صحيفة المثقف

هل من ثورة ثقافية عربية؟

لم يحسم الربيع العربي انتصاراً واضحاً في مسألة استتباب الديمقراطية ووضع أركان العدالة والمساواة في مفاصل المجتمعات العربية التي انطلقت منها الثورات الشعبية. بل بعكس ذلك تشهد بعض الأقطار عودة إلى الوراء، بَيْد أنّ الأنظمة التي تهاوت قد حلّت مكانها أنظمة أكثر دهاء في التمويه وأكثر فجوراً ولعنة في ممارسة الاستبداد والفساد. وفي أمكنة أخرى سقط فيها الطغاة، ولكن لم تغب حواشيهم المؤسساتية وأخطرها المؤسسة الثقافية التي زرعوها، حيث ما زالت هياكلها ماثلة في المشهد الثقافي ورموزها تفعل فعلها التخريبي، وقد ارتدت أردية من التضليل. لتبقى الحرية حلماً بعيد المنال، في سبيلها يتساقط ضحايا ويحلّ عليهم الغياب.

فنظام الطاغية ليس مجرد تشكيلات عسكرية وأجهزة أمنية، ليسقط إذا تقهقرت هذه الأجهزة. لقد أثبت بأنّ له امتدادات اقتصادية واعلامية وثقافية، أنه كالأخطبوط الذي يُمدد خلاياه في كل مفاصل الحياة مما يعطي انطباعا بأنّ أي حراك شعبي يظل فعلاً ناقصاً ما لم تدعمه ثورة ثقافية تمتلك الوعي الحداثي، ولا تشكل قطيعة مع الموروث كأساس مركزي يحرّض على التغيير.

الثقافة في زمن الطاغية

يمكن تسجيل مرحلتين في تعامل الطاغية مع الثقافة: في المرحلة الأولى كانت منظومة الطاغية السياسية والأمنية تعمل على تهميش الثقافة واقصاء المثقفين كي تتفرد في القرار في إدارة البلاد. وفي المرحلة ثانية عملت هذه المنظومة على استقطاب مثقفين لا يملكون اليقين ودمجتهم في المؤسسة الثقافية، وانحصرت وظيفتهم في تلميع صورة الطاغية.

 في ظلال الطاغية الحاكم تكرّس جيش من الكتبة على أنهم مبدعو زمانهم، وبنجوميتهم تتزيّن سماء المشهد الثقافي. هؤلاء هم "مثقفو السلطة" الذين يتفانون في الحفاظ على دورهم ليكونوا أصحاب حظوة وأداة الطاغية في إدارة البلاد إلى جانب أجهزة القمع الأخرى، إذ من خلالهم لا يريد الطاغية ثقافة ناشطة خارج مؤسساته التي شكلها من شلل عصبوية أوصدت أبواب العقل وباعت وجدانها لنيل بطاقة المحسوبية لتنفذ إلى ما سُمّيت زوراً "مؤسسات ثقافية". لقد كان دور هؤلاء طاغياً على المشهد الثقافي الذي أغلقوا جميع اتجاهاته الفكرية والإبداعية ليتركوا باباً واحداً، من خلاله تُؤدّى الطاعات في طقوس البسملة والحمدلة للطاغية. حتى صدقنا في ظروف من القهر والاستلاب أنّ الثقافة التي تنتجها هذه المؤسسات، هي الثقافة التي تتقدم بنا كأمة متحضرة، وستعبر بنا إلى مصاف الثقافات العالمية الخالدة.

ثقافة خشبية

لقد تأخرنا في اكتشاف أنّ الثقافة التي أُنتجت في العقود الأخيرة ما هي إلا ثقافة خشبية، وكنّا نحسبها على عصر النهضة. هذه التي ارتبطت بالحكم الوطني الذي اتسم بالاستبداد السلطوي، ودمغ كل مناهج الحياة حسب رؤيته التي لا ترى أبعد من تمجيد كرسي الحكم.

لقد أنتجت الأنظمة الشمولية العربية عجزاً شاملاً على كلّ الصعد في الحياة العربية، والتحدي الوحيد الذي كان يمضي بكثير من النفاق اقتصر فقط على إطالة أمد السلطة في الحكم ودفع براثينها أنْ تنغرس أكثر في دم ولحم الوطن، وعلى هذا التحدي نُظّمت قصائد وكتبت روايات، أنتجت أفلام ومسرحيات، صدحت أغان في طول وعرض البلاد. كما وأقيمت مهرجانات على أعمدة عالية من الفساد وزعت خلالها جوائز لمبدعين مزعومين. ومع هذا الحال ما عادت توجد مفاهيم أو معايير تسند قيمة ألمنتج، بل هي بيانات اطناب يحررها هؤلاء الكتبة لبعضهم وعن بعضهم. وانحصرت المعايير في مدى الولاء والتقرب من السلطة. ما عاد من بصيرة تقوم على حكمة وضمير، كل البصائر توجهت إلى إرضاء الحاكم، كي تعود بالقيمة المادية لجيوش منتفخة من متثاقفين امتهنوا الأدب والفكر والفن كالدعارة، ما الفرق؟

 وأي ثقافة هذه حين يستبيح النظام المتسلط بديهيات حقوق وحياة الإنسان المتمثلة في الكرامة والحرية ويمنع حرية التعبير؟ هل غير الثقافة القائمة على التضليل والدعاية للنظام. وهل غير ثقافة الخوف التي تدفع المبدعين الحقيقيين إلى الصمت أو الهجرة، لتسود في الساحة ثقافة من الإسفاف، أرادت الحاشية منها وحسب الوظيفة المسندة إليها أنْ تضع التاريخ تحت أقدام الحاكم وسلالته، وذلك على حساب كينونة الوطن الوجودية في تشكيل هوية وانتماء الانسان.

ثورة ثقافية

في مراجعة للتاريخ العربي فأنّ ثورة ثقافية بمفهوم تحرري وحضاري لم يسجل لها حضور، على غرار ما حدث في أكثر من مكان في هذا العالم استطاعت فيه الثورات أنْ تغير النظم السائدة وتترسخ بعد ذلك في أنظمة جديدة تترك مناهج حديثة في عصب الحياة. والحديث هنا عن ثورة ثقافية واضحة المعالم في مطالبها بالحرية ولتحقق القطيعة النهائية مع وضع سياسي سابق أرسته أنظمة ديكتاتورية مهزومة أمام تحديات الحضارة.

كان جدير بثورات الربيع العربي الشعبية أنْ تواكبها ثورة ثقافية يمضي الثوار على هديها في الشوارع والميادين لالتماس طريق الحرية. إذ أنّ لكل ثورة شعبية ثورة ثقافية. وليس مهماً متى تبدأ، خلالها أم بعدها أو من قبلها. وربما عدم نضوج مثل هكذا ثورة في ذروة الهتاف بسقوط الديكتاتور، وأيضاً بسبب التردد والتقاعس من قِبَل بعض المثقفين، هو ما ساعد أصحاب الفكر الظلامي أنْ يتبوؤوا مشهد الربيع، ليفتكوا بكل القيم السامية لأهدافه.

 لقد ألحق أصحاب الفكر الظلامي بالربيع العربي تشوهات عميقة وحرّفوا مساره التحرري إلى ظلام الخرافات التي من شأنها أنْ ولّدت حمّامات من الدم ومآسٍ اجتماعية تركت آثاراً مدمرة في جسد الوطن وخراباً في العمران، ليس من اليسير معالجة هذه الآثار في وقت قصير.

لم يفت الأوان

إلا أنّ ثورة ثقافية عربية لم يفت أوانها وباتت أكثر من ضرورة ملحّة، لكيلا تقع الثورات الشعبية بعد انتصارها في التخبّط، ولا يتحوّل طيف الحرية إلى سراب. ولكي تنغلق الأبواب والشبابيك أمام التسلل الخفي لقوى الطغيان في عودتها للإمساك بزمام الأمور، والتسلق على شجرة الثورة. أنّ كنس طغاة السلطة يجب أن يماثله استئصال كامل لثقافة عملت على تأليه الحاكم وتمجيد سلالته، ونشرت أدرانا خبيثة سببت تشوهات في جسم المجتمع العربي الذي نراه ما زال يترنح بفعل الأورام الخبيثة.

الثورة الثقافيّة ليست حدثًا يتم الإعلان عن تحقّقه أو الإخبار عن انطلاقه، وإنّما هي حالة شاملة من الصعب تحديد بدايتها، يبلغها المجتمع عبر تحولات طويلة الأمد وابتكارات تمتدّ إلى منظومة التقاليد ونظام العلاقات الاجتماعيّة والفنون والآداب والمؤسسات وهويّة النظام السياسية التي ترفع مستوى التحدي بمواجهة كل ما يعرقل نهضة الوطن في الداخل، كما ضد القوى الدولية العظمى التي تساند أنظمة الطغاة، وما زالت تنظر إلى أوطاننا على أنها مزارع استعمارية وبقرة يجب حلبها.

ثورة ثقافية من المهم والواجب المبدئي والأخلاقي عدم اسقاط القضية الفلسطينية من مركزيتها كعنوان للتحرر والحرية، أو التغافل في أي وقت من الأوقات عن تلك المناهج الثورية الحافظة لكرامة المواطنين في مجتمع تسوده المساواة والعدالة.

 

سعيد الشيخ

كاتب فلسطيني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم