صحيفة المثقف

خلدته كلماته.. جيفارا لم يمت!

سارة فؤادجيفارا.. التجسيد الحقيقي لصراع الفرد المؤثر أو قوة الجمهور الثائر والمحرك ضد التكوين الشامل للبنية السياسية والظروف الإقتصادية ومصالح النخبة والرأسمالية،تلك الشبكة الكائنة كصورة كلية وعميقة أكثر مما يبدو، وهذا يكفي لإرباك اليمين الممثل في أمريكا واليسار الزائف ذاته وأعني باليسار الزائف الإتحاد السوفيتي آنذاك، ولكن نتوقف أيضاً لملاحظة مقدار سطوة المؤثرات الواقعية والخارجية المحيطة بكل قضية سياسية أمام الإرادة الفردية، لنتسائل هل نصيغ الأحداث والظروف فعلاً؟ هل نحركها ونشكلها، أم تشكلنا هي وتحرك مسارنا تلك الظروف ؟ وهذا ما حدث مع تشي جيفارا. الرجل الذي اعتاد أن يشن هجوماً نقديا لاذعاً وراديكالياً من منطلق ماركسيته النقية والأصيلة لدراسة مبكرة عن مبادئ ماركس وانجلز ضد الرأسمالية والإمبريالية المحيطة والممثلة في الدول العظمى والقوى المسيطرة على دول العالم الثالث النامية والاتحاد السوفييتي ذاته،والذي انتقده بشدة مدهشة لأنه انحرف عن مبادىء الماركسية والإشتراكية فتنبأ له تشي جيفارا بالإنهيار وحلول الرأسمالية في دول العالم من جديد ! وفي هذا المقال أحاول أن أتمسك بنظرة تقوم على تحليلات موضوعية للرمز الثوري الشعبوي جيفارا مع قابلية الشك وكراهة تقديس التابوهات الناتجة عن تداعيات ابتزاز عاطفي بالإستمالة الدعائية المستمرة في سرد الأحداث التاريخية والمغالاة في التحيز له أو ضده. والتي وقع في شراكها الكثير من الكتاب والباحثين المعجبين أو المعادين لفكر جيفارا بمحض عاطفة غير مبررة و نزوع أجوف نحو الإسقاطات الذاتية والشخصنة من جهة المؤلفين. فلا يصح الحكم بإخفاق جيفارا في بوليفيا، أو نقول أنه أخفق في المجمل مثلاً. لمجرد أنه قتل وتعرض للخيانة هناك!

ومن أقرب الأمثلة لنا، رؤية الكاتب الكبير الراحل "محمد حسنين هيكل" التي قدمها من خلال لقاءات وأحاديث جيفارا وعبد الناصر في كتابه "عبد الناصر والعالم" فخلال قراءة الكتاب سوف يلازمك شعور قوي بتحيز هيكل لعبد الناصر انطلاقاً من حبه لصورة الناصر الزعيم مما جعله عن قصد أو غير قصد يخلع صفات الثوري الطائش والفتى الحالم من جهة أخرى على جيفارا ! بل ذهب إلى البعيد أحياناً في بعض التعابير وأوحى لنا أن جيفارا يتحرك من منطلقات كئيبة،من خلال عبارات صاغها على لسان جيفارا، ليوحي بأنه مجرد رجل ذو روح انتحارية متشائمة سوداوية ولديه عقدة المسيطر التائه، ويبدو ذلك جلياً في تدوينة هيكل لسردية الوقائع التاريخية حين أشار عبد الناصر على حد قوله إلى جيفارا بيده نحو المصانع والجمهور قائلاً " لن تجني ذلك إلا إذا شيدت مصانع ومؤسسات للشعب" وكان عبد الناصر يكن محبة واحتراماً للثورة الكوبية وجيفارا، ورغم ذلك عبر هيكل عن تحذير عبد الناصر لجيفارا من الذهاب إلى "الكونغو كينشاشا" ١٩٦٥، وكان قد مر بها قبل الذهاب إلى"بوليفيا" حيث فوجئ بعدم وجود قاعدة ثورية و قتل هناك بأمر من زعيم بوليفيا الذي تلقى اتصالاً من الاستخبارات الأمريكية المركزية فتم إعدامه بمعاونة القوات البوليفية، بينما كان يحذره" عبد الناصر" مع اقتراب اللقاء الأخير بينهما قائلاً: بحسب كتاب هيكل "أن خوض ثورة سيُفسر على أنها نوع من التدخل في إرادة السكان والأهالي الأصليين محذراً إياه، فرد عليه جيفارا" سأقرر أين سأعثر على مكان أكافح فيه من أجل الثورة العالمية، وأقبل تحدي الموت "فسأله عبد الناصر" ولماذا تتحدث دائماً عن الموت؟ إنك شاب! علينا أن نموت من أجل الثورة إن كان ذلك ضرورياً، ولكن من الأفضل بكثير أن نعيش لأجلها" أما هيكل فيأتي ليختتم بعبارة ضيقة ومدججة بالأحكام المقتضبة فيقول" أخفق جيفارا.. ثم تعرض للخيانة ومات " وينوه في النهاية عن شجاعة جيفارا أثناء استقبال الموت تنويهاً قصيراً ويقول" ذهب جيفارا " وللحقيقة لم يهمل هيكل أبداً خلْع شعوره الذاتي ناحية جيفارا، بالإنتقاص من إنجازاته خلال سرد الأحداث مسترسلاً بقليل من الجور المُكلَل بهذا الحكم على الثورة الكوبية! دون تكلف عبء إشارة عابرة إلى الثورة الكوبية ودور جيفارا في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، متناسياً أيضاً كلماته ومخطوطات جيفارا العابرة للأزمنة وللمكان،فتلك الكلمات ربما كان ينبغي لها أن توضع في الحسبان بجوار إسقاط هيكل الشخصي في كلمته "أخفق جيفارا " ولم يتذكر أيضا رؤى جيفارا التي أصابت في كثير من الأمور مثل مخطوطات نقده "الدليل السوفيتي" والتي اختفت لخمسة عقود، مما يدلل على قطع تشي الشوط التحرري الأعنف في تحطيم الحصار العقلي السائد حتى وإن كان هذا الحصار شيوعياً، وهذا ما تحلى به جيفارا في خصاله فعلاً.. التمرد اليقظ!،  ونجح هيكل في إظهار الناصر بمظهر الحكيم ذو النظرة الثاقبة بجوهر الكتاب التاريخي بينما أظهر جيفارا إلى جواره بمظهر الفتى المقبل على الإنتحار والتشاؤم ذو الطموحات التوسعية إلى درجة كادت تجعل من جيفارا رجلاً لا يناهض رغبات الإمبريالية والإستعمار والعنف والهيمنة وحسب، بل يتحلى بكل تلك الصفات التي يحاربها ويكرهها ويمقتها أيضاً!! وفعلاً قد أوغل هيكل خلال القطعة الناصرية الجيفارية بإصرار متأفف في ذلك الحكم الذي يخصه، مما يجعلنا نتوقف لنتسائل، من أين أتت الأحكام العشوائية الجائرة حقاً في المطلق؟ وهل لنا أن نحكم على جيفارا وكفاحه وما حققه ببساطة عبر اختبار الكلمات الفردية السهلة "أخفق" دون دراسة واعية علمية بعيدة عن المغالاة وعن التيار العاطفي السائد، وليس إرضاءاً لبعض السياسيين كما فعل هيكل ليشبع الناصر ازدهارا ولمعاناً وبالمقابل يشبع جيفارا تنكيلاً ؟!  لكن يجدر بنا أيضا الإشارة إلى العلاقة الجيدة التي كانت على أرض الواقع بين الرجلين وتبادل الإحترام للإنجازات فكان جيفارا معجباً بثورة٢٣ يوليو ١٩٥٢ بمصر، وأعجب الناصر بكفاح جيفارا العالمي ونجاح الثورة الكوبية والحركات التحررية وقد يكون نصحه بالفعل كي يدفعه للعزوف عن الذهاب إلى "الكونغو" ..!

أود الإشارة إلى خطورة التلاعب بالتقنيات الكتابية لصياغة الفوارق المعنوية والتضليل في التعبير المحكي والنقلي للمواقف والأحداث.. علينا الإنتباه إلى تلك الشعرة الرفيعة بين تأليف التاريخ ونقله، حيث أن انعدام الرجاحة الموضوعية قد يصدِّر للقارئ بعضَ الأفكار المشبعة بذاتية المؤلف ويحاصر عقل المتلقي كفعل الساحر  بخفة اليد والخداع البصري ! ولكي أتجنب الوقوع في فخ اللاحياد واختفاء الإنصاف، والذي يهوى بعض براعم وكبار الكتاب الوقوع فيه بأريحية وثقة وتصميم فولاذي ؛ لن أتبع الهوى قدر الإمكان !

وسأعرض هنا نماذجاً عن الجوانب المختلفة التي شكلت الإتجاهات الفكرية لجيفارا؛ ونشأته التي كان لها الأثر في حبه لخوض الثورات كما ولدت بداخله رغبة الكفاح العالمي. وقبل ذلك دعنا نوقف الولع بالأغنيات الجيفارية العاطفية، ونلقي نظرة حرة على كامل الإتهامات التي لاحقت جيفارا من وحي نقديات هامة لبعض كتاب يعيشون في أنحاء العالم..

* الثورة والديمقراطية :

* ومن أهم تلك الإتهامات المحللِة لجيفارا، اتسام شخصيته بغريزة الدفاع العاطفي نحو الفقراء والكادحين والشجاعة المتهورة غير المحسوبة. لذا لم يكن جيفارا ديمقراطياً

*غياب الرؤية والخطط السياسية وفقد التصورات للسلطة الشعبية، والتي كادت تمكنه من تكوين مجموعات عمالية لو اهتم قليلاً بمتابعتها، لتشكيل قوى واضحة متمرسة في الحكم ومكونة من الفئات التي ظل يدافع عنها من المضطهدين والكادحين مثل العمال، والسود، والنساء، ويشاع عنه أنه لم يدفعهم فعلاً للمساهمة في الحراك السياسي. وأدلى مؤخرا في هذا الشأن رئيس البرازيل بولسونارو اليميني المتطرف بتصريح قائلاً : جيفارا لا يلهم سوى المهمشين ومدمنى المخدرات وحثالة اليسار

* كما ذكر بعض رفاق جيفارا ميله للعنف المتطرف وأنه لم يرحم المعتقلين، أن نصير الفقراء كان قاسياً متطرفاً بدوره عديم الرحمة ولم يتورع عن قتل الفقراء والبسطاء أنفسهم أحياناً؛ لمجرد اشتباه بتهمة مناهضة ومحاولة إجهاض الثورة. وخلال منصبه بالإشراف على محاكم المعتقلات العسكرية والنظر في الطعون لجرائم حرب،  كان ينفذ الأحكام بلا هوادة حتى وإن تأكد من براءة المدانين ليقتلهم بدم بارد، فقيل أنه تورط في قتل ٥٠٠ شخصاً، وقتل مائة بيده، ويُحكى أن امرأة من أهل سجين في قضية خيانة، جثت على قدميها متوسلة إليه بعدم إطلاقه النار أو تنفيذ الحكم عليه وقدمت ملف براءة السجين، ولكنه لم يعبأ لذلك وأطلق عليه النار، فكان يقتل قائلاً للسجناء :أن مجرد ارتداء البدلة الزرقاء للسجن، سبب يكفي لتنفيذ الإعدام! فالقتل لدى جيفارا البطل المشفق على الفقراء كان لعبة يلعبها بدم بارد ! كما قيل على لسان أحد رفاق جيفارا الثوريين في تحقيق مطول بمجلة "الإكسبريس " الفرنسية عام ٢٠٠٩ بعنوان "تحقيق واعترافات حول جرائم التشي جيفارا " وقد أحدث ضجة إعلامية وعالمية، وذكر عدة شهادات لرفاق درب جيفارا وأناس قد وجدوا وثائق رسمية خطيرة فنشروها على الملأ وللعالم وهربوا بعيدا عن عيون كاسترو.. وقال جيفارا في مذكراته :“إن شكليات المحاكمات تفاصيل برجوازية تافهة لا ينبغي الالتفات إليها، فتلك ثورة، ولذلك يجب على الثوار أن يكونوا آلات قتل باردة..! ”

* رغم مناهضة جيفارا للهيمنة، وصفه البعض بتلك السمة؛ سمة الهيمنة بسبب محاولاته في القضاء الكامل على تنافسية الرأسمالية، واُتهم أنه يطمح بدوره للسطوة  على الحياة الإقتصادية. وأنه لم ينجح في الجمع بين سياسات الثورة في كوبا وصياغتها في هيئة الديمقراطية والإشتراكية الفعلية . ومن كوبا هناك من يصف كاسترو زعيمهم وزعيم الثورة الكوبية ورفيق جيفارا بالبطل الذي حررهم أو بالديكتاتور .. وتروي بعض الحكايات بالمناسبة أن كاسترو تعمد إرسال جيفارا إلى بوليفيا ليلقى حتفه وامتنع عن إعطاء الأوامر لإنقاذه هناك، فلم يكن الفلاحون البوليفيون يحتاجون إلى ثورة كون أن معظمهم أصبح ملاكاً للأراضي بتعديلات زراعية حصلوا عليها حديثاً وحين ذهب جيفارا لم يجد قاعدة ثورية تسعفه هناك، وقيل أنهم استنجدوا _جيفارا ورفاقه_ برسائل إلى كاستروا ولم يأتهم الرد مما زاد الوضع عزلة وسوءا، حتى اعتقل جيفارا لمدة يومين، ثم قتل على يد جندي بوليفي متردد بأمر من زعيمهم مع حضور الاستخبارات الأمريكية خلف المشهد الدامي،قتل جيفارا رميا بالرصاص وقيل أنه كان يعلم بالخيانة، وقد كان في إمكان كاسترو إرسال إمدادات عسكرية  لمساندة جيفارا والجنود في بوليفيا ولكنه تركه يواجه حتفه.

* الظروف السياسية والمصالح الإقتصادية، هل صاغت مصير جيفارا وزلزلته؟ أم صاغها وزلزلها هو؟! ومن ينتصر؟!

وللإقتراب من الإجابة على ذلك، يجب وضع المقاربات العملية من واقع نشأة جيفارا وعوامل وعيه المبكر ومسلكه السياسي وقضاياه الثورية ونهايته إلى جوار الإتهامات السابقة..

* نشأة جيفارا المبكرة ومسارات الوعي..

ولد إرنستو تشي جيفارا بالأرجنتين - روساريو ١٤ يونيو ١٩٢٨ في بيت ماركسي، لأم وأب من عائلة أرستقراطية هبطت إلى الطبقة المتوسطة وعايشتها بسبب أزمات مادية مرت بها أسرته، كان الأب والأم متحررين من قولبة العادات الجامدة ومنقلبين عليها، فتزوجا رغماً عن أنف عائلتيهما وتمردا على طقوس العرس السائدة بهذا الوقت، وكان الأب منفتحا نشيطاً يتسم بالخفة مثقف،والأم مثقفة ماركسية محبة للقراءة والمطالعة ذات إرادة صلبة، كانت امرأة حرة ماركسية وكانت مقدامة، فكبر جيفارا متأثرا بأفكار بيته الشيوعي وأعجب بأفكار" ماو تسي". بيت أسرته ضم مكتبة رائعة للكتب العديدة مما جعله ينشأ محباً للفلسفة وعلم النفس والإجتماع وعلم الإقتصاد والتاريخ والأدب، ومما زرع في جيفارا خصالاً إبداعية ونهماً جائعاً لقراءة متلاحقة وكان لا يشبع، فكانت إحدى عاداته في القراءة تحضير مسودة بأسماء عشرات العناوين للكتب والمؤلفات التي ينوي قراءتها وكان يقرأ في أماكن وعرة يصعب تصديقها، فقرأ مبادئ الماركسية واعتنقها خاصة ماركسية ستالين دون خلفية لينين الماركسية، قال :" لقد أتيت إلى الشيوعية بسبب ستالين" مما شكل لديه تراث الديمقراطية الماركسية للتنوير الراديكالي تحت ظلال الستالينية.. ودرس الطب في جامعة بوينس آيرس التي غادرها في العام ١٩٥١ ليذهب في جوله حول العالم ثم عاد إلى كليته في العام التالي، وأصبح جيفارا مع مرور الوقت الطبيب والكاتب والزعيم الثوري وقائد حرب العصابات إلى جانب تقلده العديد من المناصب فقد أصبح أيضاً رئيساً للقوات المسلحة التنفيذية ورئيس البنك الوطني وقائماً على المحاكم العسكرية لإعادة النظر في الطعون، وكتب  في حياته كتابه "حرب العصابات" وكتيب يحوي سيرته الذاتية بعنوان "مذكرات شاب على دراجة نارية" .. وساعده تنقل عائلته كثيرة الأسفار على استشعار جمال الحرية والطبيعة النقية واستنشاق هواء الغابات، فقد كان يعاني من داء الربو؛ الداء الذي علمه الصبر والمقاومة منذ كان رضيعاً، فتعود أن يصارع المرض في نوبات قاتلة ويقال أن أولى الكلمات التي نطق بها "بابا. إبره" طلباً للدواء الذي يريحه ويخلصه من نوبة اختناق قاتلة ليلتقط أنفاسه،جيفارا الذي رافقه شبح الموت منذ نعومة أظافره، فتعلم الشجاعه. تعلم ألا يخشاه ؛بل أيضاً كيف يشاغبه ويقاومه بصبر وثقة مدهشين .

* الكفاح العالمي هو الحل الوحيد

نعلم أن الشعلة الأولى في قلب الثائر جيفارا والتي رسمت منظومته الفكرية، قد أضاءت حين طلب إجازة من كلية الطب لينطلق مع صديقه ألبيرتو غرانادو إلى رحلة حول العالم على دراجة بخارية والذي كتب عنها أيضا جرانادو في مؤلف بعنوان "السفر مع جيفارا"، أما جيفارا يكتشف خلال رحلته صورة كلية عن وضع الفلاحين البسطاء وحال المواطنين الفقراء تحت وطأة استغلال الرأسمالية والبرجوازية ويدرك أن الثورة الحقيقية ستندلع من الجبال والقرى والأرياف حيث يعيش الفقراء والأكثر عرضة للمعاناة من الجهل والمرض والتهميش، حتى تصل الثورة إلى المدن،ويتوصل باليقين إلى أن الحل الوحيد يكمن في كفاح عالمي للعمال والكادحين مما رسم الخطوط الرئيسية لاستراتيجية جيفارا وأرائه .. فاندفع للمشاركة في الإصلاحات الإجتماعية التي ساعدت آنذاك الإستخبارات الأمريكية للإطاحة بجاكوبو اربينز وساعده ليفهم الكثير، ثم انتقل إلى المكسيك حيث صادف راؤول كاستروا ورفاقه والذين انتظروا خروج فيدل كاسترو من سجن كوبا وكانوا يجهزون للثورة، لتبدأ حركة ٢٦ يوليو التي غزت كوبا على متن غرانما، وشارك بها لدى حاجتهم إلى طبيب للجنود  والتي استمرت عامين حتى نجحت الحملة الكوبية في الإطاحة ب باتيستا الديكتاتور الذي عينته المخابرات الأمريكيه، وأثبت جيفارا جهده فارتقى ليصبح الرجل الثاني وأخذ لقب كوماندانتي ودعم الحركات التحررية في الجزائر وفيتنام وتشيلي والسلفادور، كما ارتقى في المناصب بالحكومة الكوبية ليتابع المحاكمات وينظر في الطعون و يتقلد منصب مدير البنك الوطني ورئيس القوات المسلحة التنفيذية ووضع أسس الإصلاح الزراعي حين عُين وزيراً للصناعة، تلك المسيرة في السلطة كانت لشجاعته المدهشة وإخلاصه للثورة..

* إنجازات تشي الإصلاحية في أمريكا اللاتينية:

قام تشي بتأميم المصالح الحكومية الكوبية وأنشأ المصانع وشجع تنويع المصادر الزراعية والخامات وقام بدعم عمال المناجم والمزارعين وتمويل المشاريع،كما أنه منع أمريكا من التدخل في الشأن الداخلي الكوبي مما جعل أمريكا ترسم دوائر عديدة حول الثائر والزعيم تشي جيفارا  وتفرض حصارها الإقتصادي على كوبا، كما أنه رفض القروض الروسية للحكومة الكوبية. ورسخ استراتيجية مؤقتة لقانون القيمة، اعتبر السلعة أساس النظام الإنتاجي وانتقد اعتماد معايير السوق في العلاقات الإقتصادية بين الإشتراكيين، وناهض مميزات أصحاب الشركات والمدراء وأسس لذاتية التفكير وانتقد المحاكاة..

* معاداة الإتحاد السوفيتي واستفزاز جيفارا لكاسترو

انتقد الاتحاد السوفيتي، انتقد النمط والتجربة في مخطوطة "الدليل السوفيتي" أمام الأمم المتحدة نقداً قاسياً صارماً، يتهمه بالتورط ضمنياً مع مصالح أمريكا الإمبريالية والانحراف عن ماركس وسيطرة رأس المال وتنبأ لهم بتصريح صارخ الوضوح بالإنهيار التام وعودة الرأسمالية إلى البلاد. وتحدث عن دور قانون القيمة واعتبره مرحلة مؤقتة في التحول الإشتراكي، ورفض استبدال تنوع المحاصيل بسلعة واحدة نقدية  ربحية مثل قصب السكر الذي يُصدر مقابل سلعة أخرى من الاتحاد السوفيتي، وتصدير المتبقي إلى الخارج للربح، بل رسخ لتنويع المحاصيل والإصلاح الزراعي ورفض أن تكون المادة الربحية هي التي تتحكم في الأفراد، بل الفرد يتحكم في المادة! واهتم بالجانب الإنساني فقد لاحظ  غيبوبة استفزاز الجوع المستمر والعقاب مما يدفع الأب مثلاً لعدم الحزن بفقدان ابنه، فحاول الإعلاء من قيمة الإنسان وعمله وناضل بعنف ..

 غضب كاسترو من مهاجمة جيفارا الاتحاد السوفيتي ودفعه ذلك لاستبعاده وربما لخيانته، فلقد افسد تشي النية لعقد مصالح مع الكرملين، وهناك شك أن يكون تعمد الخلاص منه لأن تصريحاته أصبحت تعادي الاتحاد السوفيتي وتعادي مصالح كاسترو شخصياً . ولكن بُعد نظر جيفارا كرس للبحث عن حلول لإشكاليات البناء الاشتراكي وكسر الجمود العقائدي والتبعية للنمط..

* معاداة أمريكا..

كان لا يتورع عن قول رأيه بصراحة والتزام شيوعي وشجاعة وصرامة وبالتأكيد كان الخلاص من باتيستا وإفساد خطط أمريكية بالثورة الكوبية التي تعد جيفارا رمزها الفعال ونشر ماركسية جيفارا وأفكاره للكادحين في أمريكا اللاتينيه يزعج رؤساء الأمريكان ، فأشاعوا بأن جيفارا يقتل الأسرى الفقراء أنفسهم ولا يفرق، لكن الماركسية ليست عقيدة أخلاقية أو إنسانية بل هي نظام اقتصادي وسياسي ومنظومة فكرية ولا يبرر ذلك بالطبع جرائم الحرب والقتل إن وقعت.. ولكن كان جيفارا إنسانيا في عقيدته الشيوعية، واتهم أمريكا بأنها لا تبالي حقا بالإصلاحات الزراعية وتعمل على مشاريع واهية..

* خيانة وقتل؛ ثم إخفاء جثة جيفارا وبتر يديه!

بلغ الخوف من تقدم جيفارا في مسيرته إلى حدود التخطيط للخلاص منه، فاعتُقل تشي وقُتل رفاقه وتخلى عنه كاسترو ولم يبعث كتيبة عسكرية لنجدته في بوليفيا، وبأوامر هاتفية لضابط كان متردداً في قتله، أطلق النار إلى أعلى جسده وأسفل خصره، فقد أتت تلك الأوامر بمنع إصابة الرأس والقلب ليتعذب في احتضاره إلى أن جاء ضابط أطلق على جانب رأسه الأيمن الرصاص وهو تحت تأثير السُكْر. وتم إخفاء الجثة وبتر اليدين للتأكد من البصمات، ولا أحد يعلم أين مدفن تشي جيفارا منذ خمسة عقود إلى يومنا هذا، فقد كان الهدف الرئيسي من إخفاء جثة جيفارا هو إخفاء فكر جيفارا، هو الخوف من بقاء ذكراه وأفكاره ومسيرته في قلوب الناس والهلع من تعرف الأجيال الجديدة على ما حلم جيفارا ببلوغه وإنجازه، كان مرعباً للجميع بالتأكيد، وكان أعلى الأصوات للعمال والمتعبين الفقراء، وفي محاولات تعتيم ومحو فاشلة لسيرته سرب مصوره صورة له وسلم إيمانول أرتيجا بعض الصور أيضا، ولجيفارا صورة أصبحت أشهر الصور المؤثرة في العالم.. وأضحى اسم تشي جيفارا ضمن أكثر مائة شخصية مؤثرة في القرن العشرين في مجلة التايم، برغم محاولات التشويه الكليه لسيرة جيفارا بتحويل صورته الرمزية إلى علامة تجارية على البضائع التجارية وتعقيباً على ذلك قال شقيق جيفارا لإحدى الصحف الإسبانية "الموندو" واسمه خوان مارتن :أن أمريكا وراء الكسب التجاري من ذلك بهدف تشويه سيرة نضال الكادحين وهدم رمزية تشي جيفارا والتشكيك فيه، وأردف "أصبح العالم فظيعاً بعد تشي جيفارا، واتسعت الهوة بين الفقراء والأغنياء، يتعين على الكادحين معاودة الكفاح والنضال لأجل انتزاع حقوقهم"

ولي رأي لا أفرضه على أحد،

أن جيفارا لم يمت.. بل خلده الموت أكثر  !

 وأضحى اختفاء جثته من يومها محض احتفاء بجيفارا، فلطالما ظلت كلماته تناضل عنه، خلال حياته وبعدها  !

 

سارة فؤاد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم