صحيفة المثقف

الى روح الباحث والمفكر نصر حامد أبو زيد

عمرون علي اكتبوا على قبري: هنا يرقد أحد الحالمين بمستقبل أفضل. أيها الزائر قبري لا تكف عن مواصلة الحلم!

المفكّر والفيلسوف د نصر حامد أبو زيد


نعم من حقنا ان نحلم بوطن يعشق الحرية هذا الحلم لا يمكن التسامي به ضمن مملكة الخيال أو النزول به الى الواقع واختزاله في صور نمطية وإعادة صياغته في قوالب لغوية ثابتة، بل هو مطلب انساني وحق طبيعي ومدني سابق لكل ثورة فكرية أو سياسية.. الحرية هي  محرك كل عمل ابداعي  وهي مرتكز الحداثة  وعنوان نهضة الأمم، الحرية هي الإنسان هكذا تعلمت من ابي زيد، حيث مواصلة النضال من أجل الحرية وليس التحرر الظرفي واجب أخلاقي وفريضة إسلامية، ومشروع إنساني لمواصلة الحلم، انها  القضية الأساسية التي يجب العمل على إعلانها صراحة وكنت قد اشرت الى ذلك في موضوع سابق عندما كتبت عن محنة التفكير في زمن التكفير  من ابن رشد الى نصر حامد أبو زيد، وقلت انه في عام 1999 اصدرت محكمة الاستئناف في القاهرة حكما، قضى بتطليق زوجة الدكتور حامد ابو زيد، على اعتبار انه مرتد عن الإسلام بعد اتهامه بتلويث عقول الطلاب والغش والجهل، وبانه كويفر مخمور مغرور. وقبل ذلك بثمانية قرون وتحديدا عام 1195، تم الإعلان في المنشور الرسمي للدولة الموحدية، ان ابن رشد معطل ملحد، واجمع من حضر من الفقهاء في جامع قرطبة، انه مرق من الدين واستوجب لعنة الضالين.

ورغم الاختلاف بين الرجلين في طريقة النفي بحكم ان الثاني اختار منفاه في هولندا بإرادته، والأول اجبر على النفي إلى قرية اليسانة او كما كانت تسمى قرية اليهود، بالقرب من قرطبة، الا ان خيوط الجريمة واحدة والمتهم هو نفسه.

المتهم فقي بالمعنى الحجازي يدعي الفقه يحشر نفسه بين العلماء ويقول ما يشاء لمن يشاء كما جاء على لسان المفكر الليبي الراحل الصادق النيهوم، فقي متفيقه يعتقد ان الحقيقة تسكن الماضي واضحة لا تحتاج إلى اعمال العقل للكشف عنها، وهو قادر على الإمساك بها، والقبض عليها بشرط الرضوخ لسلطته والسمع والطاعة لولي أمره.

المتهم أيضا مثقف انتهازي نار الغيرة احرقت قلبه الأجدب أعمى غيور حسود قزم يتطاول على من هو أعلى منه مقاما في سلم الفكر والفضيلة يتودد يرقص كعاهرة يركع يسجد لسيده.

المتهم سياسي غبي معطوب الفكر،نجس متسلط مريض نصب نفسه طبيبا لعلاج الآخرين يتحرك كخنزير متلذذ يمارس هوايته في اغتيال العقل ومصادرة الحق في التفكير.

كل هؤلاء هم أفراد الجوقة وحراس معبد الأوهام، يضربون على ذات الطبلة يرقصون على نفس الايقاع بالمحصلة يمارسون – كما وصفهم الشاعر العربي نزار قباني - عزفا منفردا على الطبلة " طَبْلَه.. طَبْلَه وطنٌ عربي تجمعُهُ من يوم ولادته طبلَهْ.. وتفرَقُ بين قبائله طبلَهْ.. وافراد الجوقة والعلماء وأهلُ الذِكْر، وقاضي البلدة.. يرتعشونَ على وَقْع الطَبْلَهْ.. يرددون أغنية الشيطان .

وهنا  نتساءل: لماذا وقف ويقف فقهاء السلطان  على تعدد مشاربهم، واختلاف محطاتهم التاريخية ضد كل محاولة جادة للتحرر من الاستبداد الفكري؟

لماذا يحاربون بسيف التعصب الاعمى كل محاولة لتأسيس فكر عقلاني حر؟ وما الذي يخيف السلطة السياسية في الأنظمة الاستبدادية من مشاريع الإصلاح الفكري؟

وماذا خسر العرب والمسلمون بحرق كتب ابن رشد وتكفير حامد أبوزيد وغيرهم؟

مشروع نصر حامد أبو زيد يتقاطع مع مشروع سقراط حيث (السخرية والميوتيك) أساس كل حوار واداة للحفر والنبش عن الحقيقة، يتقاطع أيضا مع فلسفة ابن رشد فهو قراءة عقلانية  ومشروع ديني فلسفي علمي يتناول وبكل شجاعة  مشكلة التغير السياسي والاجتماعي وكيفية بناء الدولة على أسس الحق والواجب والخضوع لسلطة القانون هي فلسفة تنويرية دفعت أصحاب المصالح الى  اتهام  ابن رشد بالخيانة والتخطيط لانقلاب سياسي والى اتهام ابي زيد بالكفر والردة .

مشروع نصر حامد أبو زيد تحرري  اشترط من خلاله  التفكير العقلاني الحر كمنطلق لأي بحث فكري مع التأكيد على ان البحث عن الحقيقة لا يجب ان يستهدف تحقيق غايات نفعية وانه لابد من التسلح بأدوات البحث العلمي وقد عبر عن ذلك الدكتور محمود اسماعيل بصورة دقيقة ومختصرة :" لقد أفاد المؤلف [الدكتور نصر] من المناهج البنيوية والسيميائية وفقه اللغة وغيرها في تفكيك النصوص واستبار غور مضامينها اللغوية والأسلوبية ودلالاتها المعرفية، كما ركز على مباحث في الفلسفة والعقيدة واللغة، واظهر طول باع في قراءة المصطلحات وكشف مضامينها معولا على تاريخية المصطلح والمفهوم في آن. كما لم يهمل مناهج القدماء من المفسرين والبلاغيين وعلماء الكلام وأفاد منها جميعها بعد دعمها بالمنهجيات الحديثة والمعاصرة. (محمود اسماعيل،  قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر، ص 24-25)" وهذا المشروع كان  يتعارض ولاشك مع أصحاب النفوذ الديني من فقهاء واوصياء على الدين وأصحاب النفوذ الثقافي من شعراء وادباء الباحثين عن المال والجاه والشهرة فكانت معركة ابي زيد معركة ضد التطرف وضد كل محتكر للحقيقة.......

نقطة الانطلاق عنده هي الاشتغال على التفسير العقلي للنص الديني من خلال فكر المعتزلة وكيفية توظيف المجاز ثم الاشتغال على فكر ابن عربي والتجربة الذوقية ودور الحدس في تفسير وتاويل النص الديني . وكل ذلك من  اجل فهم صحيح للتراث الفكري  الاسلامي وهذا ما اشار اليه فؤاد كامل عند تقديمه  لكتاب مفهوم النص لنصر أبوزيد  في مجلة العربي الكويتية مارس 1993م

هذا هو الكتاب الثالث في سلسلة ” دراسة تراثنا الفكري ” التي يصدرها الدكتور نصر حامد أبوزيد الأستاذ بقسم اللغة العربية في جامعة القاهرة، والتي بدأها بكتابه ” الاتجاه العقلي في التفسير ”، ثم أردفها بكتابه الثاني “فلسفة التأويل “. وكان تركيزه في هاتين الدراستـين السابقتين ينصـب على الآفـاق الفكرية والمعـرفية التي تبدأ منها عمليات التفسير والتأويل.

يركز المؤلف في هذه الدراسة الثالثة على جانب النص ذاته وعلاقة المفسر به وجدله معه، وذلك في محاولة لاكتشاف مكونات النص وآلياته الخاصة، ودوره الإيجابي في عملية التأويل، وهي محاولة تهدف إلى إعادة التوازن بين طرفي عملية التأويل وهما النص والمفسر فلا يهدر أحدهما على حساب الآخر كـما يحدث أحيانا في فلسفة التأويل المعاصرة.

الدكتور نصر الذي عاش حالة من اليتم والحزن السياسي والاغتراب لم يتنازل ابدا عن افكاره وكان يصف نفسه بالمواطن والمثقف الملتزم، ورغم التكفير والتهديد بالقتل الا انه واصل التفكير بمنطق الباحث المتمكن من ادوات البحث والكتابة باسلوب واضح مرتكزا على الحجة والبرهان تحول من دراسة الفلسفة الى الادب العربي لان اول محاضرة في الفلسفة جعلته يشعر بالإحباط، لاسيما وانه كان يبحث عن التميز والابداع و يرفض بشدة الفكر التلقيني المبني على الترديد هذا الابداع تجلي مع أطروحة الدّكتوراه في فلسفة التأويل والّتي كانت دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين بن عربي. ومن هنا بدأت رحلة التفكير والتكفير وقصة تكفيره كما اكد ابو زيد  لا يمكن فهمها خارج سياق مناخ الاحتقان السياسي/الثقافي الذي غلَّف الأجواء المصرية منذ بداية الثمانينات بعد اغتيال رئيس الجمهورية السابق في وضح النهار وتحت وميض كاميرات الإعلام في احتفال مصر بيوم انتصارها.

 ازداد الاحتقان في التسعينات بعد أن طالت يد الإرهاب قيادات سياسية في قلب القاهرة، وساعد مناخ « الفزع الحكومي » من الإرهاب في توسيع سلطة الفكر الديني الذي يؤيد النظام ويدين الإرهاب بلاغيا. امتدت يد الإرهاب للمثقفين فاغتيل « فرج فودة » وتم الاعتداء على « نجيب محفوظ » وانقسم المجتمع الثقافي إلى معسكرين متنابذين. وسط هذا المناخ جاء موضوع الترقي واستطاع تقرير غير علمي أن ينال موافقة اللجنة العلمية ضد تقريرين إيجابيين. ولم يكن هذا ليقع في مناخ أكاديمي طبيعي لم تلوثه ضغوط « الإرهاب » الذي صار فزاعة النظام السياسي والإداري في مصر كلها ضد أي نقد.فتحول موضوع « الترقي » إلى معركة قرر خصوم « حرية الفكر » حملها إلى القضاء. في ظل غابة القوانين والتشريعات في النظام القضائي المصري تمت صياغة مسألة التكفير والحكم بالردة … الخ.

حارب الدكتور نصر حامد ابو زيد الفكر السلفي المتطرف والفكر الحداثي المتطرف لغياب الوعي العلمي في كلا المشروعين ولغياب العقل النقدي ثم انه هناك في نظره نوع من التعالي على الواقع بل وعلى الافراد وممارسة ديكتاتورية فكرية تحيلنا الى حالة من التطرف والتعصب واعتبار الاخر المخالف هو الشيطان وهو الجحيم  في حين ان حرية التفكير حق مقدس ولايمكن مصادرة الحق في المعرفة من أي جهة كانت ومن هنا ادرك نصر ان المعركة الحقيقة هي الدفاع عن الحرية فمن خلال الدفاع عن الحق في الاجتهاد وحرية التفكير و التعبير سواء في الدين او الفلسفة او الفن  وغلبة التمجيد والنمطية في التفكير في ظل سلطة شمولية وهذا هو سبب التخلف في المجتمعات العربية المعاصرة ففي حوار الباحث والروائي  كمال الرياحي والذي جاء بعنوان  هكذا تحدث نصر حامد أبو زيد [سيرة الهرمينيوطيقي الحالم] سأله عن معنى العبارة التي وردت على لسان محمد أركون« الحل هو أن نذهب إلى السربون وندرس التاريخ الإسلامي هناك، وليس في جامعة قسنطينة. » اجاب نصر حامد ابوزيد يعبّر عن أسفه – وربما عن يأسه – من نظامنا التعليمي في العالم العربي. ليس فقط ما يشكو منه كل رجال التعليم من أنه تعليم يعتمد على « التلقين » و »الترديد »، بل هو بالإضافة إلى ذلك فقير من حيث المحتوى. المثال المطروح هو « التاريخ الإسلامي » الذي يدرَّس بشكل تمجيدي، وبالتالي يفتقد المتعلّم أي إحساس بمعنى التاريخ والتطور والفعل الإنساني. لا شك أننا بحاجة إلى ثورة في مجال التعليم من رياض الأطفال إلى الجامعة، ثورة لا تتحقق إلا بثورة اجتماعية إصلاحية شاملة. من أين نبدأ؟ من الاقتصادي؟ أم من السياسي؟ أم من الثقافي؟ أم من الدين؟ حائرون في البدايات وعاجزون عن الحسم.

وسواء وقفنا امام مشهد نقل جثمان ابن رشد وكتبه من مدينة مراكش المغربية التي رُحل إليها بعد نكبته المشهورة على يد الخليفة الموحّدي، ثم إعادته بعد وفاته على ظهر دابة إلى قرطبة حيث دُفن نهائياً فيها وهي مسقط رأسه او امام مشهد دفن الدكتور نصر حامد ابو زيد وقد غاب عن جنازته كل المسؤولين وجل المثقفين وهرب من العزاء أهالي قريته  » قحافه  » بمدينة طنطا وأحجموا عن تقديم واجب العزاء فان الدلالة واحدة حيث ان دفن ابن رشد ونصر حامد ابو زيد  بهذه الطريقة  دفن لقيم التجدد والانفتاح، وإحياؤه من جديد هو إحياء لأسباب الانقاذ من المأساة التي سببها الدفن المستمر لفكر هذين الرجلين في لا وعي المواطن العربي يقول ابن عربي:” ولما جعل التابوت الذي عليه جسده (ابن رشد) على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر. وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسن محمد بن جبير، كاتب السيد أبي سعيد (الأمير الموحدي)، وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السراج، الناسخ، فالتفت أبو الحكم إلينا وقال:” ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام، وهذه أعماله _ يعني تواليفه!،- فقال ابن جبير: ياولدي، نعم، مانظرت! لافض فوك! فقيدتها عندي موعظة وذكرى”.

 

عمرون علي - أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر

......................

* توفي في يوم الاثنين التاسعة صباحا 5 جويلية 2010 مستشفى الشيخ زايد بمدينة السادس من أكتوبر غربي القاهرة، اثر إصابته بفيروس مجهول خلال زيارة له لاندونيسيا.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم