صحيفة المثقف

معركتي مع كوفيد 19

قاسم حسين صالحبمحبة الناس.. هزمناه

في 3 /11/2020 تسلل لي كوفيد بقناع الأنفلونزا، تناولت مضاداتها فتحسنت ليومين، وعادت وتحسنت ليوم ثم اشتدت الأعراض وضاق نفسي، فراجعت مركز ميديا التخصصي في 10/11، وفي اليوم التالي ظهرت النتيجة (بوزتف).

اتصل بي الدكتور شامل، ابن صديق العمر الشطري التربوي (عبود هلال) الطبيب بكلية الطب جامعة بغداد، وألح ان اراجع جهة طبية قبل ان ينخفض عندي الأوكسجين تحت الثمانين فاكون في خطر مؤكد . فقمت بعمل اتصالات مع مسؤولين كبار في اربيل بينهم الصديق عادل بوتان مدير الأسايش سابقا، وتم الحجز لي في 13/11 بمستشفى هولير نشنال.. بجناح كورونا، ليلته الواحدة بـ 1200 دولارا.

في المساء جاء طبيبي الدكتور علي البرزنجي، فقال لي بلهجة بغدادية (هو كوردي): " الدنيا مكلوبه عليك، وزير صحة بغداد اتصل بوزير صحة اربيل واتصلوا بالمستشفى، و وزير التعليم العالي.. وأبنك الدكتور مظفر. اطمئن دكتور قاسم.. سأعمل المستحيل".

في الليلة الثانية جاء الدكتور عبد الحميد مدير المستشفى (اختصاص جراحة القلب) ومعه طبيبة أخرى ليطمئن ملمّحا بأنني اعامل هنا معاملة (في آي بي) رغم أنني ما كنت ارتاح لهذا التصنيف ..لكنها زادت داخلي اطمئنانا بعد الذي سمعت عن الذي يحصل من وفيات في المستشفيات بسبب نقص الخبرة وأسباب أخرى.

في المساء اتصل بي الناطق الأعلامي بأسم الرئيس مسعود البرزاني الصديق كفاح محمود لينقل لي تمنيات الرئيس مسعود البرزاني بالشفاء العاجل.(وللتوضيح.. لم استلم أية هدايا مادية من اية جهة رسمية في الأقليم، بل أنني طلبت صرف جزء من رواتبي التقاعدية بعد ان أقتربت التكاليف، المستشفى واجور الأطباء والعلاج، لغايتها من ثلاثين الف دولارا .. وما حصلت).

وبالمناسبة، كنت انا احد المنظمين لمؤتمر (نصرة القضية الكوردية - 2004) وتم اعتماد ورقتي (حق الشعوب في تقرير المصير – الكرد في العالم العربي انموذجا). وكان بين المشاركن رجل الدين المتنور الراحل هاني فحص، وعالم الاجتماع الراحل فالح عبد الجبار، د. كاظم حبيب، د.تيسير الآلوسي، المحامي زهير عبود، المهندس الاستشاري نهاد القاضي ونخبة من المفكرين. وقد دعانا الرئيس مسعود الى مقره الرسمي وقبيل مغادرتنا طلبت منه ألتقاط صورة تذكارية هي الآن معلقة في صالة الضيوف.

نعود لكوفيد. لبست كمامة الأوكسجين في اول ليلة بالمستشفى (13/11) وكنت هادءا والأوكجسين بين نازل 85 وصاعد 90.وتصورت ان كوفيد يقول لي: آني مو نذل حتى اغدر بيك.. خذ راحتك، بس ما راح أعوفك.

بدأ جسمي يتلقى مصائل الأبر.. كانت اكثر من مئة ابرة امريكية والمانية وفرنسية. واشتدت معركتي مع كوفيد في الليلة الثانية . وتصورت أن كوفيد صعّد من المعركة بعد أن عرف بالدكتور علي البرزنجي قائلا لي متوعدا: تستعين بصديق دكتور قاسم!.. آني لك.

كنت في المعركة مع كوفيد مثل محمد علي كلاي، لا املك سوى.. المراوغة!.. وكيف اتوقى لكماته دون أن الكمه. وبها كانت كثير من لكماته تأتي طائشة، وأخرى قاسية لاسيما تلك التي تأتي في الرأس، تغيبني.. أفقد وعيي.. وحين استفيق أرى زوجتي تمسكني بيدين مرتجفتين والدموع على الخدين، وممرضتين احداهما تمسك بكمامة الأوكسجين.

كنت فعلا اعيش المعركة لا وهما، خلقتها بخيالي او خلقها لاوعيي بخياله، لدرجة انني ارى الجمهور يصفق لي ويضحك حين اخدع كوفيد فتأتي لكمته طائشة!. وبقيت على هذا الحال ثلاثة ايام وكمامة الأوكسجين لا تفارقني الا حين اتناول الطعام والشراب. بعدها، لاحت علامات الأنتصار لي ولكن في معركة مستمرة، كان فيها كوفيد ينسحب مراقبا فيباغتني أحيانا بضربة اسمع لحظتها صوت زوجتي: (دخيل علي.. وينك ست.. صيحي الطبيب الدكتور انغمى عليه).

في اليوم الرابع جاء طبيبي الدكتور علي البرزنجي .. وبعد قراءته البيانات اليومية لحالتي، ورؤيته الأوكجسين بالتسعين دون كمامة، قال: الآن عبرنا للسبعين بالمية، بس مو معناها انتهت، كوفيد ماكر وحقير.. غدا اذا عبرنا للثمانين نقول هانت، وانشاء الله نعبر.

وجاء الغد، وجاء دكتورعلي.. وبعينين مبتسمتين، قال: اشلونك يابطل. تفحص كل شيء فقال بصوت كله فرح: هسه تمام .. عبرنه الخمسة وثمانين وعليك ان تعرف من كتلك بطل كنت اعنيها لأن قوة مناعتك هي السبب، فقلت متمنيا: هل نعلن الأنتصار؟ فأجاب: أعلنه.. واضاف مازحا.. راح اتصل بدكتور مظفر ليعلنه!

في اليوم الخامس عرض علي أن اغادر غدا ففضلت ان اكملها اسبوعا. وخرجت من المستشفى في 19/11/20.. مودعا بسيت هلهولات من زوجتي، متوجها الى بيتي في اربيل.. ومعي علاجات (كبسول وحبوب) استمرت لأسبوع، اوقف الطبيب بعدها حتى تناول الفيتامينات التي كانت بستة انواع.

كانت معركة قاسية جدا، فاكثر من ثلاثة ماتوا في جناحي مرّت جثامينهم من أمامي.. وكنت انا والموت مثل رياضي على حبل مهتز وتحته هوة عميقة قد اقع فيها في أية لحظة. نعم كنت خائفا منه قدر تعلق الأمر بغريزة البقاء عند الأنسان، لكنني ما كنت مرعوبا، لأنني كنت قبلها كتبت في المدى ثلاثة مقالات عن هذا الوباء الذي باغت العالم جاء في احدها ان وصول خوف المصاب بكورونا الى حالة الرعب يضعف مناعته السيكولوجية وتؤثر سلبا في مناعته البيولوجية.

واكتشفت ان عدم خوفي من الموت يعود الى ما قدمته في حياتي للوطن والناس والعلم والثقافة. فأنا سجنت من اجل الوطن سنتين ونصف.. قضيتها بين سجن البصرة وسجن الحلة حيث كنت مسؤولا عن السجناء، وسجن بغداد المركزي في غرفة (3 في 4 متر) تضم المناضل الشيوعي الكوردي مكرّم الطالباني، صباح مدير الخطوط الجوية العراقية، المقدم عبد النبي قائد فرقة المضليين، صباح خيري شقيق زكي خيري عضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي.. وفيها ضيفت! مظفر النواب قادما من نقرة السلمان للمحاكمة في بغداد يشاركني فراشي. وأسعد أنني رفعت اسم العراق في المحافل العربية والدولية، واسهمت في تخريج عشرات الألآف من حملة البكلوريوس والماجستير والدكتوراه في جامعات عراقية وعربية صاروا اكاديميين ومسؤولين كبار ومثقفين وفنانيين...، واشعت على مدى اربعين سنة الثقافة النفسية والمجتمعية عبر الأذاعة والتلفزيون والصحافة، يكفي منها البرنامج الدرامي (حذار من اليأس).. وهذا هو سبب عدم خوف العلماء والمفكرين من الموت، لأنهم يعرفون انهم باقون بين الناس وان رحلوا!.

امرأة استثنائية

كنا في الأيام العادية نتمازح فتقول لي: منو يحب اكثر ..آني أحبك اكثر لو انت تحبني اكثر؟ فاجيبها: طبعا انت تحبيني أكثر.. الى ان يوم اجرت عملية لأزالة ورم في الرحم.. دخلت صالة العمليات، اوصلتها بيدي الى صديقتنا الدكتورة الماهرة جوان زنكنه زوجة الصديق الطبيب النفسي الدكتور سيروان كامل .قبّلتها على الجبين فلمحت دكتورة جوان انفعالات وجهي فقالت: اطمئن دكتور فأجبتها: أكيد مطمئن لأنها بين يدي بروفيشنل محبّة.

هي اخذت طريقها لصالة العمليات وانا اخذت طريقي لمكان ليس فيه أحد، ولحظة جلست كادت الشهقة تغلبني، وسالت الدموع.. عندها ادركت أنني احبها أكثر!

بعد ساعة ..خرجت دكتورة جوان من صالة العمليات تدفع عربة تستقر فيها حبيبتي بعينين مغمضتين وبوجه غير وجهها الضاحك الجميل.. وضعت جوان العربة بيدي وقالت: تفضل دكتور قاسم.. هاي امانتك بتمام التمام.. صحيح العملية كانت معقدة، بس ناجحة تماما.. انتظر ساعة تفوق من البنج.

استفاقت فقالت لأختها وزوجة اخيها اللتين جاءتا لها من بغداد: وين قاسم؟ اريد قاسم. سمعت صوتها وأنا ادمع في مكان منزوي.. فأسرعت: حمدالله عالسلامة حبيبتي.. قبلتها ومسكت يدي (اشبيها ايدك باردة! ) وما كنت أعرف أن الدم لا يصل اليدين كما ينبغي لمن يعيش حالتي!

ومشكلة حبيبتي.. زوجتي انها من (تقفل..تقفل).فقد تقدم لها زميلها في الدراسة الجامعية، وآخر طبيب حين تخرجت، وثالث.. وقالت: لو قاسم لو ما أتزوج.. (ودكت رجل وتزوجته!..مع انه يكبرها بـ 24 سنة!)

لماذا .. استثنائية؟

ما كانت استثنائيتها في حبها لي، فكثير من الزوجات محبات ومخلصات لأزواجهن، بل بوقفتها معي في معركتي مع كوفيد. فقد بقت معي بغرفتي في جناح المصابين بكورونا، ومنحوها البقاء استثناءا لأنها ترافق في آي بي!، تنام على (الكرويتة) وتسهر معي تتحسس كل حركة منّي، وتدرك انها في خطر لدرجة ان صاحب الصيدلية الذي تشتري منه العلاج، قال لها: (انت مخبلة، اكو واحد عاقل ينام بجناح كورونا) .

كانت معي بدون كمامة فاصيبت بكورونا بالملامسة وصارت تتلقى العلاج دون ان يؤثر ذلك على رعايتها لي.. وحين جاء الدكتور علي البرزنجي مودعا قالت له: دكتور يصير أبوسه!. فالتفت نحوي وقال: أنفخ على أيدي .. فنفخت، فوضعها على وجهه وقال لها: شفتي.. معنى هذا كلشي ما بيه.. وفعلتها.. قبّلتني على خدي أمامه!

*

الحمد لله والشكر له أولا ان منحني فرصة البقاء ليوم عسى فيه ارى الشباب يستردون أجمل وطن.

شكرا لحبيبتي ثانيا، فقد كانت محاربا شجاعا في ساحة معركتي مع كوفيد.

شكرا لدولة رئيس الوزراء الصديق مصطفى الكاظمي الذي اتصل بي هاتفيا، والرئيس مسعود البرزاني ووزراء الثقافة والصحة والتعليم العالي في بغداد ووزير الصحة في اربيل وكل من تمنى لنا الشفاء.

شكرا لفضائية الشرقية التي بثت مانشيتا: (الأوساط العلمية والأكاديمية تتابع باهتمام بالغ رئيس الجمعية النفسية العراقية قاسم حسين صالح الذي اصيب بفيروس كورونا ويرقد حاليا بمستشفى في اربيل)، وشكرا لجريدة الزمان التي تابعت حالتي بمعادل صوري.

شكرا لعشرات الآف المحبين في صفحتي بالفيسبوك وتويتروصفحة الدكتور مظفرقاسم، وصفحات العشرات، بينهم مفكرون وشعراء وفنانون كبار..فبمحتهم هزمنا كورونا.

 

أ. د. قاسم حسين صالح

مؤسس ورئيس الجمعية النفسية العراقية

12 /12 /2020

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم