحصاً منهجياً. ويكون هذا بطريقة استفتاء العمق الوجداني الذي يقدم إجابات عفوية حول مصداقية الفعل الأخلاقي فيؤكد خيره ويحض عليه أو يستشعر شره فينهى عنه. وهذا ما يتوافق ورؤية أصحاب النزعة الحدسية والصوفية الذين ينظرون إلى الضمير بوصفه قوة فطريّة تدرك الخير والشّرّ حدسياً من غير خبرةٍ سابقة أو فحص أو تأمل، وقد أنكر الطّبيعيّون ذلك ورجعوا به إلى التّجربة، فقرنوا ما بين الحكم على أخلاقيّة الأفعال بنتائجها.

وفي سياق آخر، لم يكتف صاحب المعجم الفلسفي بالكشف عن طبيعة الضمير في تعريفه، بل تناول وظائفه وديناميات فعله، فعرّفه بأنه:" خاصّة يصدر بها الإنسان أحكاماً مباشرةً على القيم الأخلاقيّة لأعمال معيّنة، فإن تعلّقَ بما وقع، صاحبه ارتياح أو تأنيب، وإن تعلّقَ بما سيقع كان آمراً أو ناهياً "[4].

وفي هذا المقام يركز إيغور كون في معجمه الأخلاقي على تحديد الوظائف الأساسية للضمير، ويؤكد على وظيفته الرقابية التي تأخذ طابعاً ذاتيا، ويرى بأن فعالية الضمير مشبعة بالطابع الانفعالي الوجداني، حيث تتمثل وظيفة الضمير في:" مراقبة الذّات الأخلاقيّة، والصّياغة الذاتيّة المستقلّة لواجباتها الأخلاقيّة، ومطالبة نفسها بتأديتها، وإعطاء تقييم ذاتي لما قامت به من تصرّفات، وأحد تجلّيات وعي الذات الأخلاقيّ عند الشّخصيّة، وقد لا يتجلّى الضّمير في صورة إدراك عقلي لقيمة الأفعال الأخلاقيّة، فقط، بل وفي صورة معاناة عاطفيّة، كما في الشّعور بتأنيب الضّمير، أو في أحاسيس" راحة الضّمير" الإيجابيّة. وعليه، فإنَّ الضّمير هو وعي الشّخصيّة الذّاتي لواجبها ومسئوليتها تجاه المجتمع"[5]. فالضمير وفقاً لهذا التعريف يتميز بطابعه الذاتي ووظيفته تتمثل في المراقبة والمطالبة والتقييم والوعي والعقاب والإحساس بالسمؤولية الاجتماعية وذلك من أجل التوجيه الأخلاقي للسلوك الإنساني.

وبينما يركّز تعرّيف (كون) على الجانب الوظيفي للضمير، تؤكد الموسوعة الفلسفيّة السّوفيتيّة على الجانب العاطفي الوجداني، كما تؤكد على الجانب الاجتماعي المكتسب في تكوينه، فالضّمير وفق الموسوعة:" مركّب من الخبرات العاطفيّة القائمة على أساس فهم الإنسان للمسؤولية الأخلاقيّة لسلوكه في المجتمع، وتقدير الفرد الخاص لأفعاله وسلوكه. وليس الضّمير صفةٌ ولاديّة، إنّما يحدّده وضع الإنسان في المجتمع، وظروف حياته، وتربيته. ويرتبط الضّمير ارتباطاً وثيقاً بالواجب، ويشعر المرء عندما يؤدي واجبه على نحو كامل بصفاء الضّمير، وفي الحالة المضادة أي عندما ينتهك الفرد الواجب فإنه يشعر بألم وخزات التأنيب. وعلى هذا الأساس فإن الضّمير يشكل قوّة دافعةٌ تعمل على تهذيب الفرد أخلاقيا" [6].

كثير المفكرين يؤكد على أن الحرية تشكل جوهر الضمير، فالضمير جوهر أخلاقي يقوم على مبدأ الحرية، ومن غيرها يموت، وتموت معه النفوس الأبيّة. فالحرية هي التي تمنح الإنسان الإرادة، ومن غيرها تتحول الحياة الإنسانية إلى بهائمية مظلمة. وفي هذا الأمر يقول الكواكبي:" الحرية أعز شيء على الإنسان إذ بفقدها نفقد الآمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع وتختل القوانين فالحرية هي أن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعلة لا يعترضه مانع ظالم([7]). وقد يكون أجمل القول في الحرية كامن فيما يقول القديس توما الإكويني عندما يقول بأن:" الإنسان الحرّ هو الذي يكون علة ذاته".

فالحرية تشكل جوهر الضمير الأخلاقي وعمقه، حيث يكون الضمير علة الفعل الأخلاقي وعلة نفسه، وتتجلى هذه العلاقة الأبدية بين الحرية والضمير في هذا التصور الذي يقدمه جون ستيورت مِل عندما يقول" إنَّ في حياة الفرد منطقة حرام لا يجوز للمجتمع أن يطأ ساحتها، هي موطن الحريّة الصّحيحة(...) ونعبّر عنها بحريّة الضّمير، والفكر والوجدان"[8]. وتعدّ هذه المنطقة المقدسة المحرّمة موطن الضمير الأخلاقي، حيث يكون الضمير هو السيد المطلق، إذ يستمد أحكامه من ذاته، ويتزود من الصفاء الأخلاقي الذاتي الذي يتميز به، فلا يهادن ولا يذعن، ولا يخضع إلا لأحكام الحق والعقل والواجب والفضيلة والقيمة الأخلاقية العليا. ويؤسس هذا للقول: بأن الضمير لا يستقيم إلا بالحرية، وعلى هذا الأساس يعرّف معجم علم الأخلاق الحريّة بأنها:" قدرة الإنسان على تحديد تصرّفاته بنفسه، تبعاً للرّؤية الّتي يتبنّاها، وقدرته على الفعل استناداً إلى قراره الذّاتي. وهي تعني أنَّ الإنسان حين يقوم بالتّصرّف، يختار (الاختيار) بين الخير والشّرّ، بين الأخلاقي واللاّأخلاقي"[9]. وهذا كله يعني أن الحرية تشكل وطن الضمير وجوهره، ومن غيرها، لا يمكن للإنسان إلا أن يكون عبداً صاغراً لغيره أو لملذاته وأهوائه الذاتية. ومع ذلك كله فإن الضمير كما يقول ثيودور درايزر لا يحول أبداً دون ارتكاب الخطيئة، ولكنه يمنعك من الاستمتاع بها.

وعلى هذه الصورة يتجلى الضمير بوصفه كياناً أخلاقياً، يتسم بالقدرة على توجيه الفعل الأخلاقي، بوصفه القوّة الأخلاقيّة التي تنطلق من ينابيع الحرية ومناهل العاطفة المشبوبة بالتوهج الإنساني الخلاق، إنه الضمير المنطقة الأكثر صفاءً ونقاءً في أعماق الروح وفي كينونة العقل، وبه يستطيع الإنسان أن يتماهى بجوهره الإنساني نبضاً بكلّ المعاني الأخلاقية والوجدانية السامية.

 

علي أسعد وطفة

.................................

هوامش الدراسة :

[1] - نقلا عن: أحمد ابو زايد، الضمير، الموسوعة العربية، المجلد الثاني عشر، http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=159404

[2] - وهبة، مراد، المعجم الفلسفي، طبعة ثالثة، دار الثّقافة الجديدة، القاهرة، 1979، ص247.

[3] - أحمد ابو زايد، الضمير، الموسوعة العربية، المجلد الثاني عشر،http://www.arab-ency.com/index.php?module=pnEncyclopedia&func=display_term&id=159404

[4] - مدكور، إبراهيم، المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربيّة، جمهوريّة مصر العربيّة، الهيئة العامة لشئون المطابع الأميرية، القاهرة، 1983، ص، 110.

[5] - كون، ايغور، معجم علم الأخلاق، ترجمة توفيق سلّوم، دار التقدم، موسكو، 1984، ص 248.

[6] - لجنة من العلماء والأكاديميّين السّوفياتيّين، بإشراف، روزنتال .م، ويودين.ب، ترجمة، سمير كرم، الموسوعة الفلسفية، دار الطّليعة، بيروت، الطبعة الرابعة، 1981، ص، 282.

[7] - محمد ابراهيم المنوفي، نحو فلسفة تربوية لمواجهة ظاهرة الاستبداد السياسي، دراسات تربوية، صادرة عن رابطة التربية الحديثة، المجلد العاشر، جزء79، صص(97-176)،ص109.

[8]- بدوي عبد الرحمن، موسوعة الفلسفةج1، ط1، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، 1984.

[9] - زيادة، معن، الموسوعة الفلسفيّة العربيّة، معهد الإنماء العربي، المجلّد الأوّل، الطبعة الأولى، معهد الإنماء العربي، بيروت، 1986.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم